الفنون المسرحية و الموسيقى kHaLeD aHmad aLsAyEd
نتمنى لكم المتعة والفائدة

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

الفنون المسرحية و الموسيقى kHaLeD aHmad aLsAyEd
نتمنى لكم المتعة والفائدة
الفنون المسرحية و الموسيقى kHaLeD aHmad aLsAyEd
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
بحـث
 
 

نتائج البحث
 


Rechercher بحث متقدم

المواضيع الأخيرة
» لمحبي فن المسرح الجميل صدر اخيرا مسرحية " انا ارهابي "
النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات  Emptyالسبت نوفمبر 30, 2013 5:57 am من طرف ايمن حسانين

» لقاء تليفزيونى للكاتب المسرحى / ايمن حسانين
النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات  Emptyالإثنين نوفمبر 04, 2013 3:20 am من طرف ايمن حسانين

» أحلى عيد لأغلى مموشة
النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات  Emptyالأحد ديسمبر 09, 2012 8:30 am من طرف FOX

» احترت في هذا العيد هل أعلن فرحي للمعايدة أم أعلن الحداد ؟!
النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات  Emptyالإثنين نوفمبر 07, 2011 10:15 am من طرف NoUr kasem

» محمود درويش . . تكبر تكبر
النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات  Emptyالخميس أكتوبر 27, 2011 8:56 am من طرف NoUr kasem

» المخلـــــــــــــــــــــص
النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات  Emptyالأحد أكتوبر 23, 2011 7:11 am من طرف NoUr kasem

» عيوني هي التي قالت : وما دخلي أنا
النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات  Emptyالجمعة أكتوبر 21, 2011 1:37 pm من طرف sanshi

» سيمفونية سقوط المطر
النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات  Emptyالجمعة أكتوبر 21, 2011 8:42 am من طرف NoUr kasem

» مسلسل "أوراق مدير مدرسة" يعرض مشاكل الطلاب والأساتذة وصعوبات التدريس الحديث
النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات  Emptyالجمعة أكتوبر 21, 2011 7:46 am من طرف NoUr kasem

التبادل الاعلاني
احداث منتدى مجاني

النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات

اذهب الى الأسفل

النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات  Empty النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات

مُساهمة  NoUr kasem الأحد يوليو 18, 2010 7:56 pm

النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات

تتكرر في العديد من التجارب لا سيما التجارب المسرحية العربية مجموعة من
الاشكاليات التي تفضي إلى مصطلح ومفهوم «الأزمة» وتحال الاخفاقات وصور التقليد
والمحاكاة وقلة التجديد والابتكار إلى أزمة في النص المسرحي .. قبل ان تكون
أزمة ممثل أو مخرج أو إنتاج أو غير ذلك.
ولذا تبرز الحاجة إلى كتابة نصوص فيها طابع التجديد والاختلاف ويقع ذلك كله في
سياق الانطلاق من المهارات الأساسية في كتابة المسرحية وهو ما يعنى به بشكل
أساسي هذا الكتاب الذي نحن بصدد عرضه الآن، حيث يؤكد المترجم بأن الفرق
المسرحية المحلية لا تشكو من شيء كما تشكو من عدم وجود المسرحية الناجحة أو
المؤلف المسرحي الذي يعتمد عليه.. المؤلف الذي يكتب مسرحيته وهو يعرف القواعد
الأساسية التي يجب ان تتوافر في المسرحية لتصيب ما هي جديرة به من نجاح، ويضيف
بأن التأليف المسرحي فن من الفنون التي لها قواعدها العامة الثابتة وخطوطها
الأساسية التي يجب ان تتوافر كلها في المسرحية.
لقد أصبح التأليف للمسرح علماً من العلوم منذ عهد أرسطو بل هو كان علماً غير
مكتوب وكان حاسة سادسة عن اسخيلوس وسوفوكليس وغيرهما من أساطين الكتاب
المسرحيين اليونانيين، وكذلك الأمر لدى حشد من كبار الكتاب المسرحيين الانجليز
والفرنسيين والروس وغيرهم ممن يستشهد المؤلف بأسمائهم في مقدمته.
يتألف الكتاب من أربعة أبواب مع مقدمة وخاتمة، ونستطيع ان نكثف تلك الأبواب
بمحاور أساسية أولها الفكرة الأساسية أو المقدمة المنطقية للنص المسرحي أو
القصصي عموماً، والمحور الثاني مخصص للشخصية المسرحية وبنائها وخواصها
وأبعادها. أما المحور الثالث فهو مخصص للصراع وهو روح العمل الدرامي وعموده
الفقري والذي بدونه يتهشم ذلك البناء. وأما المحور الأخير فينحصر في سلسلة من
المعطيات التي تكمل دراسة العمل المسرحي في كونه نصاً ذو خواص بنائية محددة.
يذهب المؤلف في الباب الأول إلى ان الكاتب المسرحي مطالب باعداد فكرته الأساسية
التي تقوم عليها مسرحيته بشكل جيد، وهو يسمي تلك الفكرة بالمقدمة المنطقية
للمسرحية وهي المقدمة التي يهدف كل شيء في المسرحية من فعل أو قول أو حركة إلى
اثبات صحتها، ولهذا لابد ان تكون فكرة المسرحية واضحة وان تشتمل على عناصر
الصراع اللازمة وعوامل الحركة.
ويعرض المؤلف للمقدمات المنطقية لمسرحيات شكسبير: عطيل، الملك لير، روميو
وجولييت، وغيرها، وفي واقع الأمر انه يتحدث بشكل أساسي عن فكرة المسرحية وطرحها
بشكل موجز مكثف دال على بضعة سطور أو بضعة جمل. ويتطلب الأمر فكرة المسرحية وان
تكون فكرة واحدة وليس فكرتين وإلا فشلت المسرحية وأربك الكاتب نفسه وأربك
المخرج والممثلين والمتفرجين على السواء. والفكرة غير الواضحة تجعل المسرحية
غير ذات موضوع ولذا تكون المسرحية غير ذات قيمة.
ويحشد المؤلف عدداً غير قليل من الأمثلة التطبيقية التي تثبت توصياته وآرائه
النقدية وآرائه التعليمية فيما يتعلق ببناء النص المسرحي، فهو يسوق أمثلة من
العديد من النصوص المسرحية لكبار المؤلفين ولأهم التجارب المسرحية.
وينتقل المؤلف إلى الباب الثاني المخصص للشخصية المسرحية وهي أهم عناصر العمل
المسرحي بالنسبة للمؤلف وهو في ذلك يخالف أرسطو ومعظم الذين كتبوا عن أصول
التأليف المسرحي ومعظم من تعرضوا له بالنقد أو التحليل وهو يثبت ان كل شيء في
المسرحية الشخصية مصدره.
ويحدد المؤلف ثلاثة أبعاد للشخصية يسمي كل بعد منها (كيانا)، وهي: الكيان
الجسماني، ويتمثل في جنس الشخصية والسن والطول والوزن ولون الشعر والقامة
والمظهر والصفات الوراثية الظاهرة. أما البعد الثاني فهو الكيان الاجتماعي
ويقوم على الطبقة الاجتماعية ونوع العمل والتعليم والحياة المنزلية والدين
والنشاط السياسي والهوايات والقراءات والعادات وغيرها. أما الكيان النفسي فهو
عند المؤلف ثمرة للكيانين الآخرين ويتعلق بالميول والأمزجة والدوافع والحاجات
والرغبات والمحصلات العقلية.
ان هذه التفصيلات تؤثر تأثيراً عميقاً في الشخصية وهي التي توجه التصرف وهي
التي تُحدث الفعل وهذا عكس ما ذهب إليه أرسطو عندما جعل العقدة تحتل المقام
الأول من المسرحية وجعل الأخلاق ـ أي الشخصية ـ في المقام الثاني. وان تطبيق
هذا المفهوم يثبت لنا ان عقدة المسرحية وكل ما فيها من فعل هو أثر من آثار هذه
الأبعاد الثلاثة التي تتكون منها الشخصية مجتمعة، ولذا يوجب المؤلف على الكاتب
المسرحي ان يدرس شخصيات مسرحيته دراسة تشبه المعاشرة وطول الصحبة وان يرسمهم
رسماً يشمل هذه الأبعاد كلها.
إن مسرحيات شكسبير مثلا مبنية على الشخصيات ومن هذه المسرحيات «ماكبث» و«الملك
لير» و«عطيل» وغيرها. ومسرحيات البسن كلها كذلك بل مسرحيات العباقرة من كتاب
المسرح اليوناني.
إنها مسرحيات تدور حول الشخصية وتنبع منها بكل ما فيها من أحداث. ويركز المؤلف
على نمو الشخصية المسرحية لان من طبيعة الأشياء أن تنمو وأن تتطور وتتجدد.. وان
قوة الإرادة في الشخصية من أهم العوامل التي تكون مبعثا للصراع فيها ولا بد في
كل مسرحية من وجود شخصية محورية تكون هي البطل الأول في مقابل شخصية معاكسة هي
الخصم أو المعارض وبدون هاتين الشخصيتين لا يمكن ان توجد مسرحية لانه لا يمكن
ان يوجد ما يدفع المسرحية إلى الأمام أو ما يثير الصراع فيها.
ومما يجب أن يعنى به الكاتب أيضا ان يقيم بين شخصياته المتضادة وحدة يسميها
المؤلف بـ (وحدة الأضداد) ويعني بها تلك الرابطة التي تجمع بين النقيضين إلى أن
يقضي أحدهما على الآخر والمعركة هي الوحدة التي تجمع بينهما.
وينتقل المؤلف إلى موضوع الصراع الذي يعد روح العمل المسرحي والصراع يصدر عن
الفعل أي الموضوع الممثل والأفعال كلها هي نتائج لأسباب هي التي تحركها ويقسم
المؤلف الصراع إلى أربعة أنواع رئيسية هي الصراع الساكن والصراع الواثب والصراع
الصاعد الذي يتميز بحركة مستمرة متدرجة والصراع الذي يدل على الأحداث المنتظرة.
ويشكل الصراع الساكن والصراع الواثب أو القافز أردأ أنواع الصراع في العمل
المسرحي رغم ان النوع الأول (الساكن) قد يتمثل في أداء رائع في النص المسرحي
لكن لا يحسنه إلا كتاب كبار.. وخير من يمثل ذلك الكاتب الروسي الشهير انطوان
تشيخوف.
أما أفضل أنواع الصراع فهو الصراع الصاعد الذي ما ينفك أن يشتد ويقوى وينمو من
أول المسرحية إلى آخرها. وعندما يتساوى الخصوم في المسرحية من حيث القوة
والتأثير كان ذلك من أفضل أشكال الصراع لانه ناشب بين أكفاء متساوين في تمسكهم
بمصلحتهم المعرضة للخطر. والصراع الصحيح يتكون في ظاهره من قوتين متعارضتين وفي
باطنه تكون كل من هاتين القوتين نتيجة ظروف معقدة متشابكة في تسلسل زمني
متتابع. ومن أهم مراحل الصراع في المسرحية تلك التي تبدأ بـ (نقطة الهجوم) وهي
تلك النقطة التي يكون فيها كل شيء حيوي هام معرضا للخطر فنقطة الهجوم في مسرحية
أوديب مثلا تتمثل في النقطة التي يصدر فيها أوديب قراره بالبحث عن قتلة الملك
لايوس ونقطة الهجوم في مكبث تبدأ بعد أن يستمع مكبث إلى الساحرات لان نقطة
التحول في حياته تبدأ بعد هذا مباشرة. ومن أهم ظواهر الصراع المسرحي ظاهرة
«الانتقال» أي التحول من حال إلى حال ومن موقف إلى موقف وهي من مهارات الكاتب
الجيد ومن اخفاقات الكاتب المبتدئ. ومن أركان المسرحية الوصول بالصراع إلى أزمة
لا تزال تشتد حتى تبلغ الذروة ثم الوصول بهذا كله إلى نتيجة محتومة هي القرار
أو ما يسمى بالحل.
وينتقل المؤلف إلى الحوار الذي يعده أداة رئيسية يبرهن بها الكاتب على مقدمته
المنطقية ويكشف بها عن شخصياته ويمضي بها إلى الصراع. ولا يتحقق الحوار الجيد
ما لم يكن صادرا عن الشخصية التي تستعمله معبرا عنها وعن تركيبها وأفكارها وما
دام الحوار ينمو من الشخصية ومن الصراع ويكشف لنا عن الشخصية ويحمل الفعل أي
يقوم بأداء الموضوع وشرحه فواجب الكاتب أن يقتصد في استعمال الكلمات ولا يأتي
منها إلا بالضروري وأن تتكلم الشخصية بما يتناسب مع البيئة التي تعيش فيها.
ويجب أن تتماسك جُمل الحوار وأن يشد بعضها بعضا لتنقل للمتفرجين ايقاع كل مشهد
ومعناه بالصوت والشعور في آنٍ واحد.
وفي محور آخر يعرض المؤلف لدخول الشخصيات وخروجها أي تقديمها إلى الجمهور وهو
يؤكد بأن الكاتب إذا عرف كيف يرسم شخصياته وأجاد تنسيقها وحافظ فيها على (وحدة
الأضداد) فإن كل ذلك سيسهل عملية دخول الشخصيات وخروجها ويُبعد المؤلف عن
الافتعال الذي يقع فيه بعض المؤلفين في تقديم الشخصيات عن طريق حجج واهية.
ويناقش المؤلف بعد ذلك الفرق الملحوظ بين المسرحية الجدية المؤثرة وذات البناء
السليم وبين الميلودراما ويقول ان الانتقال في الميلودراما هو انتقال خاطئ
غالبا والصراع مبالغ فيه وتحرك الشخصيات مفتعل وهو يرد ذلك إلى ان الشخصيات لا
تبدو إلا في أحد أبعادها الثلاثة.
ويختتم المؤلف كتابه بكلمة: «لكي تكون كاتبا مسرحيا فيجب أن تكون شخصا ذا خيال
وادراك ويجب أن تلم بعلم النفس وأعضاء جسم الإنسان والاجتماع فإذا لم تتعلم
منها شيئا فلن تكون يوما ما كاتبا مسرحيا ناجحا».. بهذه الكلمات يختم المؤلف
تجربته ووصاياه في كتاب من الكتب التعليمية القيمة والمتميزة تعززها حماسة
المترجم وجهده الواضح في تقديم هذه الترجمة الرصينة للكتاب
NoUr kasem
NoUr kasem
مساعد المدير
مساعد المدير

عدد المساهمات : 1954
تاريخ التسجيل : 08/09/2009
العمر : 37
الموقع : دمشق . . فلسطينية الأصل

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات  Empty رد: النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات

مُساهمة  NoUr kasem الأحد يوليو 18, 2010 8:00 pm

النص المسرحي
الكلمة والفعل
دراســــــــــــة

الكتاب من تأليف فرحان بلبل

تبدو الأوساط المسرحية في العالم اليوم وكأن فعاليتها تناصب (النصَّ المسرحي) العداءَ رغم ما تحفل به خشباتها من جماليات متقدمة في أدوات العروض المسرحية تبهر البصر دون البصيرة. وإذا كان لا بد من وجود (كلام) في العرض المسرحي، فقد اعتمدت هذه الأوساط على (مادة نصية) لا على (نص مسرحي) كان عمادَ النشاط المسرحي منذ أقدم العصور حتى الهزيع الأخير من القرن العشرين. فهي لم تعد تكتب نصوصاً قوية. وتضاءل تقديمها للنصوص المكتوبة من قبلُ إلى حالات قليلة. فإن قدمتْها كان الاهتمام بها عادياً. ومع ظهور المسرح التجريبي وما تفرع عنه، انحسر النص المسرحي عن المسرح انحساراً مريعاً.
وقد أصاب المسرحَ في الوطن العربي هذا الوباء. فبعد حيوية فعالة في إنجاز النصوص القوية منذ بداية نشأته في منتصف القرن التاسع عشر حتى ما قبل نهاية القرن العشرين بقليل، ظهر في نهايته وكأنه فقد هذه الحيوية. وبعد أن كانت الثقافة العربية تسعى سعياً حثيثاً لاستكمال أدواتها في كتابة النص القوي، إذا بها تتوقف عن الكتابة بعدما استكملت كثيراً من أدواتها مستبدلةً ما يسمى (أدباً مسرحياً قوياً) بمادة نصية هزيلة البناء الدرامي. وبعد أن كانت تجهد لتطويع اللغة العربية لمتطلبات فن الدراما، جاهرت بهجر هذه المحاولة في الإصرار على تقديم العروض المسرحية باللهجات العامية. ولا أدَلَّ على ذلك من أن مسرح سورية الرسمي كان يعلن بصريح العبارة أنه لا يقدم عروضه المؤلفة عربياً أوالمترجمة إلى العربية إلا بالفصحى. ثم صار الآن يعلن بصريح العبارة أيضاً أنه يفضل العامية على الفصحى.
لهذا لم تعرف البشريةُ منذ الثلث الأخير للقرن العشرين والعربُ منذ نهاية عقد ثمانيناته كاتباً قويَّ البنية الدرامية مما يجعل نصه المسرحي يضاف إلى تراث الأمم العريق أو إلى تراث المسرح العربي الوليد. وبدا كأن هذا النوع من أنواع الأدب في سبيله إلى الانقراض. وبدا أيضاً أن حركة المسرح في العالم تفاخر بهذا (الإنجاز) وتعلن بفرحٍ شامت (موتَ الكاتب المسرحي).
ولا أستطيع تبيان الأسباب التي أدت بالبشرية إلى هذا المآل. لكني أرى
_ ويرى معي الكثيرون من الدارسين والباحثين في مختلف شؤون الأدب والسياسة والاقتصاد - أن ظهور العولمة واتساعَ قوة الطغيان العالمي هما العامل غير المباشر وراء ظاهرة القضاء على النص المسرحي. فقد أقنعت العولمة، بسيل جارف من الإعلام، شعوبَ الأرض بانهيار (الإيديولوجيا). وما قصدت العولمةُ من استخدام لفظة الانهيار هذه إلا لتقضي على نـزعة الشعوب نحو الحرية والتخلص من هيمنتها الظالمة عليها حتى يتحول تلقّي الظلم عند هذه الشعوب من حالة الرفض لـه إلى حالة القبول به. وشملت كلمةُ (الإيديولوجيا) كلَّ منهج فكري ينادي بتحرير الإنسان من الظلم ويسعى إلى استرداد الكرامة الإنسانية. وإذا كانت الإمبريالية في بداية القرن العشرين قد قذفت جيوشها إلى أربعة أركان الدنيا لتستنـزف خيراتِ الشعوب، فقد لقيت من الشعوب عنتاً وإجهاداً واستنـزافاً لقوة جيوشها. وكان ذلك سبباً في تحريض هذه الشعوب المستضعَفة على رفض الضعف لاسترداد القوة. وإذا بهذه الشعوب - والشعب العربي واحد منها - تستنهض همتها الذاتية بكل الوسائل التي كان المسرح من أقواها. وقد حفظت الإمبريالية في شكلها الجديد الذي هو العولمة هذا الدرس البليغ. وابتكرت وسائل تخفف عنها عبء الخسائر لتحظى بالأرباح فقط. وذلك بإغراق البشرية في نتاج جمالي فارغ المحتوى. فكان أن استقر المسرحُ على الشكل الذي صار إليه، كما استقرت بقيةُ أنواع الفنون والآداب على الشكل الذي نعرفه اليوم.
لكن العولمة وهي تفعل هذا الفعل في الشعوب، كانت تنقل إلى شعوبها هذا الوباء بعد اتساع أجهزة الاتصال العالمي. فما تريد أن تُقنِع به شعوبَ الأرض يصل إلى مسامع شعوبها ويترك فيها التأثير ذاته الذي أرادته لغيرها. فكان أن تحول العالم كله إلى جزيرة صغيرة ينتشر فيه وباء واحد هو خسران النص المسرحي.
غير أن البشرية بدأت تشعر بخسرانها النصَّ المسرحي كشعورها بأنها تدور في فلك العولمة الظالم الذي يبغي أن يمسح إنسانية الإنسان. وهذا الشعور بدأ يتسرَّب إلى الوطن العربي بشيء من الاستحياء الذي يمضي في سبيله إلى البروز القوي. وهذا يعني العودةَ إلى الاهتمام بالنص المسرحي، كما بدأ هذا الشعور ينمو باطراد في أنحاء العالم. فكأن عودة القوة إلى النص المسرحي نوعٌ من مجابهة الظلم والطغيان والدفاع عن كرامة الإنسان. وكأن العودة إلى مجابهة الظلم والطغيان لاسترداد كرامة الإنسان تعني عودة النص المسرحي القوي. فهو وجه حضاري كان دائماً أول وسائل البشرية في الدفاع عن نفسها.
لكن.. أيُّ نص مسرحي هذا الذي يجب أن يعود إلى الحياة؟ وما هي الأشكال التي يجب أن يتخذها لنفسه بعد هذا التوقف؟
- أهي القوالب المسرحية القديمة التي شكَّلت مذاهب واتجاهات ومدارس؟
- أم هي قوالب جديدة لا أحد يعرف لها أشكالاً؟
- أهي (الدراما التقليدية) التي سميت الدراما الحديثة والتي ثار عليها الكتاب منذ زمن طويل رغم ركوبهم ظهرَها بطرق متعددة؟
- أم هي دراما ما بعد الحديثة بعد أن استهلكها المسرحيون؟
- وهل يمكن، بعد كل ما جرى، أن يظهر شكل مسرحي واحد في بلد ما من البلدان كما كان يجري في كل عصر من عصور البشرية السالفة؟
- وهل يمكن أن ينتقل هذا الشكل إلى بلدان العالم بعد أن يظهر في بلدٍ منه كما حدث مع الكلاسيكية والرومنسية والواقعية والعبثية والبريختية وغيرها من المذاهب؟
إن عودة النص المسرحي القوي إلى الوجود صار ضرورة إنسانية وسياسية وحضارية. وسوف تجعله البشرية من جديد وسيلةً لإثبات كرامتها وطريقةً لتعميق حضارتها كما فعلت من قبل. لكن أشكال المسرح القديمة لن تعود. ولن تعرف البشرية شكلاً واحداً. بل سوف تتجلى النصوص الجديدة في أشكال قد لا يمكن حصرُها. لكنها لن تفعل ذلك إلا إذا عادت إلى منابع الدراما: أي إلى أركان بناء الدراما الأبدية التي لا يكون المسرحُ مسرحاً إلا بها. وهذه الأصول معروفةٌ متداولة استخلصها النقدُ المسرحي الطويل المكين في كل عصر من العصور. فكأن المطالبة بها تعني العودة إلى الوراء. ولا يمكن العودة إلى الوراء.
إن أصول الدراما هذه التي لا بد أن تعود سوف تعود في قوالب جديدة. وسوف تكون القواعدَ ذاتَها دون أن تكون ذاتَها. وإذا كانت أصول الدراما الواقعية هي الخلاصة النهائية لتطور فن الكتابة المسرحية، فسوف يكون الأسلوب الجديد - كما يتلامح لنا - معتمداً على هذه الأصول بعد إعادة النظر فيها والتخلص من بعض قواعدها التي لم تعد مناسبة للعصر. وقد قلت في كتابي (من التقليد إلى التجديد في الأدب المسرحي السوري): "وأكاد أعتقد جازماً أن الشكل الذي سيركبه التأليف المسرحي- والمقصود هو التأليف الجديد- سيكون عودةً إلى شكلٍ ما من أشكال الدراما التقليدية بعد وضع أصولها في بوتقة جديدة. وهذه البوتقة تستند إلى التطور التقني الذي حققه المسرح بخبرات ممثليه ومخرجيه وبالتجهيزات التي وصلت إلى مستوى دقيق لا يستطيع التعاملَ معه إلا أصحابُ الاختصاص الدقيق. وعند ذاك ستعود الشخصيات المرسومة بدقة ورهافة. ويعود الصراع إلى قوته وبهائه).([1])
ومن هنا كان هذا الكتاب.
فهو يعود إلى منابع الدراما بعد أن يعيد النظر في أصولها. وهو تمردٌ عليها بمقدار ما هو تأكيدٌ لها. وهو لا يقف عند أصول الكتابة وحدها، بل يتعرض لتجسيد النص المسرحي على الخشبة لكي يستكمل الحالةَ المسرحية التي هي نص وعرض. وبذلك يحاول أن يضع أمامنا أسلوبَ التعامل لا مع النصوص الجديدة فحسب، بل مع نصوص البشرية جمعاء. فما أنتجته البشرية من الأدب المسرحي هو الموروث الحضاري لجميع الشعوب في جميع العصور.
ومن هذا المنطلق جاء عنوانه (النص المسرحي كلمةٌ وفعل). وقد قسمناه إلى قسمين:
الأول (الكلمة). ويستعرض أركان الدراما في شكلها القادم الذي يمكن أن تكون عليه بعد تخليصها من بعض شوائبها.
والثاني (الفعل) ويتعرض لأسلوب تجسيد النص المسرحي على الخشبة، وكيف تتبادل الخشبةُ مع النص التأثرَ والتأثير.
وأرجو، بعد هذا، أن يكون هذا الكتاب دافعاً للكاتب إلى العودة إلى كتابة النص القوي، ودافعاً للناقد إلى تطوير أدواته النقدية حتى يدرك مفاتيح النصوص الجديدة، ودافعاً للمتلقي للنص المسرحي بالقراءة والمشاهدة لكي يكون أقدرَ على التمتع بما يقرأ ويشاهد، وأقدرَ على تمييز الغث من الثمين فيما يشاهد ويقرأ. فهذا المتلقي هو المقصود الأساسيُّ في مجمل النتاج الفكري والأدبي لأنه عماد الأمم ومادةُ الشعوب والمقدمُ للخيرات المادية والروحية. فإن امتلك القدرةَ على التمتع بالنتاج الفكري والأدبي، كان أقدرَ على المطالبة بالحياة الحرة الكريمة. وما أجلَّها من مهمة للإنسان في الحياة.
NoUr kasem
NoUr kasem
مساعد المدير
مساعد المدير

عدد المساهمات : 1954
تاريخ التسجيل : 08/09/2009
العمر : 37
الموقع : دمشق . . فلسطينية الأصل

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات  Empty رد: النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات

مُساهمة  NoUr kasem الأحد يوليو 18, 2010 8:03 pm

القســم الأول
الكلمـــة
(التأليف المسرحي)


أولاً
مدخل حول التأليف المسرحي المعاصر



من مراجعتنا لتاريخ المسرح في العالم، نجد أن كل مدرسة أدبية جديدة كانت ترث أركانَ وعناصرَ وخصائصَ التأليف المسرحي السابقة عليها، وتُعيد النظر فيها، فتستغني عن بعضها وتضيف إليها عناصر جديدةً ذاتَ خصائص جديدة ليست في محصلة الأمر إلا تطويراً وتعديلاً لما سبقها. فكأن كل مدرسة كانت وليداً جديداً للمدرسة السابقة. وبين السابق واللاحق من الوشائج تشابهٌ واختلافٌ دون أن يخرج ذلك بالمدرسة الجديدة عن الأركان الأساسية للتأليف المسرحي. فمسرح عصر النهضة الأوروبية الذي ولد بعد انقطاع قرونٍ طويلة عاد إلى المسرح اليوناني واستمد منه عناصره الأساسية بعد أن وضعها بشكل يناسب العصر. فوُلِدت الكلاسيكيةُ الجديدة في فرنسا، وولدت المسرحية الشكسبيرية في إنكلترا. أما الأولى فأخذت بمفهوم الوحدات الثلاث استخلاصاً من المسرحية اليونانية. وأما الثانية فأخذت مفهومَ البطل التراجيدي الجليل والصراعَ الضخمَ بين الشخصيات النبيلة من المدرسة اليونانية القديمة أيضاً. وكلا الاتجاهين أخذا الشعر لغةً للمسرح. أي أن ما فعلته المدرستان: الفرنسية والإنكليزية، كان إعادة ترتيبٍ وتنسيقٍ لعناصر التأليف القديمة التي وضعها أرسطو في كتابه (فن الشعر). لكنهما - وهما تأخذان بهذه العناصر - كانتا (تقرضان) حوافَّ وأطرافَ العناصر القديمة بحيث بدت كلُّ واحدة منهما اتجاهاً جديداً سرعان ما استخلص النقادُ منه خصائصه المشروحة المعروفة في كتب النقد المسرحي وتأريخه.
ولم تكن المدرسة الواقعية في القرن التاسع عشر إلا تعديلاً للمدرستين السابقتين، وكان إبسن نموذجَها الأعلى. فقد حافظ الكاتب النرويجي وأقرانُه على العناصر القديمة بعد إحكام بنائها فيما يسمى (الحبكة المتقنة الصنع). وهجرت الواقعيةُ الشعرَ إلى النثر. وكثَّفت الحوارَ وشدَّت مفاصلَ عناصر التأليف بحذف زيادات كثيرة في تفخيم المناظر وفضفضة الشخصيات. وكان ذلك تطويراً لعناصر التأليف المسرحي نحو الصقل والتركيز. ومن المدرسة الواقعية ولد كثير من الاتجاهات في التأليف المسرحي منذ أواخر القرن التاسع عشر وأول القرن العشرين كالطبيعية والسريالية والتعبيرية. ومن هذه المدارس الجديدة ولدت أساليب جديدة في التأليف المسرحي طوال القرن العشرين. وعلى الرغم من أن أكثر هذه المدارس أعلنت ثورتها على الواقعية بما فيها من إتقان للحبكة وتصاعد في الصراع، فإنها لم تكن إلا مستندة إلى الواقعية. فهي (تعدِّل) عناصرَ التأليف المسرحي وأركانه أكثر مما تلغيها.
وفي كل هذا التطوير لعناصر التأليف المسرحي كان الكاتب هو مدار الحركة المسرحية وهو بطلُ التجديد. وهو الذي يحتل مكانَ الصدارة في العرض المسرحي. فكان المخرجَ ومديرَ الفرقة قبل ولادة المخرج في بداية القرن العشرين. وكان نصه المسرحي مدار العرض المسرحي بعد ولادة المخرج. وعلى الرغم من أن المخرجين أخذوا يقاسمون الكاتبَ البطولةَ في الحركة المسرحية، فإن مكانة الكاتب لم تتراجع. وظل رأسَ حركات التجديد. أي أن الحركات المسرحية ظلت تتجدد وتثور ضمن ميدان الأدب المسرحي. وكان النقاد يلاحقون هذا الأدب ويستخلصون - باستمرار - خصائصه المتغيرة المعدَّلة، واضعين النتاج الأدبي المسرحي في مدارس واتجاهات.
ودليل مدار التجديد في الحركات المسرحية حول الكتّاب أن النصوص التي كانت موطن التجديد كانت تهاجر في أنحاء العالم بما يشبه الاجتياح. فنصوص إبسن تلقفها الأمريكيون والإنكليز والروس بما يشبه التقديس. ونصوص تشيخوف جرفت المسرحَ الأمريكي وتركت بصماتها الواضحة - مع تأثيرات إبسن - على آرثر ميللر وتنسى ويليامز وأقرانهما. كما عصف المسرحُ في العالم بنصوص بيرنديللو وبيكيت ويونسكو. وكان تأثير بريخت عاصفاً في بلدان النظام الرأسمالي العتيدة رغم أن نصوصه موجهة ضدها. وجميع هؤلاء الكتاب لم يقدموا نصوصاً جميلة فحسب، بل قدموا - وهذا هو الأهم - تناولاً جديداً وتركيباً مختلفاً لأركان التأليف المسرحي. وكانوا يقرضون هذه العناصر ويحورونها ويعيدون جوهرَ خصائصها بحيث تبدو وكأنها أركان جديدة قطعت صلتها بالأركان القديمة في حين أنها لم تكن أكثر من تحوير وتعديل لها. ولعل أوضح مثال على ذلك أن بريخت تخلى عن التصاعد الدرامي الحاد الذي هو جوهر البنية التقليدية التي سبقته، وحاول بناء الحكاية عن طريق مَشاهِدَ تتلاحق ومتتابعة متوازية دون أن تكون متراكبة فوق بعضها البعض. لكن التحليل المتعمق لنصوصه يكشف أنه - رغم كل تمرده - لم يخرج عن أركان التأليف المسرحي في خلق الحبكة التي تتالى فيها عناصر التمهيد والعقدة والحل. ولم يكن استيفاؤه لأركان الشخصية خارجاً عن المتعارف عليه في أصول بناء الشخصية. وكل ما فعله أنه أعاد تركيب هذه الأركان حتى بدت صناعته خلقاً جديداً وما هي بجديد إلا بمقدار.
لكن العقدين الأخيرين من القرن العشرين حملا شيئاً جديداً في ميدان التأليف المسرحي. فلأول مرة في تاريخ البشرية يعلن كثير من المخرجين والممثلين أنهم ليسوا بحاجة إلى نصوص مجدِّدة لإقامة العرض المسرحي المجدد، وأن بإمكان أي كلام مهما كان ضعيفاً أن يحقق الإبداع المتفنن والفاتن في العرض المسرحي. وكان لهم من ابتكارات التقنية ما يقدم حدثاً درامياً متصاعداً دون الحاجة إلى نص درامي متصاعد. فالإضاءةُ يمكنها أن تخلق حالاتٍ ومواقفَ تستغني عن الكلام. ويمكن للمثلين أن يعبروا عن أحوال النفس وظواهر الصراع بحركات معينة تعلموها في المعاهد وإن كانوا غير موهوبين. ويمكن للموسيقى أن تخلق التوتر الدرامي الذي قد يفوق قدرة الكلام. ألم تقم كثير من الأعمال المسرحية العظيمة على شيء يشبه السيناريو السينمائي أو التلفزيوني؟
هذا الشيء الجديد الذي حدث في أواخر القرن العشرين قلب موازين المسرح بشكل مثير. وأعلن موتَ الكاتب المسرحي مرتئياً - بكثير من الثقة والجدارة - أنه يمكن من غير هذا الكاتب أن يقوم المسرح وأن يتطور وأن يعبر وأن يُمتِع وأن يحرض. أي أن يقوم بجميع المهام التي احتكرها النص المسرحي طوال قرون. فهل يمكن أن ينتهي أمر النص المسرحي فلا يعود ركناً خطيراً في بنيان العرض المسرحي، وأن تخسر البشرية هذا الفن الأدبي بعد أن تعهدته بالتطوير والتحسين طوال قرون؟
ولم يكن شأن المسرح العربي في عمره القصير بعيداً عن شأن المسرح في العالم. فقد ظل النص المسرحي عماد نشاطه وقوام عروضه. وكان كتّابه مدارَه خلال قرن ونصف قرن من بداية نشأته. فهم الخالقون لـه، وهم المطورون لبناء الدراما في النص والعرض، وهم الذين أنشؤوا لـه تراثاً أدبياً مازال يستكمل أدواته حتى استوفى أكثرها مع بداية عقد ستينات القرن العشرين، وهم الذي دفعوا المخرجين والممثلين إلى تأكيد هذا الفن وترسيخه بين الناس، وكانت نصوصهم تهاجر من بلد عربي إلى آخر في احتفالية مهيبة.
ولكن العقد الأخير من القرن العشرين رماهم خارج دائرة الاهتمام. وصار العاملون في المسرح يستغنون عن النصوص المسرحية ذات البناء القوي التي تدخل ضمن الأدب المسرحي. وصارت العروض المسرحية تقوم على نصوص يكتبها المخرجون بطريقة السيناريو، أو يأخذون نصوصاً معروفة ويُعمِلون فيها إعدادَهم حتى لا يبقى منها إلا هيكلُها ليقوم الفعلُ والإضاءةُ وحركاتُ الممثل مقامَ البناء الدرامي في تكوين الصراع وبناء الحبكة وتقديم الشخصيات. وصار بالإمكان الاستغناءُ عن قدر كبير من الكلام. فهل مات الكاتب المسرحي العربي؟ وهل يمكن أن يخسر العرب هذا الفن الأدبي الذي ما عرفوه إلا متأخرين وفرحوا به وتعهدوه بالرعاية والتطوير حتى يصبح من تراثهم الأدبي والحضاري؟ وهل يمكن أن يخرجوا من ميدانه ولما يستكملوا العدة في إتقانه؟
NoUr kasem
NoUr kasem
مساعد المدير
مساعد المدير

عدد المساهمات : 1954
تاريخ التسجيل : 08/09/2009
العمر : 37
الموقع : دمشق . . فلسطينية الأصل

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات  Empty رد: النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات

مُساهمة  NoUr kasem الأحد يوليو 18, 2010 8:04 pm

تلك هي الأسئلة التي أخذت تراودني منذ أكثر من عشر سنوات وأنا أرصد حركة التأليف المسرحي العربي وفي العالم. وقد خُيِّل إليَّ أن هذا ما سيحدث إذا لم يقم العرب بإعادة النظر في أركان التأليف المسرحي المعروفة لكي يستخلصوا منها ما هو جوهري من ناحية، وما هو مناسب لتكوين العروض المسرحية الجديدة التي لن تعود إلى ما كانت عليه والتي لا بد أن تتخذ لنفسها أشكالاً جديدة. وهذا يعني أن تلبي نصوصُ الكتاب متطلباتِ العروض المسرحية حتى يتهافت المخرجون والممثلون عليها. وهذا يعني التخلصَ من أركان التأليف المسرحي التقليدية للانطلاق إلى أركان جديدة.
لكن أركان التأليف المسرحي الأساسية ثابتة شئنا أم أبينا. ومهما تغيرت مدارسها فإنها تظل العناصرَ التي لا يقوم النص إلا بها. أي أن على الكاتب المسرحي العربي أن يتقيد بهذه الأركان تقيداً صارماً لكن بعد أن يتخلص من بعض أجزائها وأن يعيد تكوينها. ومن هنا جاء هذا البحث في أركان التأليف المسرحي. فهو تأكيد لها من ناحية. وهو تخليص لها مما صار يُعَدُّ زيادةً فيها. وهو وضعٌ لهذه الأركان القديمة موضعاً جديداً يساهم في خلق نص مسرحي قابل للحياة فوق خشبة المسرح المعاصرة.
لقد كان النقد طوال العصور تابعاً للإبداع. يستخلص من كل فن أدبي أسساً يضعها المبدعون ويحولها إلى قواعد تهتدي بها أجيالٌ من الأدباء. فإذا حدثت ثورة في فن أدبي لتُحِلَّ أسساً جديدة في ذلك الفن، سارع النقد إلى مواكبة الثورات الأدبية ليستخلص منها قواعدها الجديدة من جديد. أما اليوم، وبعد أن وقف التأليف المسرحي حائراً ضائعاً أمام موجة العرض المسرحي الجديدة التي قلبت موازينه، فإن على النقد أن يسبق المبدع وأن يدله على الطريق الجديدة التي يمكن لـه أن يسير فيها.
وأنا لا أدعي أني سأكون قادراً حتماً على القيام بهذا السبق. لكني أقوم بما أعتقده ضرورياً لعودة التأليف المسرحي العربي إلى نصاعته وقوته حتى تعود للكاتب المسرحي مكانته في قيادة الحركة المسرحية وفي مواكبة التجديد.
إن ما سوف أقدمه من حديث عن أركان التأليف المسرحي لا ينطلق من مذهب فني محدد أو مدرسة أدبية ما. بل ينطلق من تكوين هذه الأركان الأساسية. وهو مجموع القواعد التي لا بد من توفرها في بناء النص المسرحي كائناً ما كانت مدرسة الكاتب أو اتجاهه.
وإذا كان في ما سوف نقدمه شيء كثير أو قليل من إعادة النظر في تحليل خصائص هذه الأركان لاستبعاد ما لم يعد صالحاً اليوم لخلق أدب مسرحي عظيم، فإن تراجع مكانة الأدب المسرحي في العالم اليوم تُضطرُّنا إلى إعادة النظر هذه. فبهذه الطريقة نعيد اكتشاف أرهفِ الجوانب وأدقها وأكثرها ضرورية ولزوماً في أركان وعناصر التأليف المسرحي. وبذلك نقدم إلى كاتب اليوم منحىً جديداً يعينه على التعامل الحي الموجز المكثف الذي يدفعه إليه إيقاع الحضارة الحديثة. فالعقل البشري لم يعد يتقبل التطويل أولاً. وصار دخولـه إلى عالم الموجودات سريعاً حاداً ثانياً. وأعانته المكتشفات العلمية على تطوير خشبة المسرح فاستغنى بها عن كثير من الأقوال ثالثاً. وحلَّ الفعلُ الدراميُّ الذي يقوم به ممثل متعلم محنك محلَّ الأقوال لأن لـه من المقدرة ما يجعله يستغني بأفعاله عن الأقوال رابعاً.
لكن أهم ما يدعونا إلى إعادة النظر هذه هو أن العصر الحديث يميل بشدة نحو التخلص من القواعد التي أثبت الزمن عدم صحتها. وهذا العصر يملك الجرأة الكافية على رفض هذه القواعد دون أن يحترم قدسيتها التي تأتيها من كونها قديمة. فتخلى عن أسوأ تقليدٍ أدبي عرفته البشرية وهو تمجيد القديم لأنه قديم فكان قيداً لها حين كانت تعجز عن رؤية العصر الحاضر. وقد قال العرب القدامى (المعاصرة حجاب). فكأن هذا العصر أنهى مفعولَ هذه القاعدة الصماء. وهو يملك هذه الجرأة لأنه يملك من المقدرة والعلم والذكاء ما يمكِّنه أن يهدم قواعد القديم وأن يضع لنفسه قواعده. وليست هذه النظرة إلى بناء أركان التأليف إلا استخلاصاً لأصفى وأصحِّ ما في النظرة النقدية القديمة، وحذفاً لكل ما يربك كتابة النص المسرحي الأدبي المعاصر المتفلِّت من القيود من ناحية، والمتمسك بالمهم منها من ناحية ثانية.
إن ما دفعني إلى إعادة النظر هذه أني أواكب المسرح منذ ما يقرب من أربعين عاماً كنت خلالها أرصد التأليف المسرحي العربي وما تُرجِم من التأليف المسرحي غير العربي، وأحاول أن أستوعب التيارات الخفية التي كانت تغير ملامح المسرح العربي بسرعة فائقة في شتى ميادين التأليف والإخراج والتمثيل. ولعلي بعد هذه المتابعة الحثيثة أستطيع أن أهمس في أذن المؤلف المسرحي العربي وفي أذن ناقده وقارئه ببعض الوسائل التي تعين الكاتب على الإبداع، وتعين الناقد على استخلاص قواعد الإبداع، وتعين القارئ على تناول النصوص المسرحية العربية تناولاً جديداً تجعله أقدر على التفاعل معها
.
NoUr kasem
NoUr kasem
مساعد المدير
مساعد المدير

عدد المساهمات : 1954
تاريخ التسجيل : 08/09/2009
العمر : 37
الموقع : دمشق . . فلسطينية الأصل

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات  Empty رد: النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات

مُساهمة  NoUr kasem الأحد يوليو 18, 2010 8:06 pm

ثانياً
مصاعب التأليف المسرحي المعاصر



منذ مدة وأنا أتابع النصوص التي تقدم في العروض المسرحية، وأقرأ بعض النصوص المطبوعة التي تصدر لكتاب الجيل الجديد. وقبل كل شيء أحب أن أوضح المقصود بالنص المسرحي. فهو الذي ليس معداً عن نص مسرحي معروف , وليس (المولَّفَ) عن قصة قصيرة، وليس المقتبسَ عن نص آخر أو عن أية مادة أدبية. فالمقصود، إذن، هو النص الذي يحاول أن يسير على أصول الدراما وقواعد التأليف المسرحي من تقيدٍ بالحكاية وبناءٍ للشخصية والصراع المسرحي، وما يقتضيه ذلك من ربطٍ لهذه العناصر بما يسمى في قواعد التأليف المسرحي (الحبكة). وأحب أن أضيف إلى هذا التوضيح أن تقيُّدَ الكاتبِ بهذه العناصر لا يعني على الإطلاق ألا يكسر ترتيب وتصاعد هذه العناصر بوسيلة أو أكثر كالراوي أو الغناء أو غير ذلك. فهذه الوسائل تدخل على أركان التأليف المسرحي دون أن تخرج بها عن كونها أركان التأليف المسرحي. وكل ما تفعله أنها تقدم هذه العناصر بإطار جديد يكسر الإطار التقليدي للدراما التي أرسى دعائمها بشكلها النهائي (إبسن)، والتي أَعْمَلَ فيها المؤلفون المسرحيون معاولهم تغييراً لها وإعادةً لترتيب مفرداتها كما ذكرنا. وهذا هو مرتكز حركات التجديد في الكتابة المسرحية منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى اليوم.
إنني أقصد من هذا كله وجوبَ النظر إلى (الدراما المفتوحة) إن جاز لنا استخدام هذا التعبير. ويعني ذلك أن من حق الكاتب أن يكتب نصه الدرامي بالشكل الذي يرتئيه وبالترتيب الذي يختاره لعناصر الدراما. سواء أحب أن يكون متمسكاً بقواعد الدراما التقليدية أم منحازاً إلى نقيضها. وأقصد في الوقت نفسه أنني كنت أتابع النصوص الجديدة دون تصور مسبق لأي شكل من أشكال بناء الدراما، وذلك لاعتقادي أن من حق الكاتب أن يركب الأسلوب الذي يشاء، وأن يطور ويغير ويحور في قواعد التأليف المسرحي كما يشاء. وليس عليه إلا شرط واحد هو أن ينتج عن أسلوبه الذي يختاره نصٌّ مسرحي متقنُ البناء.ولن يستطيع ذلك إلا إذا حافظ على الأسس والعناصر التي لا يكون المسرح مسرحاً إلا بها.
من خلال هذا المنظور العام المنفتح الواسع الطيف، حاولت أن أرصد حركة التأليف المسرحي السوري خلال السنوات الماضية. وكنت أقارن النصوص السورية بما يتاح لي متابعته على خشبة المسرح العربي أو من خلال النصوص القليلة التي اطلعت عليها من بعض الأقطار العربية. ويمكنني، بعد هذا، أن أخرج ببعض الملاحظات التي يمكن أن تعتبر تقييماً عاماً للتأليف المسرحي السوري والعربي.

***
أول الملاحظات أن جيل الكتاب المسرحيين العرب الذين بدؤوا يكتبون منذ بداية عقد تسعينات القرن العشرين يسيرون في نهج واحد. وهذه أبرز وأهم ملاحظة يمكن أن نرصد بها تأليفَنا المسرحي. وهي تدل على أن التأليف المسرحي المعاصر ليس إلا حلقة من سلسلة التأليف المسرحي العربي منذ بدايته حتى اليوم.
فالكتاب العرب - في كل مرحلة أو جيل أو عصر - كانوا يسيرون على نهج عام واحد. ثم يكون لكتاب كل قطر عربي خصائصُهم المتمايزة عن كتاب الأقطار العربية الأخرى. ثم يكون لكل كاتب في كل قطر ملامحه الخاصة التي يتفرد بها عن زملائه. وبذلك تحقق للتأليف المسرحي في كل عصر تنوع شديد كثيف مدهش. وكان هذا التنوع ينضوي تحت منهج واحد صارم الخصائص والملامح. ولعل المثال يوضح المقصود.
ففي مرحلة النصف الأول من القرن العشرين - وكان كتاب مصر وسورية أبرز الكتاب العرب - سار هؤلاء الكتاب في نهج واحد لم يخرج أحد منهم عنه وهو محاولة التمسك ببناء الدراما التقليدية التي تتراوح بين تأثيرات موليير وإبسن وشكسبير. وقصدوا من ذلك أن يرتقوا بفن الكتابة المسرحية وذلك بتمسكهم بعناصر الدراما. ومن هنا برزت أولى النصوص العربية التي يمكن القول عنها إنها تدخل ميدان الأدب المسرحي، والتي يمكن اعتبارها نصوصاً قوية. وليست مسرحيات توفيق الحكيم وعلي أحمد باكثير ومراد السباعي إلا نموذجاً فذاً عن هذه المحاولة المدهشة في محاولة إتقان عناصر الدراما لبناء النص المحكم في عقدته وشخصياته وصراعه للوصول به إلى (الحبكة المتقنة الصنع). لكن ركوب الكتاب العرب هذا المنهج كان ملوناً بتلوينات محلية من ناحية، وبتلوينات شخصيات الكتاب من ناحية ثانية. فإذا كان توفيق الحكيم، في بنائه الدرامي، يسير لمناقشة أفكار فلسفية، فإن علي أحمد باكثير كان يحاول إيقاظ الشعور القومي في حين كان مراد السباعي يرصد المجتمع رصداً بالغ الهجاء والسخرية. وإذا كان هؤلاء يركبون منهج بناء الدراما بشكلها التقليدي المحكم، فإن كل واحد منهم تأثر بتيارات فنية وفكرية مختلفة.
أما في النصف الثاني من القرن العشرين، فقد سار الكتاب العرب على نهج مناقض لنهج كتاب النصف الأول منه. فقد أعلنوا، بصريح البيانات أو بصريح التأليف، أنهم يرغبون في تحطيم أصول الدراما التقليدية. ولو رجعت إلى ما كتبه وقاله الكتاب العرب بين أواسط ستينات القرن العشرين وأواسط ثمانيناته، لوجدتهم جميعاً يسيرون في هذا النهج من المغرب حتى العراق. وقام هذا النهج على التقيد بأركان الدراما التقليدية بعد تحطيم ترتيب وتتابع هذه الأركان. وقد وجد الكتاب العرب في البريختية والعبثية والسريالية وغيرها من ثورات كتاب المسرح الأجنبي على التقليدية، مساعداً لهم في إعلان تمردهم على تقليدية البناء المسرحي.
إن هذا النهج العربي الواحد الصارم الذي سار عليه الكتاب العرب خلال السنوات العشرين التي ذكرناها، نجد لها تنويعات هائلة قد يصعب إحصاؤها فنكتفي بالإشارة إلى بعضها. فمنها الاستفادةُ من أشكال احتفالية عربية قديمة. ومنها استخدامُ الراوي والجوقة والغناء في قطع تسلسل الحدث المسرحي. ومنها استخدامُ خصائص مسرح العبث في عدم حدوث شيء لتحطيم حدوث الأفعال والوقائع في الدراما التقليدية. ونتج عن هذه المحاولات ما سمي بالمسرح الاحتفالي والطليعي والتجريبي والملحمي. وكلها متفرعةٌ عن نهج واحد هو (تغيير ترتيب أركان الدراما). وكلها كانت شديدة التمسك بهذه العناصر بحيث كانت كل مسرحية مما كتبوه يمكن تحليلها إلى عناصر الحكاية المسرحية وبناء الشخصيات وإبراز الصراع في حبكة قوية مشوقة. ويكفي أن يتذكر القارئ نصوص سعد الله ونوس ورياض عصمت وعلي عقلة عرسان وممدوح عدوان ووليد إخلاصي وعبد الفتاح قلعجي وغيرهم من كتاب سورية، وأن يتذكر نصوص محمود دياب وميخائيل رومان وألفريد فرج وغيرهم من كتاب مصر، وأن يتذكر نصوص عز الدين المدني في تونس وعبد الكريم برشيد في الغرب وغيرهما من كتاب المغرب العربي.
بقي أن نضيف إلى ما قدمناه عن سير كتّاب كل مرحلة في نهج واحد، أن هذا النهج الذي ساروا عليه كان نهجاً فنياً بقدر ما كان رؤية فكرية لهم في قضايا المجتمع وشؤون الأمة. ففي نصفي القرن العشرين حمل الكتاب العرب المسرحيون على عاتقهم مهمةَ التعبير عن طموحات الأمة في التغيير الاجتماعي والسياسي عبر التعبير عن الموقف القومي والوطني لهم. وإذا كان موقفهم في النصف الأول مقارعةَ الاستعمار، فقد كان موقفهم في النصف الثاني مقارعةَ التخلف والتجزئة والعدو الإسرائيلي. وكان النهج الفني الذي ركبوه وسيلتَهم إلى التعبير عن مواقفهم الاجتماعية والسياسية هذه.
استناداً إلى ما تقدم نجد أن انتظام كتاب جيل تسعينات القرن العشرين في نهج واحد دليلٌ على انبثاقها من التجربة العربية في الكتابة، واستمرارٌ لمسار المسرح العربي.
ثاني الملاحظات أن التأليف المسرحي العربي كان يزداد حنكة وبراعة. ولم يكن تاريخ التأليف المسرحي العربي انتقالاً من تقليد الدراما التقليدية إلى الخروج عن هذا التقليد ومحاولة خرق أصول وقواعد التأليف لإعادة صياغتها من جديد فحسب، بل كان في الوقت نفسه تطوراً في فن التأليف نفسه. ولو رجعنا إلى ما كتبه الكتاب العرب في النصف الأول من القرن العشرين لوجدناه أقرب إلى الضعف في البناء الدرامي في الأعم الأغلب. وقليلةٌ جداً هي النصوص التي ترتقي إلى صنف الأدب المسرحي المكين الذي يمكن العودة إليه وتقديمه جيلاً بعد جيل. وهنا لا بد من وقفة صغيرة عند هذه النقطة التي تعتبر مفتاحاً من أهم مفاتيح فهم التأليف المسرحي في تاريخ البشرية.
من المعروف أن لكل عصر مدرستَه الأدبية التي يسير فيها التأليف على قواعد محددة يلتزم بها الكتاب المنتمون إلى هذه المدرسة. وكلنا يعرف مثلاً قانون الوحدات الثلاث الذي سارت عليه الكلاسيكية الجديدة في فرنسا، وما تبع هذا القانون من قاعدة فصل الأنواع. ونعرف قواعد الرومانسية التي خرجت على قانون الوحدات الثلاث ومزجت الأنواع. ونعرف أن الواقعية تخلت عن الشعر لغة للمسرح وفرضت النثر. وإذا كانت الكلاسيكية تنتقي أبطالها من عظماء الشخصيات لتخوض صراعاً تراجيدياً ضخماً، فقد مالت الواقعية إلى الشخصيات العادية لتخوض صراعاً اجتماعياً عادياً تكشف فيه عن مآسي المجتمع. ونعرف أن مسرحيات القرن العشرين كانت كلها تضرب أصول الدراما التقليدية بعد أن رَكِبَت ورَكَّبَت عناصرها بشكل جديد غائصةً في مأساة الإنسان أو في عجزه أو لكي تحرض المتلقي على تغيير واقعه من خلال موقف ثوري، أو مؤمنةً أن التغيير مستحيل وأن الإنسان يدور في حلقة فارغة من البؤس واليأس والضياع.
ولم تكن أساليب الكتابة في كل عصر - والتي تسمى مدارس أدبية - إلا معادلاً فنياً للموضوعات الاجتماعية والنفسية والفكرية التي عالجها الأدباء. فكأن الشكل الفني هو الوعاء الذي أعان الكتابَ على صبِّ أفكارهم فيه.
لكن العصر الذي وصفه هؤلاء الكتاب وعالجوه واستمدوا منه موضوعاتهم لا يلبث أن ينقضي. ويأتي عصر جديد يقتضي موضوعات جديدة وأسلوباً جديداً في معالجة هذه الموضوعات. وكثيراً ما كانت الأساليب الجديدة مدمرة للأساليب القديمة. لكن ذلك لم يكن يعني أبداً أن تموت النصوص التي كتبها المؤلفون في العصر الذي انقضى، لأنها كانت قادرة على البقاء فوق خشبة المسرح رغم تطاول الزمن على كتابتها ورغم أن موضوعاتها وحكاياتها ومعالجاتها تبدو نافرة عن العصور التي تتلو عصر كتابتها. ونحن نعرف أن نصوص العصر الشكسبيري مثلاً أو نصوص الكلاسيكية الجديدة أو الرومنسية لم تخرج عن الحياة فوق خشبة المسرح. ولعل في نصوص إبسن الواقعية أوضح مثل على ما نريد قوله. فقد عالج موضوعات اجتماعية محددة في عصره. وهذه الموضوعات الاجتماعية التي كانت هامة في أيامه لم تعد كذلك بعد انقضاء عصره رغم احتفاظها بحرارتها. ولا شك أننا نجد تمرّدَ (نورا) على زوجها في مسرحية (بيت الدمية) في القرن التاسع عشر كأنه ساذج في القرن العشرين. لكن هذه المسرحية ماتزال تقدم على خشبة المسرح في أرجاء الأرض. ولا شك أيضاً أن مسرحية (كلهم أبنائي) لآرثر ميلر التي كانت صرخة فاجعة في فضح النظام الرأسمالي الأمريكي، تبدو اليوم ساذجة بعد التعقيدات الهائلة التي دخلها هذا النظام. لكنها قابلة للوقوف فوق خشبة المسرح اليوم وغداً وبعد غد لأن جوهر حكايات المسرحيات القديمة يقوم على تعبيرها عن واقعها. وهذا هو سر قوتها من ناحية، ودليل على أن الأخلاق والواقع يتغيران بسرعة كبيرة تستدعي ضرورة وجود أدب جديد باستمرار دون أن يخسر الأدب القديم مكانته من ناحية ثانية. فكأن المسرح يسير على القاعدة الذهبية التي تقول (ما كان جميلاً صحيحاً في عصره يظل جميلاً صحيحاً إلى الأبد).
ولن يكون النص الأدبي - مسرحاً كان أم غير ذلك من فنون القول - صحيحاً وجميلاً إلا إذا كان متقن الصناعة مكتمل البناء الفني حسب مدرسته التي ينتمي إليها، معبراً في الوقت نفسه عن عصره. أ لا ترانا اليوم ونحن نكتب الشعر الحديث ونتغنى به ونعتبره فن العصر، نعود إلى القصائد العربية القديمة المتقنة الصنع ونتغنى بها بالدرجة نفسها من النشوة واللذة التي كان المعاصرون لها يتلقونها بهما؟
بهذا الشكل يمكن أن نعود إلى ما كتبه المؤلفون المسرحيون العرب. فنصوص النصف الأول من القرن العشرين يكاد أكثرها يصبح مادة تاريخية تشرح تطور المسرح العربي دون أن تكون مادة فنية قابلة للوقوف اليوم فوق خشبة المسرح. أما النصوص التي كتبها الكتاب في النصف الثاني من القرن العشرين فإن كثيراً منها قادر اليوم على الوقوف فوق خشبة المسرح بجدارة رغم ابتعاد العرب وتخليهم عن أكثر الموضوعات التي ناقشتها ورغم انطواء بعض أساليبها في التأليف. وسبب ذلك قوة بنائها الدرامي الذي يجعل القاعدة الذهبية السابقة تنطبق عليه.

***
من خلال هاتين الملاحظتين ننظر إلى ما يكتبه الكتاب المسرحيون منذ بداية عقد تسعينات القرن العشرين.
1 – تميل أكثر الكتابات إلى شكل (الفصل الواحد). وقليلاً ما تُكتب المسرحية ذات الفصلين. أما المسرحية ذات الفصول الثلاثة فقد اندثرت.
لقد بدأت المسرحية العربية منذ أواخر سبعينات القرن العشرين تميل نحو الفصلين وتهجر الفصول الثلاثة التي استقرت عليها الدراما الحديثة الأجنبية والعربية بعد الفصول الخمسة التي كانت للمسرحية التي قبلها. وهذا الانتقال في عدد الفصول لم يكن أمراً يتعلق بالشكل فقط، بل كان استجابة للحاجات الاجتماعية ولروح الشعوب. فحين كان العرض المسرحي (سهرة طويلة)، كانت الفصول الخمسة تتيح للعاملين فيه أن يمططوه وأن يحشدوا فيه أفانين المثيرات التي تجعل المتفرج يقضي سهرة طويلة ممتعة. ولم تكن الفصول الخمسة تتيح للعرض المسرحي أن يطول حتى يستغرق وقت السهرة الطويلة فقط، بل كانت تتيح للمتفرجين أيضاً أن يلتقوا بين الفصول وأن يتحاوروا وأن يحوِّلوا العرض المسرحي إلى مناسبة اجتماعية تساعدهم على تمتين علاقاتهم وصداقاتهم. وبهذا الشكل بدأت المسرحية العربية منذ نشأتها، وظلت طويلاً على هذا الشكل. ويكفي للتأكيد على ذلك أن مراد السباعي يذكر في كتابه (شيء من حياتي) أن عرض مسرحية (اللصوص) للكاتب الألماني شيلر في مدينة حمص في ثلاثينات القرن العشرين دام ثماني ساعات. ألم تكن حفلات أم كلثوم الشهيرة تبدأ في الساعة العاشرة ليلاً وتنتهي في الساعة الثالثة صباحاً؟
لكن الحياة الاجتماعية في أوروبا مع بداية القرن التاسع عشر لم تعد تسمح بقضاء هذه السهرة الطويلة خاصة بعد تحول الحياة الاقتصادية إلى النظام الرأسمالي بمصانعه التي تقتضي الاستيقاظ المبكر حتى يذهب الناس إلى أعمالهم. فأخذت المسرحية تقتصر على ثلاثة فصول بحيث أصبح العرض المسرحي (سهرة قصيرة). ومثل ذلك حدث في المسرحية العربية منذ أواسط القرن العشرين. فهي سهرة معقولة تشبه مدتُها مدةَ الفيلم السينمائي الذي يتراوح بين الساعتين والساعتين ونصف. والفصول الثلاثة تحقق عناصر عرض الفصول الخمسة بحشد المثيرات الفنية دون إسراف. وتحقق - كالمسرحية ذات الفصول الخمسة - علاقات اجتماعية بين الفصول. ففي الاستراحتين يلتقي الناس على كأس من الشاي أو القهوة، ويتبادلون الأحاديث عن العرض المسرحي وغيره من شؤون الحياة. وبذلك يتحول العرض المسرحي أيضاً إلى (لقاء اجتماعي). وشيئاً فشيئاً تحول العرض المسرحي - مكتوباً قبل أن يكون معروضاً - إلى فصلين. والمسرحية ذات الفصلين تحقق ما تحققه المسرحية ذات الفصول الثلاثة لكن بإيجاز. فهي تتيح كمية وافرة من الحوار والأفعال. وتسمح للعرض المسرحي أن يحتشد بالمثيرات الجمالية والفكرية دون أن تأخذ كثيراً من الوقت، خاصة وأن التلفزيون لم يكن قد احتل المكانة الأولى عند الناس. وتحقق (الدردشة) بين الفصلين. أي أنها تلبي تلك الرغبة الإنسانية في التقاء الإنسان بغيره من الناس في شيء من الحميمية لم يكن الشعور الداخلي بالعزلة قد قضى عليها.وعلى أسلوب الفصلين بدأت المسرحية تسير في العالم وفي الوطن العربي في الثلث الأخير من القرن العشرين. وكلنا يعرف أن المسرحية العربية في سبعينات وثمانينات القرن العشرين كانت (سهرة مقبولة). وهذه السهرة ذات وقت معتدل الطول يتحول فيه العرض المسرحي إلى احتفال اجتماعي براق.
إن المسرحية ذات الفصلين هي الاختصار الأخير لمسرحية الفصول الخمسة. فهي تتيح للكاتب أن يحشد ما يشاء من الشخصيات، وأن يستوفي لها تكوينَها بالحوار والفعل، وأن يتلكأ العرضُ المسرحي بإضافة ما يعدُّه أماليحَ الحياة دون إحساس بضرورة الاختصار الشديد. فالعرض المسرحي مستريح الزمن. والمتلقي مستريح الذهن لا يسوطه الذهاب إلى البيت في وقت مبكر. ومن هنا كانت العروض المسرحية العربية - كمثيلاتها من العروض في العالم - تحفل بالشخصيات كما تحفل بالحوار. وتحتشد بالأشكال الاحتفالية التي يقوم فيها الممثلون بكامل الفعل والقول.
لكن المسرحية - في العالم وفي الوطن العربي - بدأت تسير في طريق جديدة منذ بداية تسعينات القرن العشرين. فهي فصل واحد فقط. وهو فصل موجز شديد الإيجاز. وهو متوجه إلى إنسان يشعر بالعزلة الداخلية فلم يعد يهتم باللقاء الاجتماعي مع غيره من الناس إلا في الحدود الدنيا. فيكفي تبادل التحية عند الدخول إلى المسرح. ولا بأس من عدم تبادل التحية عند الخروج منه. ويكفي أن يكون العرض المسرحي ساعة أو أقل. أ لا ترى الداخلين إلى المسرح يسألون: ما هي مدة العرض؟ فإن قيل إنه ساعة استبشر الداخلون خيراً. وإن قيل: أكثرُ من ساعة شعروا بشيء من الامتعاض. فالوقت عندهم ثمين. وفي التلفزيون مسلسل يتابعونه ولا يريدون أن يفوتهم. وفي المحطة الفلانية سهرة مع عرض أزياء. وفي المحطة الأخرى لقاء سياسي. وفي تلك المحطة فيلم رعب. وهكذا.
لكن الشيء الأخطر من هذا كله أن الناس لم يعودوا يذهبون إلى المسرح لمشاهدة حياتهم وقضاياهم الاجتماعية والسياسية. ولم يعودوا راغبين في مناقشتها بعد حالة اليأس النفسي الذي وصلوا إليه. فهم يطلبون من المسرح عرضاً لطيفاً سريعاً خالياً من الهموم إلا في الحد الأدنى.

والعرض المسرحي ذو الفصل الواحد قد لا يستطيع أن يحتشد بالشخصيات الكثيرة، ولا أن يكثر فيه الحوار. ولا يستطيع أن يحشد أشكالاً احتفالية. فهو عرض موجز سريع. ومطلوب منه أن يقدم جمالياتٍ تغري المتفرج بمشاهدته. وإذا به يستغني عن المغريات الإنسانية بالحوار والفعل الإنساني. ويركبُ الجماليات الصناعية التي صارت السينوغرافيا معها بديلاً عن الحوار وعمق تحليل الشخصيات. وفوق هذا كله، توجَّب على العرض المسرحي أن يكون مغسولاً من معالجة الأمور الاجتماعية والسياسية الخطيرة للأمة العربية حتى لا يتعرض المسرحيون للقيل والقال والسؤال والجواب. فيكفي أن يقدموا حالة إنسانية ما وكفى الله المؤمنين شر القتال.
إن المسرحية ذات الفصل الوحيد نوع جديد في التأليف المسرحي لا يزيد عمره عن قرن. فقد ظهرت في القرن التاسع عشر.وكان تقديمها خاصاً واستثنائياً. (والمادة الدرامية فيها مكثفة لا تحمل تطوراً درامياً كبيراً. فهي تتركز على موضوع واحد يبرِز أزمة أو حالة أو يطرح مرحلة في حياة شخصية ما دون الدخول في التفاصيل. وهي لذلك لا تحتمل الحبكات الثانوية. كذلك تتميز هذه المسرحية بسرعة الإيقاع وبوحدة المكان وبقلة عدد الشخصيات التي تُصوَّر بملامحها العامة).([2]) وكانت مجاورة للمسرحية ذات الفصول الثلاثة أو الفصلين. لكنها اليوم صارت أصلاً في التأليف المسرحي وبديلاً تاماً عن المسرحية الطويلة. ولا يعني هذا أن مسرحية الفصل الواحد الآن شبيهة الأركان بمسرحية الفصل الواحد التي ولدت في ظل المسرحية الطويلة، بل تحمل أركان المسرحية الطويلة دون أن تكون طويلة. فإنها تحتمل أن تقدم مادة درامية واسعة بشخصيات كثيرة واضحة الملامح. ويمكن أن تحفل بحبكة ثانوية إضافة إلى الحبكة الرئيسية. وهذا هو الفرق الجوهري بين مسرحية الفصل الواحد اليوم وبينها من قبل.
2 – عندما أَهَلّ عقدُ تسعينات القرن العشرين، كان الإبداع العالمي في مجالات الفنون والأدب قد تراجع ونضب. فهذا القرن الذي خاضت فيه البشرية حربين عالميتين سبقتهما وتلتهما حروبٌ صغيرة، كان في الوقت نفسه قرن ثورات الشعوب على استعباد الاستعمار لها،كما كان قرن الثورات الوطنية لتحقيق العدالة الاجتماعية في قارات الأرض الخمس. وبدا فيه أن البشرية في فنونها وآدابها تغنّي للحرية والكرامة الإنسانية وتنادي بالاشتراكية أو ما يشبهها من الدعوات إلى العدالة الاجتماعية. ونتيجةً لهذا الغناء المتصاعد ظهرت في الرواية والشعر والمسرح والرسم والموسيقى اتجاهات ومذاهب حطمت قواعد التأليف في أسس الفنون والأدب بما ينسجم مع تحطيم الأشكال القديمة للظلم والتفاوت الطبقي والقهر الإنساني. ويكفي أن نذكر للقارئ أن هذا القرن افتُتِح بثورة أكتوبر في روسيا التي تحولت إلى الاتحاد السوفياتي، وأن نذكر ما تبع ذلك من إنشاء المنظومة الاشتراكية، وأن نذكر ثورات أفريقيا وآسيا التي نالت بها استقلالها بعد استعمار طويل، وأن نذكر الثورات الوطنية في الوطن العربي وغيره من أقطار المعمورة. وهي ثورات أرادت أن تنحو نحواً اجتماعياً واقتصادياً يوفِّرُ كرامة العيش لمواطنيها ويخلص أوطانها من هيمنة الإمبريالية. وكان الأدب والفن هو الذي يغذي الأحلام الثورية ويحرض عليها ويتغنى بها. فمن مسرح بريخت إلى مسرح الغضب إلى مسرح القسوة. ومن بيرنديللو إلى آرثر ميلر وتنيسي ويليامز. ومن ناظم حكمت إلى أراغون وبيكاسو. وكان الأدب العربي يسير في الركاب نفسه. فمن افتراع الشعر الحديث إلى الرواية المجددة إلى تأصيل المسرح العربي. وكما عرف الأدب في العالم نجوماً لوامع في سماء الفن والأدب، عرف الأدب العربي نجوماً لوامع في المسرح والشعر والرواية. وكل هؤلاء الذين برزوا في القرن العشرين كان نتاجهم الإبداعي ينصبُّ في تلك المعركة الإنسانية الكبرى التي تدافع عن الحق والخير والعدالة.
لكن الإمبريالية التي ولدت على أعتاب القرن العشرين كانت قد تحولت إلى العولمة في نهايته. وقد بيَّنا في مقدمة هذا الكتاب ما فعلته العولمة في الناس والمجتمعات والآداب والفنون. وكان نتيجة ما فعلته أن تحول الناس من اعتبار الأدب والفن وسيلة دفاعٍ عن الذات والخير وهجومٍ على الظلم والشر، إلى اعتبارهما وسيلةَ متعة يفضَّل أن تمتلئ بالعنف والجنس والمخدرات والاستعراضات وغناء المواخير ورسوم التزيينات المنـزلية. أما التيارات المسرحية التي وقفت فوق خشبة المسرح عاصفة مدوية في القرن العشرين، فقد انحسرت إلى المسرح التجريبي الذي يقوم أول ما يقوم على قتل النص المسرحي. أي أنه يقف موقف العداء المستحكم من الأدب المسرحي. وسرعان ما أعلن - مفتخرا ً- موت الكاتب المسرحي. وتلك أول مرة في تاريخ المسرح منذ نشأته حتى اليوم يتم فيها هذا الإعلان المرعب. وتلك أول مرة يصبح فيها الكتاب المسرحيون الذين صنعوا المسرح منفيين عن ميدانهم كما قدمنا في مدخلنا إلى التأليف المسرحي.
إن هاتين النقطتين وهما أن المسرحية ذات (الفصل الواحد) صارت الشكل الأكثر طغياناً في الكتابة المسرحية إن لم تكن الشكل الوحيد، وأن الإبداع العالمي في مجالات الفنون والآداب تراجع تراجعاً مريعاً منذ بداية تسعينات القرن العشرين، هما أهم المعطيات الفاجعة التي قدمتها المرحلةُ للكاتب المسرحي العربي في تسعينات القرن العشرين حين أخذ يقدم نتاجه. وهي معطيات جردته من أقوى أسلحته. فهو لا يملك فسحة في الزمن المسرحي حتى يوفر لنفسه حرية في الحوار وبناء الشخصيات. وقد فُرض عليه أن يجتزئ من الحكايات التي يخترعها كثيراً من الحوار المعمِّق للحدث والشخصية. وفُرض عليه أن يختصر عدد الشخصيات لأن مسرحية الفصل الواحد لم تستطع فيما مضى وقد لا تستطيع اليوم أن تستطيل لتضم عدداً كبيراً من الشخصيات. ولم تستطع فيما مضى وقد لا تستطيع اليوم أن تمد جناحيها على أحداث كبيرة أو كثيرة. فكأن الكاتب سجين مساحة محدودة لا يستطيع أن تجول خيوله فيها.
والكاتب لا يملك قضية اجتماعية كبرى يدافع عنها فيجعل شخصياته تخوض صراعاتها الكبرى. وانحسرت معالجاته إلى قضايا إنسانية عامة صغيرة لا تجد لنفسها مستنداً اجتماعياً أو وطنياً ينفخ فيها روح الإبداع الناتج عن موقف محدد واضح من الحياة. فلا يجد أمامه إلا أن يجعل مسرحيته تعيش في هيولى سريالية أو عبثية. وهذه الهيولى هي التي نجد أكثر النصوص المسرحية العربية تسبح فيها.
لكن الكاتب، قبل هذا كله وبعد هذا كله، لا يعيش حالة من النهوض المسرحي. ولا تشكل نصوصه التي يكتبها جزءاً من هذا النهوض. فوجوده وعدمه سواء. والعروض المسرحية اليوم تستغني عن نصوصه بتلك النصوص المولفة التي يركِّبها المخرجون وقد فرحوا بأنهم خرجوا من سطوة النص وكاتب النص. فإذا وجدتَ عرضاً يقدم نصاً لكاتب مسرحي فلأن المخرج نفسه هو الذي صار الكاتب. وإذا قلنا إن سوق الأدب العربي اليوم بائرة غير رائجة، فإن المسرحية أكثرها بواراً وأقلها رواجاً.

***
من كل ما تقدم ندرك أن جميع أوضاع المجتمع والتغيرات وحالة الفنون تعمل ضد الكاتب المسرحي وتقلل من قدرته على الإبداع وتغلق أمام نصوصه أبواب الظهور. وتنحدر بالكتابة للمسرح إلى مرتبة غير المرغوب. فكأن هذه العوامل أعداء تتربص بالكاتب المسرحي.
لكن الكاتب كسب في هذا العصر مقومات جديدة لم تتوفر لمن سبقه من الكتاب تعينه على إبداع نصوص قوية.
أول مكاسبه أنه ورث خشبة مسرح متطورة مفتوحة. ونحن نعلم أن شكل الخشبة وقدراتها كانت تضطر الكاتب إلى تكييف كتابته معها، وإلى تكوين أركان التأليف المسرحي على أساسها. فالعلبة الإيطالية ذات الجدران الأربعة لم تعد نوعاً وحيداً أمامه. ولم يعد مضطراً أن يحشر نصه وممثليه في مجالها الضيق. وهذه الخشبة الجديدة مجهزة بأنواع من التقنية التي يمكنها أن تحقق لـه جميع الأفعال التي يجنح خياله إليها دون عائق. وإذا كان النقاد السابقون قد قيدوا الكاتب المسرحي بشرط صارم هو أن لا تجري على المسرح (أفعال ضخمة) وأن يكتفي بروايتها، فقد أمكن لـه اليوم أن يتخلص من هذا القيد لأن التقنية الحديثة للخشبة تسمح لـه أن يقدم جميع الأفعال. وإذا كانت الخشبة القديمة تضيِّق عنده مفهومَ الزمان والمكان، فالإضاءة والديكور والحيل المسرحية التي يتعلمها الممثلون في الجامعات تستطيع أن تيسِّر لـه تقديم الأفعال الضخمة دون كبير عناء، وتيسر لـه أن يتلاعب بالزمان والمكان كما يشاء. ونحن نعلم أن وحدة الزمان والمكان التي تقيدت بها الكلاسيكية الجديدة مثلاً، فرضها على الكتاب القدامى بناءُ مكان العرض الذي كان واجهة بناء ضخم أو عجْزُ الخشبة عن التنقل السريع في الزمان والمكان. وإذا كان شكسبير مضطراً أن يصف المكان والوقت والزمان بالحوار لأن خشبته ضيقة فقيرة مضاءة بالشموع، فإن الخشبة اليوم قادرة وحدها على أن تقدم للكاتب ما يشاء من الأمكنة بسهولة ويسر. وإذا اشترطوا عليه أيضاً أن لا تجري على المسرح أحداثٌ عنيفة تؤذي مشاعر المتفرج كالقتل العنيف والاغتصاب المفضوح، فقد تحطم هذا القيد المانع لتطوير الفعل المسرحي إلى حد بعيد. فالمتفرج اليوم لم يعد يؤذيه الفعل العنيف أذى شديداً بعد أن تكفلت السينما والتلفزيون بتحطيم كل الأوهام الأخلاقية والاجتماعية التي تحرِّم على المسرح الأفعالَ العنيفة أو غيرَ المحتشمة. وبذلك تحقق للكاتب المسرحي المعاصر حريةٌ في التأليف لم تكن متوفرة لمن سبقه.
ثاني مكاسبه أنه ورث أصول التأليف المسرحي بعد أن تطورت ووصلت إلى شكل مشذب خال من التعقيدات، واكتسبت مزيداً من المرونة. فقد تكفل تطور المسرح بإيصال هذه الأركان إليه في حالة اكتمالها. فلم يعد مقيداً مثلاً بأصول التأليف التي تقيدت بها الكلاسيكية أو الرومنسية أو الواقعية. وإذا كانت كل مدرسة تضع أصول التأليف بشكل متطور عما سبقها ويجد الكتاب أنفسهم ملزمين بها في عصر من العصور، فإن كاتب اليوم ليس ملزماً بشكل من الأشكال. وليس مضطراً أن يكيف أركان المسرح كالصراع والحبكة والشخصية بحسب مدرسة ما أو اتجاه ما. بل صار بإمكانه أن يختار من الأشكال ما يريد من ناحية. والنـزعة الديموقراطية التي تطغى على العالم اليوم والتي تبيح قسطاً وافراً من الحرية الشخصية والعامة للأفراد، صارت تنعكس على الإبداع، وتمنح المبدعين حريةً في فعل ما يريدون دون قيود من ناحية ثانية، وتقدم لـه قواعدَ التأليف المسرحي بعد أن نضجت عبر العصور من ناحية ثالثة.
لكن التأليف المسرحي، رغم كل ما جرى لـه وفيه من تغيرات وانفلاتات من القيود ومن قدرات على تكييف الأفعال والأقوال، يظل قائماً على أركان أساسية هي التي لا يكون مسرحاً إلا بها. وعلى الكاتب أن يتقيد بها حتى يستطيع كتابة النص القوي القادر على الوقوف فوق خشبة المسرح بجدارة. ولا يستطيع الكاتب أن يتخلى عنها حتى لا يفقد ما يكتبه صفةَ (النص المسرحي). مثله في ذلك مثل الشاعر الذي دمر كثيراً من قواعد الشعر القديم. لكنه مضطر إلى التقيد تقيداً صارماً بالوزن الشعري وبالقافية موضوعةً في شكلٍ ما، إن كان هو الذي يختاره، فإنها لا بد أن توجد في شعره.
ومن مصاعب ومكاسب الكاتب المسرحي المعاصر ندخل إلى أركان التأليف المسرحي التي لا يقوم المسرح إلا بها، منظوراً إليها من خلال ما وصلت إليه خشبة المسرح من ناحية، ومن خلال الحرية التي يتمتع بها الكاتب اليوم من ناحية ثانية، ومن خلال ضرورة توفرها في النص المسرحي المكتوب اليوم من ناحية ثالثة. وهذه الأركان سنأتي بها بعيدة عن أي اتجاه أو مدرسة أو توجه فكري معين. وكل ما سوف نقف عنده منها هو الجوهري الذي ظل فنُّ المسرح يتمسك بها. ويمكن للكاتب بعد إتقانها أن يذهب بها إلى حيث يريد في تأييد موقف فكري معين أو في تقديم أي شكل جمالي يبتغيه. فكأنها الهيكل العظمي الذي يكسوه الكاتب التكوينَ الذي يشاء في اللحم والدم. وكل ذلك لاستكمال النص المسرحي لعناصر قوته حتى يعود إلى مكانه المتميز في ميدان الأدب.

NoUr kasem
NoUr kasem
مساعد المدير
مساعد المدير

عدد المساهمات : 1954
تاريخ التسجيل : 08/09/2009
العمر : 37
الموقع : دمشق . . فلسطينية الأصل

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات  Empty رد: النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات

مُساهمة  NoUr kasem الأحد يوليو 18, 2010 8:08 pm

ثالثاً
أركان النص المسرحي
تأكيدها وإعادة نظر فيها



- 1 -

الحكاية المسرحية في حبكتها..
صديقٌ وفيٌّ للكاتب




1-تمهيد في لذة الحكاية

منذ فجر البشرية والإنسانُ يحب الحكايات. وما إن يدخلِ الطفل عالم المدركات، حتى تأخذ (كان ياما كان) صدىً رائعاً في نفسه وتفعل فعل السحر في تفكيره وإثارة انتباهه وخياله، وتظل تفعل في الإنسان هذا الفعل المثيرَ مهما بلغ من درجات العلم ومهما حُرِمَ منه. وسواءٌ كان شاباً فتياً أم كان هرماً يشكو العلل والأمراض، فإن الحكاية تجذب انتباهه وتسرقه أثناء سردها عن نفسه وأحواله. ويمكنك أن تتثبت من فعل الحكاية في الإنسان بأبسط الطرق وبشكل واقعي لا يحتمل الجدل أو المناقشة أو كثرة التحليل والتنظير. وذلك بأن تراقب مجموعة من الناس مجتمعين في مكانٍ ما لسبب ما كأن يكون حفلة عرس أو مناسبة تعزية أو جلسةَ مصالحة بين زوجين مختلفين. فما إن يأخذ أحدُ الموجودين بسرد (حكاية طريفة) حتى تجد الحاضرين - وهم من أعمار مختلفة ومن درجات ثقافية مختلفة - وقد انتبهوا عن الموضوع الذي اجتمعوا من أجله وانساقوا وراء الحكاية. أفما رأيتَ مرةً مجموعةَ المعزّين، مثلاً، يخلعون عن وجوههم ملامحَ الحزن الصادق أو المفتعل حين تُروى أمامهم حادثةٌ مثيرة أو قصة طريفة؟ ولو تمعنتَ في وجوههم لوجدت اللهفة إلى السماع تكون بمقدار جودة الراوي وحسن سرده للحكاية أو الحادثة. ولو تمعنت في وجوههم أكثر لوجدت أن درجة اللهفة واحدة متشابهة رغم اختلاف الأعمار والثقافات. فكأن الحكاية قادرةٌ قدرةً فائقةً على صهر مستمعيها في بوتقة واحدة تحوِّلهم إلى كتلة واحدة في لحظة الاستماع إليها، وقادرة على أن تغرس في نفوسهم أثرها ومغزاها بدرجة واحدة من القوة. حتى إذا تفرقوا عن مجلس الحكاية وعاد كلٌّ منهم إلى سياق حياته، عاد كلٌّ منهم إلى تحليل ما سمع. وعند ذاك يظهر تأثير الأعمار والثقافات في اتخاذ المواقف مما سمعوه وتلهفوا لتلقّيه. وأعتقد أن هذه اللهفة الإنسانية الفطرية لسماع الحكايات هي الدافع الأساسي لنشأة جميع فنون القول. فلم تكن فنونُ الأدب في عصور البشرية المختلفة وعند جميع الأقوام، شعراً أم قصة أم مسرحية، إلا مجموعةً من الحكايات التي يرويها الأدباء كلٌّ حسب طريقته. ويتلقاها المتلقون كلٌّ حسب ثقافته ومخزونه المعرفي.
ولم يكن الشعر - وهو أقدم فنون القول - إلا وعاءً للحكايات التي انبثقت عنها الملاحم والأقاصيص الشعبية. فلما امتد الزمن بالأقوام وُجِد عند كلٍّ منها أشكال خاصة بهم يتحلَّقون حولها في مجالس سمرهم. وكانت كل قصة تُروى في عصر من العصور عند أبناء القوم الواحد، تحمل خصائص ذلك العصر كما تحمل نزعاته الاجتماعية والسياسية، وتكرِّس قيماً يفتخرون بها ويحبون أن يغرسوها في نفوس أبنائهم حتى ينشؤوا عليها. فمثلاً، نجد أن الشجاعة والشهامة والكرم والصدق والوفاء ونجدة الملهوف - وما يتفرع عنها من معان إنسانية - هي المبادئ الأساسية التي دارت حولها جميع الحكايات التي رواها العرب منذ أقدم عصور الجاهلية حتى اليوم.
وكان القرآن أهم مصادر الحكايات عند العرب فيما اصطلح الدارسون على تسميته (قصص القرآن). وكانت هذه القصص واحدةً من أبرع وسائل الدعوة الإسلامية. ولعل أسلوب سرد هذه القصص من أبرع ما عرفه تاريخ الحكايات في العالم. ففي كل واحدة منها غرابةٌ تشدُّ انتباهَ القارئ أو المستمع. وفي كل واحدة منها "مغامرة" تثير عند أبطالها مختلفَ المشاعر الإنسانية المتراوحة بين الألم والخوف وبين الفرح والسعادة. ففي قصة يوسف تبدأ الإثارةُ منذ أن رأى أبوه الحلمَ الغريب. ثم تزداد الإثارة توهجاً حين يرميه إخوتُه في البئر ثم حين تحمله القافلة إلى مصر. ثم تمضي في حبكةٍ فاتنة وهي تصعد به من السجن إلى منصبٍ رفيع في بلاط فرعون. ثم تنتهي بأجمل النهايات حين يرتدُّ إلى أبيه نورُ عينيه. وقصةُ مريم أشدُّ غرابة وهي تستقبل الروحَ القدس الذي ينبئها بحمْلٍ غريب. وما أجمل ما ينتابها من مشاعر الخوف بهذا الحمل. أما لحظة ولادتها للنبي المرتقب فتبلغ أشد مواضع الحكاية توتراً. ثم تبلغ الحكاية ذروتها حين تشير إلى وليدها فيتكلم. ولو رحنا نستعرض قصص القرآن لوجدنا في كل واحدة منها كميةً وافرة من إدهاش القصِّ المثير الفاتن. ألم يقل القرآن، وقد صدق فيما قال، (نحن نقص عليك أحسن القصص)؟ وزاد القرآن على هذه الإثارة في مفردات حكاياته أنه كان يغير أسلوب سردها وطريقةَ تركيب وقائعها. فيأتي بها كاملةً مرةً. ويأتي بقسمها الأول مرة ثانية دون أن يتجاوزه إلى قسمها الثاني. ويأتي بقسمها الثاني أو جزئها الأخير مرة ثالثة. وفي كل مرة كان يُبرِزُ جانباً مثيراً من الحكاية أو يعيد صياغة الإثارة. فكأنه كان يصور المشهد الواحد من زاوية جديدة في كل مرة. وفي كل مرة كان يحشد في كل مشهد (لقطة) ساخنةً مثيرة. وإذا كانت غايةُ القرآن من (أحسن القصص) هذه أن يدعو إلى عبادة الله الواحد الأحد، فإنه سعى إلى أن أن يحقق هذه الغاية بجودةٍ رفيعةٍ في سرد الحكايات وبتفننٍ مذهل في أساليب سردها.
ثم كانت سيرةُ الرسول الكريم صلوات الله عليه - وهي أهم حكاية
عربية - حافلةً بالقيم الأخلاقية الرفيعة التي اتصف بها النبي من ناحية وأكدها رواةُ السيرة من ناحية ثانية. لكن هذه السيرة حافلةٌ أيضاً بكل ما هو مثير من الأحداث والوقائع التي تشكل - بمصطلحنا اليوم - مجموعةً من المغامرات الشديدة الصعوبة، والتي تجعلنا حتى اليوم نستعيدها بذلك الشوق المتلهف سواءٌ كنا متدينين أم لم نكن كذلك. ألا يعتزُّ العربي - مسلماً كان أم غير مسلم - بقصة نشأة النبي المثيرة وبحكايته الدرامية مع خصومه من أبناء مكة وهم الأدنَوْن قرابةً منه؟ ألا تثير العربيَّ تلك الغزواتُ التي رُوِيت لنا بأبهى صورة من صور القصِّ وجعلت النبي بطلاً شجاعاً وهو كذلك بحق، فكانت الفتنةُ به وبشخصه وبشجاعته؟ ألا نجد في غزوة حنين، مثلاً، واحدةً من أمتع القصص وأكثرها مدعاة للإثارة؟ فجيش المسلمين العرمرم كان يسير قوياً مدججاً بالسلاح مغتراً بقوته. وإذا به يشتته نفرٌ من رماة السهام. وإذا به يتبدد في لمحة عين. وإذا بقائد الجيش يصبح وحيداً. وإذا بعمِّه العباس يستنجد بقدامى المؤمنين. وإذا بهؤلاء الشجعان الصادقين يلتفّون من جديد حول القائد المهزوم. وإذا بهؤلاء القلة يستعيدون زمام المعركة. وإذا بأولئك المنتصرين يلقَوْن أشنعَ هزيمة إذ تُسبى نساؤهم وتُحتَجَنُ أموالهم ويُقضى على أكثرهم بالفناء. ألا يجد القارئ - عربياً كان أم غير عربي - حكايةً من أمتع الحكايات في هذه الغزوة المثيرة المدهشة؟
وإذا كانت سيرة الرسول الكريم واحدة من أبرع حكايات العرب، فقد كان لهم حكايات أخرى مثيرة أيضاً ومحمَّلة بالعبرة والمغزى التي يحبون أن ينشأ أبناؤهم على ما فيها من أخلاق اعتبرها العربُ حميدةً يفتخرون بها. ولعل (قصص العرب) كانت المادة الرئيسية في مجالس السمر وفي بلاطات الخلفاء والأمراء في طول الأرض العربية وعرضها من قرطبة في الأندلس الغربي إلى سمرقند وبخارى في شرق تلك الأرض القديمة. وكان العرب طوال العصور ينتجون الحكايات التي نصنِّفُها اليوم بأنها أساطير أو ملاحم أو حكايات شعبية أو سِيَرٌ للقبائل أو قصص للعشاق. وبغض النظر عن التسميات الاصطلاحية التي وضعها النقد الأدبي، فإن مختصر هذا الكلام أن الحكاية كانت زاداً للإنسان العربي في رحلة الحياة التي يعيشها.
ولم يكن أمرُ الإنسان غير العربي مختلفاً عن أمر العربي. وقد بدأت الحكايات عند مختلف الأقوام لبوساً للأفكار الدينية. ولعلها كانت الوسيلة الوحيدة لإقناع الناس بالمفاهيم الدينية مما يدل على عمق تمسك وتأثر الإنسان بالحكاية. فلبوذا قصة طريفة مدهشة. وقصة كونفوشيوس لا تقل طرافة عن قصة بوذا. ولم تكن أديان أوروبا قبل المسيحية أكثر من مجموعة من الحكايات المدهشة التي يجتمع فيها الغيبي الأسطوري بالواقعي. وإذا كنتَ اليوم لا تؤمن بمعتقداتها، فإنك تظل مفتوناً بأحداثها ووقائعها. فهكذا فُطِرَ الإنسان ولن تستطيع لفطرته تبديلاً.
في هذا التاريخ العريق للحكايات كان الشكلُ الأمثلُ لسردها أن تُروى أمام جمهورٍ يسمعها مباشرة من فم الراوي. وكان الرواة يلبُّون نزعةَ سماع الحكايات عند الإنسان بتشويق يخلق عند مستمعيهم حالةً من الاندغام الجماعي الحار المتلهف الذي يلتذُّ المستمعُ حين يشعر به. وهذا الاندغام الجماعي يصهر المتلقين في حالةٍ من التوحُّد اللذيذ ومن المشاركة الوجدانية العامة التي تجعلهم وكأنهم يشربون الحكاية المرويَّةَ أمامهم بنشوة فائقة. فإذا انفضَّ مجلسُ الحكاية أخذوا يستعيدون أحداثَها ويتبادلون الرأيَ في وقائعها، ويتفقون أو يختلفون في تقييمها بين مؤيد ومعارض. فإذا حدث هذا - وكان هذا يحدث دائماً - شعروا كأنهم شاركوا في صَوْغِ الحكاية وفي قصِّها. وتلمَّست قلوبُهم وعقولُهم أحداثَها بحرارةٍ لا يمكن أن تتولد مع الحكاية المقروءة.
وإذا كان الشعر، بعد أن ترك قصَّ الحكايات، يتشارك مع الحكاية في أنه يُروى أمام الناس، فقد ظل مترافقاً في النشأة والتأثير مع الحكايات. ومن أجواء رواية الحكايات والأشعار أمام الناس وُلِدت المسرحية. أما الرواية التي يقرؤها القارئ وحده ويستمتع بها وحده ولا يتشارك في التمتع بها مع غيره، فقد تأخرت ولادتها قروناً كثيرة. وإذا كان الدارسون يردّون وجود (الرواية) في أشكالها الأولى إلى بداية القرن السادس عشر في أوروبا وإلى أواسط القرن العاشر الميلادي عند العرب، فهم يؤكدون أيضاً أنها لم تكن في حقيقتها إلا تجميعاً للحكايات التي كانت تُروى في المجالس. فقد وجدوا أن (الحبكات الملحمية في العصور القديمة وفي عصر النهضة كانت تُبنى على التاريخ الماضي أو ما سلف من خرافة)([1]). وهذا الأمر نجده تماماً في الرواية العربية. فقد جُمِعَت عندهم مما كان يروى في المجالس. ومن ذلك، كما نعرف، حكاياتُ ألف ليلة وليلة، وسيرةُ عنترة والزير سالم والظاهر بيبرس وعشراتٌ غيرها من الحكايات المروية. وكما بدأ تجميع الحكايات العربية المروية في روايات مكتوبة بعد انتشار "التدوين" منذ أواسط العصر الأموي، فإن تجميعها في أوروبا بدأ أيضاً عندما أخذ عدد القراء يزداد عن عدد المستمعين. و(كل النقاد من هيغل حتى جون هالبرين مجمعون أن الرواية الحديثة بدأت في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر).([2])
ولم تستطع الرواية أن تنفصل بنفسها وتخترعَ أحداثَها بنفسها دون الاعتماد على مرويّات الرواة إلا مع بداية القرن التاسع عشر عندما أخذ الأدباء يستمدون شخصياتِ رواياتهم وأحداثَها من الواقع. وهي التي يسميها الدارسون "الرواية البورجوازية". (فقد كان ممتعاً بالنسبة إلى جمهور بورجوازي أن يودَّ التعرُّفَ على نفسه في شخصية البائع العادي بين عددٍ من شخصيات الرواية)([3]). ولذلك خرج لوكاتش (بأطروحته المشهورة بأن الرواية ليست إلا ملحمة البرجوازية التي ظهرت على مسرح التاريخ في أعقاب النهضة الأوروبية، وبالتحديد بعد الثورة الصناعية التي جعلت منها الطبقةَ السائدة في المجتمعات الأوروبية)([4]).وعند ذلك أصبحت شكلاً أدبياً جديداً يبتكر موضوعاتٍ جديدة. وتأخر ظهورها عند العرب إلى بداية القرن العشرين. وذلك عندما أخذ الأدباء العرب يخترعون أحداثاً واقعية. وإذا كانت نشأة الرواية الحديثة في أوروبا تستند إلى البورجوازية التي كانت ناهضةً حتى سُمِّيت الروايةُ باسمها، فإن أول رواية عربية وهي (زينب) دارت بين أوساط الفلاحين لأن الإقطاع كان ما يزال سائداً في الوطن العربي في بداية القرن العشرين، وكان الفلاح يشكل العمود الفقري للاقتصاد.
من هذه الإشارات السريعة لتاريخ (القصة) التي هي مدار الحكايات في تاريخ البشر نصل إلى نقطتين لا يمكن فهم (القصة في المسرح) من دونهما.
أولاهما أن الرواية الجامعة للحكايات القديمة ثم المبتَكَرة التي أحلَّت الواقعَ محلَّ الحبكات القديمة، قضتا نهائياً على مجالس السمر التي تُروى فيها الحكايات ويتولد فيها ذلك التشاركُ الوجداني الذي أشرنا إليه. فأفقدت الحياةَ واحداً من أهم تجلياتها وهو (اللقاء الجمعي) الذي يُثبت تاريخُ البشرية أنه مطلبٌ لا يمكن للبشر أن يستغنوا عنه. ودليل ذلك أن جميع الأديان منذ القديم حتى اليوم، تقوم العبادات الأساسية فيها على (التجمع في مكان حاشد) لأن هذا التجمع يخلق وجداً دينياً عميقاً في نفوس الناس. وقد ورث السياسيون والحكماء والمصلحون هذا الإرثَ الديني فاعتمدت دعواتهم على تجميع الناس في أماكن حاشدة تخلق لهم شعوراً جمعياً يساعد دعاواهم في الانتشار لأنها تحمل حماسةَ التجمع ووجدانيةَ اللقاء الجمعي. وبهذا الشكل ندرك مدى الخسارة الإنسانية الوجدانية والفكرية التي أوقعتها الروايةُ الجامعة للحكايات القديمة.
وثانيتهما أن الرواية الحديثة التي تخترع شخصيات واقعية وتستمد أحداثها من الواقع وتنحو نحو تصوير مكنونات الفرد الواحد، قضت على إمكانية خلق أجواء الأساطير والبطولات الخيالية. كما قضت على شيء أهم هو (بطولات الجماعات). فلم يعد بالإمكان أن يحتشد الناس في الروايات الحديثة كما كانوا يجتمعون في إلياذة هوميروس وفي غابة روبن هود وفي صحراء الزير سالم ومواقع الظاهر بيبرس. فالرواية الحديثة (فردية) في حين يحتاج البشر - كائناً ما كان عصرهم وبلدهم - إلى التلذذ بحكاية الجماعات بما فيها من حشد إنساني يحبون أن يمارسوه هم في حياتهم اليومية. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الرواية يقرؤها القارئ وحده ويستمتع بها وحده ولا يشارك في التمتع بها أحداً غيره، أدركنا مدى الخسارة التي أوقعتها الرواية في البشرية.
لكن البشر الذين لا يستطيعون الاستغناء عن الحكايات الجمعية القديمة وعن التجمع في أماكن عامة تمنحهم الإحساس الجماعي، وجدوا في استمرار المسرحية بديلاً كافياً عن كل ما جعلتهم الرواية القديمة والحديثة يخسرونه. فكانت (القصة) في المسرحية ملتقى جميع مشاعرهم
NoUr kasem
NoUr kasem
مساعد المدير
مساعد المدير

عدد المساهمات : 1954
تاريخ التسجيل : 08/09/2009
العمر : 37
الموقع : دمشق . . فلسطينية الأصل

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات  Empty رد: النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات

مُساهمة  NoUr kasem الأحد يوليو 18, 2010 8:10 pm

الوجدانية والإنسانية.
2- الحكاية في المسرحية

لقد وقفنا هذه الوقفةَ الوجيزة عند الحكاية وتاريخها لنـُزيل أوهاماً فنية ضالَّة وهي أن (القصة) ليست شيئاً أساسياً في المسرحية، وأن القصة ليست إلا وسيلةً للموضوع ووعاءً للفكرة، وأن الاهتمام بها يحوِّل المسرحية إلى مجرد تسليةٍ سرعان ما تتحول إلى أحبولةٍ لإفساد ذوقِ المتفرجين، وأن هذا الاهتمام بها يساعد الجمهورَ البورجوازيَّ على هضم العشاء الدسم الذي تناوله قبل حضور المسرحية، وأن قوامَ التجديد في المسرح - وفي المنهج البريختي على الخصوص - يقوم على تحطيم تسلسل الحكاية مما يُفقِدها إمكانيةَ جعل المتفرج (يندمج) بها وينشغل بمتابعتها عن التفكير في مراميها، وأن ذلك كله يتناقض مع مهمة المسرح في التحريض على التغيير. وشيوعُ هذه الأوهام يعني أن الفكرة النبيلة التي كانت وراء تجديد بناء المسرح العربي في النصف الثاني من القرن العشرين وعلى امتداد الوطن العربي، خالطها ضلالٌ كبير في شأن (القصة في المسرح).
وقد سادت هذه الأغلوطةُ الفنيةُ النقدَ المسرحي منذ أواسط سبعينات القرن العشرين. وتبادلها المسرحيون يومذاك بكثير من التشدُّق ظناً منهم أنه الفهمُ الجديد لفن المسرح. وقد ساعدهم على التشبث بهذه الأغلوطة الذميمة أن المسرح البريختي يقوم فعلاً بتحطيم تسلسل الحكاية، وأن مسرحيات بريخت الأولى كانت ذات حكايات سقيمة. وأكَّد لهم هذا الضلالَ أن المسرح المتمرد على تقاليد الدراما كانت أكثرُ مسرحياته ذاتَ قصة ضعيفة، وأن بعضَ أنواع المسرح التسجيلي ومسرحَ الغضب ومسرحَ القسوة - وكلُّها انصبت في النقمة على ظلم الإنسان - لم تكن تهتم بتقديم قصة جميلة فكانت قصصها أقرب إلى أن تكون سقيمة. وأكد لهم هذا الاتجاهَ أيضاً أن مسرح العبث أو المسرحَ الطليعي أو المسرحَ المجدد الذي ينتمي إليهما يهجر القصة الجميلة، وأن قوته تقوم في الدرجة الأولى على أنه (لا شيء يحدث في المسرحية) أي أن المسرحية تخلو من القصة. ولعل مسرحيات بيكيت ويونسكو وآداموف كانت النموذجَ الأمثلَ على قوة بناء المسرحية دون الاعتماد على قصة قوية جميلة. وهكذا ارتبطت فكرةُ التجديد في البناء المسرحي بفكرة هجران القصص الجميلة. وبناءً على هذا الموقف العدائي من القصة في المسرحية هوجمت كثيرٌ من النصوص والعروض المسرحية العربية لا لشيء إلا لأنها كانت محكمةَ السرد القصصي ومحكمةَ التطوير في البناء الدرامي للقصة. وكوفئت كثيرٌ من النصوص والعروض المسرحية بجُزاف النقد المادح لأنها تركت الإحكامَ في بناء القصة المسرحية. وقد ترك ذلك أثراً على بعض الكتاب المسرحيين العرب في عقدي سبعينات وثمانينات القرن العشرين. ولكنه ترك أثراً مدمِّراً على كتاب تسعينات القرن نفسه. فإذا شفع لضعف القصة في بعض نصوص الفترة الأولى أن كُتّابها كان لهم غاياتٌ فكرية واجتماعية وسياسية تحريضية على التغيير وعلى مهاجمة الفساد والظلم هجوماً كاسحاً، فإن ضعفَ القصة في نصوص تسعينات القرن العشرين لا يشفع لـه موقفٌ فكري ولا نهجٌ سياسيٌ أو اجتماعي. فبدت شاحبةً لشحوب قصصها. وفقدت حلاوةَ السرد القصصي كما فقدت قوةَ الموقف الفكري. ومن هنا ندرك لماذا تبدو مسرحيات هذا العقد وما تلاه كأنها لا وجود لها. فلا خشباتُ المسارح تتلقفها، ولا صفحاتُ النقد تهتم بها. وعلى الكتاب المسرحيين العرب أن يحذروا الحذر كله من الجري وراء تلك الأكذوبة المسرحية التي أورثهم إياها الجيل الذي عاش في الفترة التي يسميها تاريخ النقد المسرحي العربي (فترة الازدهار العظيم). وقبل أن نأخذ في تفنيد هذه الأكذوبة وفي وضع القصة المسرحية موضعها الصحيح، أردُّ القارئ الكريم إلى نصوص الكتاب السوريين من أمثال سعد الله ونوس وممدوح عدوان ورياض عصمت وعلي عقلة عرسان ووليد إخلاصي ومصطفى الحلاج وغيرهم، وإلى مسرحيات نعمان عاشور ومحمود دياب وميخائيل رومان وألفريد فرج وغيرهم من كتاب مصر. وإذا استعاد القارئُ النصوصَ القويةَ لهؤلاء فسوف يجدها تقوم أول ما تقوم على قصةٍ قوية البناء محكمة السرد. وإذا أعمل هؤلاء الكتابُ في قصصهم قطعاً لسردها حيناً أولاً، وإذا شحنوها بالمواقف الفكرية والسياسية والاجتماعية حيناً ثانياً، وإذا زج هؤلاء الكتابُ دائرةَ اهتمام المتفرج في الجانب الفكري من مسرحياتهم دون دائرة الإمتاع القصصي حيناً ثالثاً، فقد كانوا ماكرين مكراً شديداً حين فعلوا ذلك كله من خلال قصص جميلة وحكايات فاتنة. وأسوق للقارئ - على سبيل التذكير والمثال - حكايةَ المملوك جابر الفاتنة وحكاية الملك الذي وضع غيرَه على عرشه في مسرحيتي سعد الله ونوس (رأس المملوك جابر - الملك هو الملك) وحكايةَ الرجل الذي حاكموه لأنه ترك سيفه في مسرحية ممدوح عدوان المتوترة (كيف تركت السيف)، وحكايةَ الكاتب الذي حاول إرضاءَ قيصر فما جنى إلا الغضبَ في رائعة علي عقلة عرسان (رضا قيصر)، وحكايةَ رياض عصمت المثيرة في (لعبة الحب والثورة) أو في (السندباد)، وحكايةَ درويش عز الدين المؤلمة في مسرحية مصطفى الحلاج (الدراويش يبحثون عن الحقيقة) أو حكايته العصماء في مسرحية (احتفال ليلي خاص لدريسدن). أي أن هؤلاء الذين احتلوا مكانة مرموقة في تاريخ الأدب المسرحي العربي كانوا ممن يسوقون القصص الجميلة المثيرة. ولو راجعتَ مسرحيات من سبق هؤلاء من أمثال مراد السباعي، لوجدت الفتنة كبيرةً في قصص مسرحياتهم. ولو استعرضتَ كبريات المسرحيات المصرية لبعض الكتاب الذين ذكرناهم، لوجدتَ فيها من قوة القصة وجمالها مثلَ ما وجدتَ في نصوص الكتاب السوريين
.


***
إن ما تقدم يعني شيئاً جوهرياً في فن المسرحية هو أن القصة فيها مقصودةٌ لذاتها قبل أن تكون وسيلةً ومطيةً لأهدافها. وعلى الكاتب المسرحي المعاصر أن يعضَّ على هذه الفكرة بالنواجذ. وسبب ذلك لا يعود إلى ما تقدم ذكرُه من اهتمام الإنسان بالحكايات فحسب، بل يعود إلى سببين هما الأكثر جوهريةً وأصالةً. وهما:
آ- إن المسرحية هي الفن الوحيد الباقي من بين فنون القول الذي ما يزال يحتفظ بكل خصائص الفن الجمعي الذي يحتشدُ فيه الناس والذي ذكرنا أن البشر لا يستطيعون الاستغناء عنه. فهو يحقق للمتفرجين الالتقاءَ الحيَّ الذي يجعلهم يتلقون حكايته بحالة التوحُّد الوجداني. فيتشاركون في مشاهدته والاستماع إليه ثم يخرجون من قاعاته وهم يتبادلون الرأي حوله في لذة لا يقدمها لهم أي فن آخر. وقد تقول إن السينما والتلفزيون يقدمان قصصاً أمتع وأحلى وأبلغ في التأثير لما يملكان من وسائل خارقة في حشد المثيرات. وها هي الأفلام والمسلسلات التي تعرضها الشاشات الصغيرة والكبيرة اليوم قد بلغت مستوىً عالياً في تقديم الخارق من القصص والحكايات الواقعية والأسطورية والخيالية بحيث يمكن القول إن الشاشة في هذا العصر صارت ذهبية لماعة ولم تعد فضية فحسب. وهي بهذا الشكل تبدو أكثرَ قوة من المسرح ذي الوسائل المحدودة مهما بلغت صالاته من أدوات التقنية وتجهيزات الأخاديع والحِيَل. وقد يكون عرضٌ مسرحيٌ ما شديدَ الفقر فلا تزيد المرئيات فيه عن شجرة قميئة أو باب عتيق. فإذا قارن المتفرج بين ما تعرضه صالة السينما المجاورة لبيته أو التلفزيون القابع في بيته وبين ما يراه على المسرح، فسوف تبدو المقارنة في غير صالح المسرح. بل تبدو المقارنة نفسُها مضحكة لأن المقارنة يجب أن تتم بين شيئين متقاربين كالتلفزيون والسينما وليس بين شيئين متباعدين كالمسرح والسينما ووليدِها الأعورِ الدجال الذي هو التلفزيون. ومع ذلك، فإن المسرح يبدو، بوسائله البسيطة أقوى تأثيراً من فني السينما والمسرح لأنه يملك قوة لا يملكانها وهي أنه فن يشاهده (جمع إنساني متواصل) بكل ما يحفل به هذا الجمع من خصائص شرحناها. أما فن السينما، فمع أنه فن يُعرَضُ في صالاتٍ عامة ويحضره جمعٌ من الناس، فإنه يتحول إلى فن فردي بمجرد إطفاء الأضواء وبدء دوران الآلات. وليست العلاقة بين الفيلم وبين المتفرج إلا علاقةً بين صناعةٍ وبين مستخدمٍ لها. وأما التلفزيون فلا داعي لشرح علاقة مشاهده معه. فهو إنسان معزول حتى عن أفراد أسرته المتواجدين حوله. ولأن المسرح كذلك فإن لـه أساليبَه وأدواتِه النابعةَ من تركيب بنائه ومكان عرضه وطبيعة علاقته بالمشاهد. ومن المهم أن نذكر أن رجال المسرح أحسوا بالقلق والخوف حينما اكتُشِفت السينما وظنوا أنها ستقضي عليه. وحاول كثيرٌ منهم أن يستعير منها أدواتٍ يُدخِلُها إلى فن المسرح. ولكن الأمر لم يطُل بهؤلاء حتى أدركوا أن السينما لا يمكن أن تقضي على المسرح، وأن وسائلها المستعارة إليه كانت عبئاً عليه فهجروها وعادوا إلى وسائل المسرح القديمة ذاتها. وعندما طغى التلفزيون طغياناً كبيراً خاف المسرحيون - وما يزالون يخافون - من التلفزيون على المسرح أن يقضيَ عليه ويسرقَ منهم المتفرجين. وحاول الكثيرون منهم أن يستخدموا إبهارَ الصورة التلفزيونية. ومن هنا نشأ الإصرار على استخدام السينوغرافيا استخداماً واسعاً بحيث يصبح في كثير من الأحيان بديلاً عن مفردات العرض المسرحي كالنص والممثل. لكن الأيام تُثبت أن هذا اللهاث وراء تقليد الصورة التلفزيونية لم يكن أكثر من عبءٍ على المسرح. وبدأ المسرح - في العالم وفي الوطن العربي - يراجع دفاتره من جديد، ويقتنع بأن عليه أن يعود إلى أدواته الأساسية. وإذا كان المسرحيون يعودون إلى الأدوات الأصيلة للمسرح بكثير من الصعوبة والتردد، فإن ترددهم هذا يؤدي بهم إلى تأخير نهوض المسرح من جديدٍ بعد الانتكاس الذي عرفه في العالم وفي الوطن العربي منذ أواسط ثمانينات القرن العشرين. وعندما يتجرَّأ المسرحيون على العودة الصريحة الواضحة إلى أدوات المسرح الأصيلة، وهي النص والممثل، فسوف يجدون أن الجمهور يندفع إليهم بشوق ولهفة لأن الناس - كانوا وما يزالون - يسعَوْن سعياً حثيثاً نحو المسرح لأنه يحقق لهم، بأدواته ووسائله ذاتها، الالتقاءَ الجمعي الإنساني الذي لا يمكن لفن آخر أن يحققه. وسوف يكتشفون - وما أروع ما سيكتشفون - أن التلفزيون، وإن بدا خصماً لهم، فإنه ليس نِدّاً لفنهم. بل هو شيء آخر قد يأخذ من اهتمام الإنسان كثيراً من وقته ومن تفكيره. لكنه لن يكون بديلاً عن المسرح على الإطلاق. ولن يكون تأثيره كتأثير المسرح. ويا ليت المسرحيين يعجِّلون باكتشاف ذلك.
ب - إن المسرح هو الفن الأدبي الوحيد الذي يستطيع العودةَ إلى الملاحم والحكايات القديمة والأساطير والسير الشعبية القديمة التي ما يزال كلُّ شعب من شعوب الأرض يحنُّ إلى أجواء ما هو فيها من تراثه. فالرواية أصبحت عاجزة عن هذه العودة بعدما أصبحت (واقعية) تخترع شخصياتها وأحداثها من الواقع ففقدت القدرة على التحليق في أجواء الأساطير والبطولات الجمعية وفي غرابة الأحداث والوقائع. ودليل ذلك أن الرواية عندما ضاقت بواقعيتها منذ بداية القرن العشرين وأدركت مدى جفافها عندما ابتعدت عن منابع الحكايات القديمة، حاولت أن تكسر هذه الواقعية بالخروج إلى ما يخلخل الواقعية دون أن تستطيع الفكاك منها. ومن هذه الخلخلة نشأت أنواعٌ من الرواية كالسريالية والنفسية والاستبطانية والخارجة عن النسق المنطقي لترتيب الأحداث وإلى غير ذلك مما يمكن الرجوع إليه في الكتب التي تؤرخ للرواية الحديثة، دون أن تستطيع العودة إلى خلق الأجواء القديمة. أما المسرح فهو ما يزال يملك القدرة الكاملة على العودة إلى الحكايات القديمة وإلى أجواء الأساطير والسير الشعبية والحكايات الغريبة التي تحفِلُ بأبطالٍ أسطوريين يندّون عن الاندراج في بوتقة الواقع بمقدار ما يغوصون في النفس الإنسانية في مختلف منازعها. ودليل ذلك أن الملاحم والأساطير الأوروبية ماتزال منبعاً لكثير من المسرحيات. ودليل ذلك أيضاً ذلك الكمُّ الكبير من المسرحيات العربية التي أحيت الأساطير العربية وحكايات ألف ليلة وليلة كما أحيت سيرة عنترة وملحمة الزير سالم وغير ذلك من أجواء الأساطير. والمسرح يفعل ذلك ببساطة مدهشة. ويستطيع أن يقدم إلى متفرجه هذه الحكايات القديمة بالحيوية ذاتها التي كانت تتحقق لها في مجالس السمر القديمة. وتخلق لدى المتفرجين تلك اللذة الفائقة التي كان المستمعون يشعرون بها. ومن هنا نستطيع إعادة النظر في نشأة وتطور المسرح في العالم. فإذا كان الشكل الذي نسير عليه اليوم هو النسق الأوروبي الأرسطي الذي وضع المسرح اليوناني قواعدَه، فإن لكل شعب من شعوب الأرض أشكالَه المسرحية التي أخذ اليوم يعود إليها. ففي مصر القديمة وُجِدَ شكلٌ مسرحيٌ يقول كثير من المؤرخين إنه أستاذ المسرح اليوناني. ولشعوب شرق آسيا أشكالٌ مسرحية قديمة ماتزال موجودة في مسرحهم اليوم. وقد حاول كثير من النقاد العرب أن يجد في مجالس السمر العربية وفي احتفالاتها الدينية وغير الدينية أشكالاً بدائية من المسرح. وسببُ وجود هذه الأشكال أن رواة الحكايات القديمة كانوا يحاولون روايتها بكثير من الإثارة. وهذه الإثارة تتحقق في إبداع روايتها ببراعة المتكلم الراوي، أو بمحاولة تشخيص أحداث الحكايات. وهذا يعني أن تشخيص هذه الحكايات قديمٌ قِدَمَ الحكايات نفسها. وما يزال المسرح قادراً على إحيائها وتقديمها بوسائله البسيطة تلك التي أشرنا إليها.
إن هذا يعني قبل كل شيء وبعد كل شيء أن (القصة) في المسرحية عنصر أساسي وأصيل. وعلى الكاتب المسرحي إذا أراد أن يكون ناجحاً، أن يبذل كل العناية في تقديم القصة الجميلة الفاتنة. ويعني أيضاً أن على كتّاب المسرح العربي الذين بدؤوا يدرجون على ساحة المسرح في تسعينات القرن العشرين، أن يرجعوا عن الضلالة في التقليل من شأن القصة. وأن يرفضوا رفضاً باتاً وجازماً تلك الأكذوبة الأغلوطة التي ورثوها عن الجيل الذي سبقهم بأن القصة ليس لها كبير أهمية في المسرح. فبهذا الرجوع عن الضلال يمكن لهم أن يتقنوا فن كتابة المسرح
NoUr kasem
NoUr kasem
مساعد المدير
مساعد المدير

عدد المساهمات : 1954
تاريخ التسجيل : 08/09/2009
العمر : 37
الموقع : دمشق . . فلسطينية الأصل

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات  Empty رد: النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات

مُساهمة  NoUr kasem الأحد يوليو 18, 2010 8:12 pm

3-تعريف بالحبكة وتحذير

الحبكة في المسرحية هي التي تحول لذائذ الحكاية إلى (قصة مسرحية). فهي التي تشبك وقائع الحكاية في تعارض عنيف بين رغبات الشخصيات. وتعريفها الذي هو جوهرها هو (أن تترابط أحداثُ القصة بتسلسل منطقي). أي أنه حدث كذا ولذلك حدث كذا. أما القصة في الرواية فتأتي بتسلسل زمني. أي أنه حدث كذا ثم حدث كذا. وهذا التسلسل المنطقي هو الذي يخلق التشويق لأنه هو الذي يصل بالحكاية إلى منطقة حرجة تتأزم فيها أحوال الشخصيات ويبلغ الصراع ذروته التي يسأل فيها المتفرج نفسه: ماذا سيحدث بعد ذلك؟
وهذا السؤال المدهش: (ماذا سيحدث بعد ذلك) لقي هجوماً عنيفاً من النقاد الجامدي القلب. فقد اعتبروه مؤدياً إلى التعلق الزائد بالحكاية يصرف المتفرج عن مراميها. وما علموا أن هذا السؤال هو اللهفة الإنسانية للحكايات. وهو الذي يجعل الناس يتلهفون لرؤية المسرحيات كما كانوا يتلهفون للالتفاف حول الراوي أو الحكواتي. وهؤلاء النقاد الجامدو القلوب يعاملون المسرحية كما يعاملون قطعة نفيسة يُخشى عليها الكسر إن تزاحم الناس عليها أو إن لم تكن درساً في الغوص على نفسية الشخصيات تحليلاً وتدقيقاً. وحجتهم في ذلك أن الحبكة المتقنة الصنع بلغت ذروتها مع الكاتب الفرنسي (سكريب) الذي حوَّل المسرحية إلى نوع من الرواية البوليسية فنسيه تاريخ المسرح. وهذا صحيح. لكن الحبكة المتقنة الصنع استلمها العملاق النرويجي إبسن فامتلك ناصيتها وملأها بالفكر والتحليل والمعالجات الإنسانية، فقفز بفن الدراما قفزة كبيرة خلَّصتها من كثير من شوائبها. وإذا أردنا أن تعود للمسرح نكهتُه وتلهف الناس عليه، فقد وجب علينا أن نعود إلى ذلك السؤال المدهش: ماذا سيحدث بعد ذلك؟ ومفتاح هذا السؤال هو الحبكة.
وتتألف الحبكة من مراحل ثلاث هي: (التمهيد - الوسط - النهاية). ففي التمهيد يقدم الكاتب شخصياته ويرمي الخيوط الأولى للحكاية. وفي الوسط يزج الشخصياتِ في لحظة تأزم الصراع. وهنا تأتي العقدة أو أزمة المسرحية التي يمسك فيها الكاتب بأنفاس المتفرج ويجعله يتساءل بلهفة: ماذا سيحدث بعد ذلك؟. وفي النهاية تنحلُّ الأزمات وينتهي الصراع وتُختَتم الحكاية.
إن هذا التنسيق للحبكة بمراحلها الثلاث هي الصيغة التي وصلت إليها المسرحية في القرن التاسع عشر بعد طول تجوال على خشبات المسارح عبر القرون وعلى امتداد البلدان. وهي التي يصفها النقاد بأنها (البناء التقليدي للمسرحية). وهي التي ركبتها الواقعية. وهي التي تمرد عليها المؤلفون منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى نهاية القرن العشرين. وهي التي استمات المؤلفون العرب حتى يتقنوها منذ أوائل تعرفهم على المسرح حتى أواسط القرن العشرين. وهي التي حاولوا التمرد عليها منذ منتصف ذلك القرن. فخلقوا
- بتقليدها وبمحاولات الخروج عليها - فترة الازدهار في مسرحهم.
ورغم أن تاريخ المسرح عرف محاولات التمرد على تسلسل وترابط عناصر الحبكة، فإنها كانت أكبر من كل محاولات الخروج عليها. فهي القبضة الحديدية التي تمسك بخناق كل مسرحية شاء الكاتب أم أبى لأنها الشكل الوحيد الذي لا بد أن تسير عليه المسرحية. وكل محاولات الخروج عليها كانت عبارة عن تعديل لأركانها أو تقديماً وتأخيراً لهذه الأركان، أو كانت قطعاً لتسلسلها المتلاحم. حتى المسرحيات التي لا حكاية فيها لأنه لا شيء يحدث، لم تستطع الخروج عن قبضة الحبكة الحديدية. فهي مبنية بإحكام التتابع المنطقي للأحداث. فإذا خلت من مراحلها الثلاث: البداية والوسط والنهاية بهذا الوضوح الجلي، فقد كان لها بداية لا شيء يحدث فيها. ووسط لا شيء يحدث فيه. ونهاية لا شيء يحدث فيها.
وإذا كان المؤلفون العرب قد ادَّعوا الانفلاتَ من سيطرة الحبكة فقد كانوا كاذبين في دعواهم. فإن المسرحيات الكبيرة التي كتبوها كانت ذات حبكة محكمة التسلسل بذلك الرباط المنطقي الصارم.
ولا أريد الدخول في تفصيل مراحل الحبكة الثلاث: البداية والوسط والنهاية. لكني أريد الوقوف عند (البداية) التي تسمى التمهيد. فهي أصعب أركانها ومقتل جمالها وخاصة حين انتشرت الواقعية. ففي الواقعية لا بد أن تقوم الشخصيات في المسرحية بأفعال موازية لأفعالها في الحياة. فحين يدخل الرجل بيته، يقوم بخلع حذائه ومعطفه. ويلبس الحذاء واللباس المنـزليين. وينادي زوجته أو ابنته. ولا بد أن ترحب به الزوجة أو الابنة المستقبلة. ولا بد أن تسأله عن شؤون النهار وعن سعيه فيه. ولا بد أن يستتبع ذلك رداً من الرجل. ولا بد أن يكون هذا الرد متضمناً انزعاجاً أو سروراً. وقد يسوقهما الحديث إلى الكلام عن شخص آخر وآخر.
صحيح أن هذا الحديث هو المفتاح الأول للتعرف على الشخصيات وأطراف المشكلة التي ستبنى عليها الشخصيات والحكاية، لكن الواقعية التي طالبت بأن يكون الفعل المسرحي شبيهاً بأفعال الحياة، أوقعت التمهيد في الإطالة. والإطالة تهدد المسرحية بالوقوع في الملل. وهذه الإطالة هي الدودة السامة التي نخرت في ركن التمهيد في المسرحية الواقعية وفي الأنواع التي تلتها لأن كتابها يرغبون أن يماثلوا أفعالَ الحياة على عكس ما فعله كتاب الكلاسيكية والرومنسية. والمثال على ذلك - كما يقول أحد النقاد الظرفاء - أنه لا يكاد المتفرج يجلس على مقعده حتى يكون (الملك لير) قد وزع ملكه على بناته، في حين يحتاج الكاتب الواقعي أو المعاصر إلى زمن طويل يتثاءب فيه المتفرج حتى يكون الملك لير قد فعل ذلك.
ولو سألنا عن مصدر هذا التطويل للتمهيد لوجدناه عند ستانسلافسكي الذي وضع أسس الإخراج المسرحي بعد أن استمدها من الواقعية ثم رسَّخها وقيَّد الناس بها. وإليكم الدليل.
في الدرس الذي يلقيه ستانسلافسكي على طالبَيْه حول الدخول إلى مسرحية (عطيل)، ينتهي إلى إلقاء التعليمات التالية:
(ادخلا وانظرا حولكما للتأكد من عدم وجود أحد يراقبكما أو يسترق السمع. بعد ذلك أحيطا بنظركما جميعَ نوافذ القصر. ترى؟ هل يتسرب منها النور؟ هل يمكن من خلالها رؤية أحد من سكان البيت؟ فإذا خُيِّل إليكما أن ثمة أحداً يقف وراءها، فحاولا أن تجتذبا انتباهه إليكما. من أجل ذلك لا يكفي أن نصرخ. بل يجب أن نتحرك أيضاً ونلوح بأيدينا. قوما بمثل هذا الكشف والتحقق في أماكن مختلفة وذلك بالتوجه إلى نوافذ مختلفة. ابلُغا في تنفيذ هذه الأفعال حداً من البساطة والطبيعية الحياتية يدفعكما إلى الإحساس بالصدق والإيمان بهذا الصدق فيزيولوجياً. وعندما تتأكدان بعد عدد من المحاولات أنه ما من أحد يسمعكما، فكِّرا بإجراءات أكثر فعالية وأقوى حسماً. اجمَعا عدداً كبيراً من الحصى الصغيرة واقذفا النوافذ به. طبعاً لن تصيبا الهدف دائماً. ولكن عندما تنجحان في ذلك، راقبا بإمعان لترصُّدِ ظهور أحدٍ ما من سكان البيت. إن إيقاظ أحدهم يكفي لإيقاظ الآخرين. هذه المناورة لن تنجح معكما على الفور. وستضطران لتكرارها بالتوجه إلى نوافذ أخرى. أما إذا لم تُجْدِ محاولتُكما هذه أيضاً، فابحثا عن وسائل وأفعال أقوى. حاولا تقوية الضجة والطرْقِ لتعزيز الصراخ والصوت. من أجل ذلك يجب استخدام الأيدي والتصفيق بالأكف. اخبطا بقدميكما على بلاط المدخل...
NoUr kasem
NoUr kasem
مساعد المدير
مساعد المدير

عدد المساهمات : 1954
تاريخ التسجيل : 08/09/2009
العمر : 37
الموقع : دمشق . . فلسطينية الأصل

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات  Empty رد: النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات

مُساهمة  NoUr kasem الأحد يوليو 18, 2010 8:16 pm

خصائص القصة المسرحية وعلاقتها بالحبكة

إذا كان للقصة في المسرحية كل هذه الأهمية، فإن ثمة خصائص تحقق لها هذه الأهمية التي وصفناها لها، وثمة كيفيةٌ تتحقق بها فعاليةُ هذه الأهمية في البناء المسرحي. وبعبارة أخرى، ثمة جماليات للقصة عند تحولها إلى حبكة درامية.
والقصة في المسرحية لا تكون جيدةً إلا إذا كانت جميلةً تُثير لدى المتفرج الترقُّبَ والتوجس ولذةَ المتابعة، وأن تمتلئ بالحيوية والحرارة، وأن تكون مشحونةً بالصراع الذي يحبس الأنفاس. وهذه القصة الجيدة الجميلة هي التي تتقطَّعُ أعناق الكتاب للوصول إليها. وهي التي لا يمكن الوصول إليها إلا إذا امتازت بخصائص لا بد من الاتِّصاف بها رغم أنف جميع المحاولات النقدية التي حاولت تقليلَ أهميتها، وهي التي لا بد من عودة كتابنا المسرحيين إليها إذا أرادوا أن يثبتوا قدمهم في ميدان التأليف المسرحي، وهي التي أدى الافتقارُ إليها إلى هبوط كثيٍر من نصوصنا المسرحية.
أول هذه الخصائص أن تكون غريبةً مثيرةً تقرُب من حالة الاستثناء عن القاعدة مما يخلق حالةَ الدهشة والتوفز ولذةَ المتابعة عند المتفرج. ولو راجعنا كبريات المسرحيات في تاريخ العالم لوجدناها قصصاً نادرةَ الحدوث في الواقع. فليس كلُّ واحد يقتل أباه ويتزوج أمه. وقليلاً ما يقف أحد الأخوين في صفٍّ ويقف الأخ الثاني في صفٍّ مضادٍّ لـه ويتحاربان ويقتلان بعضهما. ومن النادر أن نجد في تاريخ العروش والملوك من يوزع مُلْكَه بين بناته الثلاث وهو على قيد الحياة. ونادراً ما نجد شاعراً طويل الأنف يعشق فتاة جميلة فلا يبوح لها بحبه لأنها تحب شاباً وسيماً. وإذا به يكتب القصائد الغرامية ويعطيها لغريمه الوسيم حتى يتقرب إليها.
أتقول إن هذه الغرائب مقتصرة على المسرحيات التي استمدَّت قصتَها من الأساطير وحكايات التاريخ؟ تعال إذن إلى المسرحيات التي استمدَّت قصتَها من وقائع الحياة اليومية. وسوف تجد أن كبرياتها قامت أيضاً على غرائب القصص. فليس كلُّ طبيب في إحدى المدن يكتشف جرثومةً في مياه الشرب ويكون أخوه رئيسَ بلدية تلك المدينة ومستفيداً من مشروعٍ على المياه نفسها. وإذا بالأخ الثاني ينهش لحمَ أخيه حياً حتى يورده موارد الهلاك كما في مسرحية إبسن (عدو الشعب). وليس كلُّ زوج يدفع زوجته إلى حضن رجل آخر لكي يصون شرفَها كما فعل أوستروفسكي في (لكل عالم هفوة). وليس من العادي أن يجتمع في أحد الأقبية أكثرُ من عشرة أشخاص بينهم اللص والنبيل السابق والشحاذ والطالب والحذّاء كما فعل غوركي في (الحضيض).
ولا شكَّ أن كتاب العصر الحديث يجدون صعوبةً كبيرة في شحن مسرحياتهم بالغريب الشاذِّ من الأحداث والوقائع لأن موضوعاتهم مأخوذةٌ من الحياة اليومية العادية التي هي المصدرُ الوحيد لمادة قصصهم. وإذا كانت الأساطير والملاحم والحكايات القديمة تعطي الغرابةَ مما يسهِّل على الكاتب تحقيقَ هذه الخصيصة، فإن الحياة اليومية العادية تتأبّى على هذه الغرابة. ومن هنا ندرك نقطة هامة هي أن كتاب المسرح منذ اتجاهه نحو الواقعية كانوا أمهر في صناعة المسرح ممن سبقهم حين استطاعوا أن يستخلصوا الغريبَ من العادي. ومن هنا أيضاً نقف عند نقطة تأثَّر بها أجيالُ الكتاب المسرحيين العرب المحدَثين فأصابهم التأذّي دون أن يكون لهم كبيرُ ذنبٍ في هذا التأثر المؤذي. وهذه النقطة هي ترجمةُ الكثير من المسرحيات الواقعية ذات القصة العادية غير الغريبة إلى العربية تحت اسم (المسرح العالمي). فهذه التسمية توحي بأن هذه المسرحيات تحتلُّ مكانة رفيعةً في تاريخ المسرح. والحقيقة أنها مسرحيات عادية لا تصلح مقياساً للمسرحية الجيدة التي تتجاوز حدود الزمان والمكان. وقد أدّى احترامُها إلى الاعتقاد أن القصة العادية تصلح مادة للمسرحية. فنتج عن ذلك كثيرٌ من المسرحيات العربية التي لا تحتفظ بقيمة كبيرة لسبب بسيط جداً وبليغ جداً هو أنها اعتمدت قصصاً عادية ليس فيها (الغرابة) التي هي جوهر القصة المسرحية.
ويستطيع الكاتب أن يأتي بغرائب القصص من الحياة اليومية العادية حين يأتي من الحياة المعاصرة بالنادر من وقائعها. ولن يستطيع أن يفعل ذلك إلا إذا أدرك أن (محاكاة الواقع) التي هي الأصل في المسرحيات الواقعية ليست ما (وقع فعلاً) بل هي (ما يمكن أن يقع). فبهذا المفتاح السحري يفتح الكتاب المسرحيون مغاليق الغرائب من الأحداث ويدفعون قصص مسرحياتهم إلى نقطة الدهشة التي تمتاز بها المسرحيات ذات القصة التاريخية أو الأسطورية.
ثاني هذه الخصائص أن يكثر في المسرحية (الفعل) وأن يترافق باستمرار مع (الحوار). والمسرحيات الناجحة هي التي تعجُّ بالنشاط حتى كأنها خلية نحل. فإذا كثر الجدلُ والنقاشُ وقلَّ الفعل، انصرف المتفرجُ عن المسرحية لأنه لم يأتِ لسماع محاضرة فكرية مهما كانت مهمة. وإذا كثُرَ الفعلُ وقلَّ الحوار فقد يستطيع العرضُ المسرحي أن يشدَّ انتباهَ المتفرج، لكنه يكون قد خرج به من عرض مسرحي إلى نوع من السيرك أو الأكروبات. ولن يكون مثلُ هذا النص قادراً على الوقوف بنفسه قوياً لأنه هجر أحدَ أهم أركان المسرحية وهو الحوار الجيد الجميل. ولنتذكّر دائماً أن المسرحية في نهاية الأمر نوعٌ من الأدب الذي تقوم فيه اللغة بصوغ الحكاية وتحديد مسار القصة. ولنأخذ مثالاً على ذلك مسرحية (هملت) العاجز عن الفعل لأنه متردد، والذي يمضي في المسرحية كثيرَ الثرثرة. ولا يقل أصدقاؤه عنه ثرثرةً تكاد في نهاية الأمر أن تجعل المسرحية حواراً محضاً. لكن هذه الثرثرة الكثيرة تترافق بعدد كبير من الأفعال الكبيرة. فهو يلاحق شبح أبيه. ويقوم بالتحقيق على طريقة القصة البوليسية ليتأكد من أن عمه قتل أباه. ويعيد تمثيل الجريمة فيوغل في القصة البوليسية على طريقة تمثيل الجريمة. ويصطنع الجنون فيتيح لـه ذلك أن يأتي بأفعال كثيرة تحول المسرحية إلى خلية نحل. ويتمادى في الأفعال حتى يقتل أحد الوزراء وحتى تنتحر حبيبته. ثم يبارز خصمه ويموت قتلاً معه.
وقد افتُتِنَ أغلبُ كتاب المسرح العربي منذ بداية تسعينات القرن العشرين بـ (الفعل) افتتاناً شديداً. ومع أنهم يقدمون نصاً مسرحياً قائماً على الحوار، فإن هذا النص أقرب إلى السيناريو منه إلى الحوار المسرحي. ولعل انجرافَهم وراء لعبة التلفزيون الخادعة وجريَهم وراء (الصورة) هو الذي حوَّل الكتابة عندهم من (نص مسرحي) إلى (سيناريو مسرحي). فخرجوا من حومة المسرح مأسوفاً عليهم لأنهم ضيَّعوا موهبتهم حين تجاهلوا العناصر الأبدية لفن كتابة المسرح. والطريف في الأمر أن الفئة المسيطرة من هؤلاء الكتاب هم مخرجون تحولوا إلى كتاب. ولذلك تجد الإعلانات عن العروض المسرحية أنى ذهبتَ في أرجاء الوطن العربي على الشكل التالي: (نص وإخراج فلان). وحين حوَّلوا النص المسرحي إلى سيناريو يخدم رؤيتهم الإخراجية ساروا في طريق (تطويع النص للعرض). وهذه الطريق تناقض تاريخ المسرح كله. وما أشد التباينَ بين كتاب هذا العقد وما تلاه، وبين كتاب الفترة التي سبقته. فقد كان الإخراج يقصد إلى إبراز عناصر القوة في النص المسرحي. ولنتذكر أن الكتاب الذين كانوا مخرجين في عقود ستينات وسبعينات وثمانينات القرن العشرين كانوا قلة في كل أرجاء الوطن العربي. وكثيراً ما كان التعامل بين المخرج والمؤلف يتم من خلال (تحسين النص المسرحي) لإبرازه مادةً أساسية في العرض المسرحي. ولنا في التعاون بين فواز الساجر وسعد الله ونوس وبين ممدوح عدوان ومحمود خضور خيرُ نموذجٍ على تحسين النص المسرحي وإلغاءِ ما هو زائد فيه باعتباره نصاً مسرحياً لا باعتباره مادة كلامية لعرض مسرحي. وهنا لا بد من أن نهتف بكتابنا المسرحيين بأعلى صوت: (احذروا من أسلوبكم المريض. وكونوا كتاباً لا تهتمون بالإخراج. فإذا أردتم أن تُخرِجوا نصوصكم بعد ذلك فاحرصوا على تحسين نصوصكم المسرحية من خلال إحياء القصة المسرحية على خشبة المسرح. فبتقديم الحكاية المدهشة فحسب، تكتبون نصوصاً مسرحية).
ثالث هذه الخصائص أن تكون الأفعال والأقوال في بناء القصة مرتكزةً إلى الأسباب النفسية بحيث يبدو الكلام والفعل ضرورةً لا بد منها. فقتلُ الرجل لأبيه أو خيانتُه لوطنه أو هجرُه لحبيبته أفعالٌ لا بد أن يسبقها كشفٌ نفسي بالحوار حتى تأتي منطقيةً معقولة مقبولة مهما بدا من شذوذها في الحياة الواقعية.
وعندما يهتم الكاتب بالأسباب النفسية لحوار وأفعال الشخصيات، فإنه يدفعها - غصباً عنها - إلى التغير والتطور. ويمنح المسرحيةَ حلاوة وتشويقاً هما السببان اللذان من أجلهما يذهب المتفرج إلى المسرح. فإذا لم يحدث هذا التغير والتطور بدت المسرحية راكدةً في بركة آسنة من الدوران في المكان. وهذا التطوير والتغيير هو الذي يخلق ما يسمى في بناء المسرحية (التصاعد الدرامي). ويقوم هذا التصاعد على ركنٍ ركينٍ في الأفعال والأقوال هو شحذُ وصقلُ وتحديدُ الفعل وردِّ الفعل. وهو ما يسمى في مصطلحات النقد المسرحي (سجلَّ الضغط والاستجابة).
إن دفع القصة في هذه السبيل الوحيدة الصارمة هي التي تحوِّل الحدثَ الغريب الذي يجب أن تقوم عليه المسرحية من مجرد قصة إلى (قصة مسرحية). وهي التي تعود بالمسرحية إلى منابعها الأولى وتحفظ لها أخصَّ خصائصها وهي أنها الشكل الأدبي الوحيد الباقي من مجالس السمر القديمة وأماكن الاحتفالات العامة. وعلى الكتاب المسرحيين أن يدركوا بكل عمق وإصرار أنهم ورثة الرواة والحكواتية القدامى، وأنه مطلوبٌ منهم في عصر التكنولوجيا والسينما والتلفزيون أن يحافظوا - مستعينين بوسائل التكنولوجيا - على صفتهم القديمة هذه. وهاهو العالم كلُّه أمامنا يؤكد هذه المهمة لكتاب المسرح والعاملين فيه. فقد اخترع العالم في عقد تسعينات القرن العشرين (المسرح التجريبي) الذي هجر هذا الدورَ الافتتاني لقصص المسرح، وتخلى عن تقديم المدهش المثير من الحكايات. واستخدم بديلاً عنها تقنيات التكنولوجيا ظناً منه أن المتفرج يندهش بها. وإذا به ينهزم أمام المتفرجين هزيمة نكراء. وإذا به - بعد أكثر من خمسة عشر عاماً على ولادته - يعجز في جميع أنحاء العالم وفي وطننا العربي عن تقديم نص مسرحي واحد قوي. فكان الموجةَ المسرحيةَ الوحيدة في تاريخ المسرح التي ليس لها نصوص قوية. ولأنه دون نصوص، فإنه دون ملامح. ولأنه دون ملامح، فإن عروضه متشابهة أنى قُدِّمت. ولأنها متشابهة، فقد فقدت خصوصيتَها التي يتقدم بها كلُّ عرضٍ مسرحي إلى أبناء قومه فيفتنهم ويدهشهم. ولأنها دون خصوصية، فإنها لم تترك آثارَها الفكرية على المتفرجين. ولأنها لم تترك هذه الآثار، فإنها تبدو معلقة في الفراغ. ولأنها معلقة في الفراغ، فإنها ستبقى في الفراغ دون أن تدخل سياق التاريخ الأدبي والإنساني والفني للبشرية.
إن هذه الخصائص الثلاث للقصة المسرحية والتي تجعلها ذات تأثير وحيوية وجمال، لا قيمة لها إذا لم توضع في بناء محكم متسلسل يسميه نقاد المسرح (الحبكة المسرحية). ولا أريد الحديث عن صناعة الحبكة فهي معروضةٌ بوفرةٍ في كتب النقد المسرحي. ولكني ألخِّصها بأنها هي التي تضع جميعَ عناصر الحكاية من الشخصيات والحوار والأفعال ضمن طرفي الصراع المسرحي الذي لا يكون المسرحُ مسرحاً إلا به. ولن تُحقِّقَ الحبكةُ وضعَ الصراع في طريق التصاعد إلا إذا كانت متقنةً شديدةَ الإتقان. ولن تكون متقنةً إلا إذا حذف الكاتب كلَّ فعل أو قول يؤخر تصاعد الصراع المسرحي وكلَّ فعل أو قول لا يزيد شخصياته إيضاحاً وتوتراً.
ولا يظنَّنَ أحد أن الحبكة بهذا الشكل هي الحبكة التقليدية. وآهِ ثم آهِ من الرأي النقدي الشديد الخطأ الذي حرَّم على كتابنا المسرحيين اعتناءَهم بالحبكة بحجة أنها تقليدية. فهي أساس المسرح الذي لا يستطيعه إلا يدٌ صارمةٌ صَناعٌ أدركت خصائصَ المسرح وطبيعةَ وجوده كما أدركت خصائص القصة المسرحية التي نؤكد مرة بعد مرة أنها الشكل الوحيد الباقي من الاحتفاليات الجمعية التي تُروى فيها الحكايات. فليرجِعْ كتابُنا إلى إتقان الحبكة. وليعلموا أنها صديقهم المحبُّ وليست عدوَّهم كما أقنعتهم الكتابات النقدية السقيمة التي تتجاهل ماهية المسرح وتتجاهل تاريخه ولا تهتم بجمهوره. وليعلموا أن جميع التيارات التجديدية التي حطمت المسرح التقليدي الأرسطي قامت على تقسيم مراحل الحبكة ولم تقم أبداً على تقطيع أوصالها، وقامت على حبكات قوية صارمة لم تخرج أبداً عن صفاتها. وكل ما فعلته أنها وضعتها في سياق جديد كان أشدَّ إتقاناً لها. أتريدون الدليل على ذلك؟ ارجعوا إذن إلى نصوص بريخت القوية مثل (الأم شجاعة) أو (غاليلو غاليلي). فسوف تجدون فيهما حبكةً قوية متينة هي من أبرز حبكات المسرحية في تاريخها الطويل. وارجعوا إلى مسرحية (انتظار غودوت) التي يعتبر النقاد أنها النموذج الأمثل لا لهجران القصة المثيرة فحسب، بل ولهجران الحبكة المتقنة أيضاً، ويضعونها في رأس قائمة (المسرح الثوري) الذي انصبَّت ثوريتُه على النهج الأرسطي أي التقليدي. وسوف تكتشفون أن هذه المسرحية تقوم على قصة مدهشة غريبة فاتنة هي قصة رجلين ينتظران وهماً لا يأتي. والغرابة هنا تكمن في حكاية الانتظار المتلهف الذي يجعلك تقول كل لحظة: الآن سيأتي المنتظَر فإذا به لا يأتي. وإذا ضرب الكاتبُ الحبكةَ التقليدية بأنه لا شيء يحدث في المسرحية، فإن هذا الشيء الذي لا يحدث موضوعٌ في سياق حبكة صارمة غايتُها أن تؤكد باستمرار أنه لن يحدث شيء. ولأن كثيراً من الكتاب لم ينتبهوا إلى غرابة القصة المثيرة وإلى الإتقان الشديد للحبكة، فقد فشلت جميع النصوص التي حاولت السير على نهجها لأنها خلت من غرابة القصة وإتقان الحبكة.
إنني لا أدعو الكتاب إلى العودة إلى البناء التقليدي للمسرحية. لكني أقول لهم: إن السبيل الوحيد للعودة إلى كتابة النص القوي هو ركوب متن الحبكة القوية المحكمة البناء. فإن أتقنه الكاتب فقد امتلك صناعة المسرح. وهي التي أثبت تاريخ المسرح أنها جوهره وسرُّ قوته. وبكلمة موجزة: إنها صديق الكاتب وحبيبته الوفية
.
NoUr kasem
NoUr kasem
مساعد المدير
مساعد المدير

عدد المساهمات : 1954
تاريخ التسجيل : 08/09/2009
العمر : 37
الموقع : دمشق . . فلسطينية الأصل

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات  Empty رد: النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات

مُساهمة  NoUr kasem الأحد يوليو 18, 2010 8:21 pm

2 -
الصراع المسرحي..
براعة فنية ورؤية اجتماعية


1- تمهيد في معنى الصراع المسرحي

يكون الشارعُ في الحي الهادئ ساكناً وقد انصرف الناس فيه إلى شؤونهم لا يلفت انتباهَهم عنها شيء. وفجأة ينبثق من زاوية بعيدة فيه شجارٌ بين شخصين. وإذا بالمنشغلين يتركون ما في أيديهم ويراقبون المشاجرة بلذة خفية مادامت لا ضرر فيها. فإذا برزت السكاكين هجم بعض الشجعان لفضِّ النـزاع. فإذا جُرِّدت المسدسات قلَّ عدد الشجعان المبادرين إلى التدخل. فإذا انطلق الرصاص بادر المشاهدون إلى الهرب. فإذا وقعت الجريمة صارت مادة حديث لأهل الحي يتبادلونه بمزيج من الإثارة والتشوق واللهفة. فإذا جاءت الشرطة صارت المادة المروية أغنى في نقل الخبر وفي المتعة المرافقة لـه. وسرعان ما يتأوّل الناسُ أسباباً للشجار وما أدى إليه. وكلما كانت الأسباب ضخمة كانت أشد إثارة. فالشتيمة أقلُّ إقناعاً بالجريمة من محاولة التحرش بالزوجة أو البنت أو الأخت. والتحرش بواحدة منهن تخلق عند الناقلين للخبر والمستمعين إليه تشوقاً كأن ما جرى فيلم سينمائي مثير. وما يزال أهل الحي يحللون الأسباب وصولاً إلى النتائج دون أن يعرفوا كثيراً من الحقيقة حتى لا يبقى أحد جاهلاً بما جرى. ويعيش الحي أياماً جميلة على هذه الأخبار المتناقَلة. فإذا سمعتَ من أحدهم أسفاً على ما جرى فاعلم أنه كاذب بمقدار ما هو متمتع.
ذلك هو الصراع المسرحي. فالمسرح نموذج أو محاكاة أو صورة للحياة. وأشدُّ إثارات الحياة هو الصراع. وما ذلك إلا لأن الحياة البشرية نفسها قامت منذ الأزل على الصراع بين الناس كما قامت على الصراع مع الطبيعة. فكانت الحروب أشد أنواعها عنفاً وقسوة لم يردعا البشرية بعد قرون متطاولة عن شرورها. وكان اختراقُ الجبال وتمهيدُ الأراضي جانباً آخر من الصراع يخلق عند الناس متعة التحدي وفرحة الانتصار. وإذا كان الصراع ضغطاً من جانب يلقى استجابة عند الجانب الآخر، فقد كان وصف الصراع المسرحي بأنه (سجلُّ الضغط والاستجابة) أدقَّ وصف لـه. ولم يكن الصراع في المسرح أجمل عناصره - وإن لم يكن أخطرها - إلا لأنه مستمد من جوهر الإنسان. فكان العنصرَ الأول الذي يتيح لك أن تقول إن المسرح محاكاة للحياة. ويحق لك بعد ذلك أن تفهم المحاكاة على أي شكل تحدّث به المؤرخون والناقدون من أيام أرسطو حتى اليوم. فهي - خلال كل تعريفات المحاكاة وتعقيدات هذه التعاريف- لا تزيد عن تأكيدٍ للصراع المسرحي الذي لا بد فيه من أناسٍ يتصارعون، ومن أسبابٍ للصراع، ومن حكاية معينة أدت إلى الصراع. ولا يزيد الأمر بعد هذا عن ذلك الشجار الذي جرى في زاوية الشارع الهادئ بعد أن يسبغ عليه الكاتب أردية الفن وأوشحة الخيال.
2- تعريف الفنيَّة في الصراع


وقد أجمعت أوصاف النقاد الجادين للصراع بأنه (علاقة صداميّة بين طرفين). وشبَّه بعضُ ظرفائهم تكوينَه بأن على الكاتب (أن يضع بطله فوق شجرة. ثم يقذفه بالحجارة طوال مدة المسرحية. ثم يُنـزِله عنها في نهايتها).
والصراع غير الخلاف في الرأي وغير المشاحنة. وإنما هو شحنة ملتهبة تضرب المسرحية من أولها إلى آخرها وتوصل المسرحية إلى هدفها النهائي. ولعل أكمل تعريف لـه أنه (تناقض بين قوتين متكافئتين تمارس فيه الإرادةُ وعيَها. ويتجه بالقصة إلى هدفها).
من هذا التعريف تتوضح خصائص الصراع:
آ - أن يكون بين قوتين متكافئتين. فلا لذة في متابعة مباراة رياضية بين فريق قوي وفريق ضعيف. وقد تبدو القوتان في الظاهر غيرَ متكافئتين، كأن يكون الصراع بين رجل أعزل وبين قوة طاغية مدججة بالأسلحة. لكننا نكتشف أن الكاتب شحنهما بما يجعلهما متكافئتين. فحينما أكرهت الكنيسةُ غاليلو غاليلي على إنكار دوران الأرض حول الشمس قال بصوت خافت (مع ذلك فإنها تدور). وعند ذلك تكافأت قوة الكنيسة المسيطرة مع قوة إرادة الرجل الأعزل الفرد.
ب - أن يكون كلٌّ من طرفي الصراع واعياً لمعركته مع الطرف الآخر. وهذا ما يشحذ الإرادة ويعمِّق الصراع ويضع الأقوال والأفعال والمواقف في إحكام التسلسل المنطقي. ولنتذكر أن المسرحية كلها قائمة على مبدأ (السببية). وإدراكُ أطراف الصراع لمواقعها يعدُّ حجرَ الزاوية في بناء المسرحية على السببية. (فأوديب) يدرك أن خصمه هو القدر. والقدر - متمثلاً بالكاهن - يعرف أيضاً ما يريد. و(هملت) يعرف أن خصمه هو عمه الملك فيحاول قتله. والملك العم يدرك أن بقاء هملت في القصر على قيد الحياة سينغص عليه عرشه وحياته الزوجية فيحاول قتله. والدكتور (ستوكمان) في مسرحية إبسن (عدو الشعب) يدرك أن خصمه هو المدينة بأسرها. والمدينة تعرف أن الدكتور ستوكمان يريد حرمانها من مشاريعها الرابحة. وكلٌّ من هذه الأطراف يصارع خصمه بوعي وإصرار عبر مجموعة من الأفعال المترابطة المؤدي بعضُها إلى بعض.
ج - أن يرتبط الصراع بالهدف الأعلى للمسرحية وأن يوصل إليه. وبذلك يظل قائماً وقوياً من أول المسرحية إلى آخرها. ولأنه يتجه إلى هدف معين فإنه يسير في مسار محدد. فيحذف عنه الكاتب كل ما لا يخدم هذا الهدف. ويضيف إليه كل ما يخدم الهدف.
وجمال الصراع في المسرحية أن أحد الطرفين يبدو متفوقاً على الآخر فيسمى (القوة المسيطرة المهاجمة) ويكون الثاني (مدافعاً) عن نفسه أمام الأول. فكأن الطرف الثاني واقف على حافة الهاوية وأنه سيسقط في اللحظة التالية. فتثور لذة المتابعة عند المتلقي، قارئاً للنص أم مشاهداً للعرض، خوفاً على الطرف المدافع. وتزداد لذته عندما يجد أن المدافع رغم طغيان خصمه يصمد أمامه. حتى إذا انتهت المسرحية بانتصار المدافع انفرجت أساريره. وإذا انتهت بانتصار المهاجم المسيطر ركبه الحزن اللذيذ. فالقدر أقوى من (أوديب). والكنيسة أقوى من غاليلو غاليلي. وعداءُ الأسرتين الكبيرتين أقوى من روميو وجولييت. وهؤلاء الضعاف لا يريدون التحرش بهذه القوى الطاغية. لكنها هي التي تهاجمهم وهم يدافعون عن أنفسهم. وعند دفاعهم تبرز مكامن قوتهم. فتبرز قوة الإرادة عند أوديب وغاليلي. ويتجلى الحب عند روميو وجولييت.وما أمتع متابعة هذا الصراع الذي يقف فيه الطرف المحبوب على شفا الانهيار في حين يبدو الطرف المكروه على شفا النصر طوال مدة العرض. فإذا انتصر القدر على أوديب خرج المتلقي وهو يحمل ذلك الحزن الشفيف الذي يزداد رقة وعمقاً بموت الحبيبين الشابين روميو وجولييت.
والأمتع في الصراع أن تتبادل القوتان المواقعَ في سير الحكاية. فتبدو إحداهما مسيطرة في لحظة ثم تصبح مدافعة في لحظة أخرى. وبهذا الانتقال تلهث أنفاس المتفرجين وهم يتابعون هذا الانتقال. وهذا النوع من الصراع هو الأكثر شيوعاً في النصوص المسرحية وهو الذي يتلاعب بواسطته الكتابُ بعواطف قرائهم ومشاهدي عروض نصوصهم.
والمتفرج في متابعة هذا الصراع ينحاز إلى أحد الطرفين. وانحيازه يعني بالضرورة تأييداً لأفكاره وقيمه التي تعرَّض للصراع من أجلها. وبهذا الانحياز يصل الكاتب إلى إيصال الهدف الأعلى للمسرحية. ولا يوجد شيء أقوى من هذا الأسلوب في غرس الأفكار والحقائق والنـزعات الإنسانية في نفوس المشاهدين والقراء. ولذلك كان المسرح أقوى نوع أدبي في الانتصار للحق والخير والجمال.


والصراع - بخصائصه التي ذكرناها وبأنواعه وبدوره - كان يتخذ شكلين لكل منهما جمالياته ولذائذه. الأول منهما صريح واضح ظاهر يزجُّ حكاية المسرحية في الغليان. وأكثر المسرحيات تتخذ هذا الشكل لأنه يستطيع إثارة جميع الناس مهما اختلفت ثقافاتهم وبيئاتهم. ومسرحيات شكسبير وموليير وراسين وإبسن من هذا الصنف. وهو صنف ناري عاصف. وقد حفَل به الكثير من المسرحيات العربية المكتوبة في النصف الثاني من القرن العشرين. فلا نكاد نعرف الخلاف بين الخليفة والوزير في (مغامرة رأس المملوك جابر) لسعد الله ونوس حتى يزج بنا الكاتب في حومة صراع قوي واضح لا لَبْسَ فيه. ولا نكاد نرى (السجين 95) لعلي عقلة عرسان حتى يحتدم الصراع واضحاً جلياً بين ثابت ومثبوت. ومثل ذلك يحدث في (مأساة الحلاج) لصلاح عبد الصبور. فما يكاد الحلاج يدلي ببعض آرائه وأقواله حتى نكتشف طرف الصراع القوي الذي يشنه عليه بعض الفقهاء. وهو صراع مازال يحتد حتى يوصل الحلاج إلى المحكمة ثم إلى الحكم بالإعدام. وفي (ليالي الحصاد) لمحمود دياب، تبرز أنياب أهل القرية بمجرد الحديث عن الفتاة. وما يزال يتصاعد حتى ينتهي إلى المأساة.
أما الصنف الثاني فالصراع فيه ساكن هادئ يكاد لا يظهر. فهو صراع نفسي وفكري أكثر مما هو صراع عملي. ومن هذا الصنف أكثر مسرحيات
تشيخوف والمسرح الأمريكي الواقعي في منتصف القرن العشرين الذي كتب فيه تينيسي ويليامز وآرثر ميللر مسرحياتهما. وهو صراع يحتدم في النفوس والعلاقات الخفية بين أشخاص عقدت بينهم أواصر القرابات واختلفت بهم وجهات النظر. وهو لا يكون صراعاً مجسداً على الخشبة بوضوح وجلاء، بل يكون احتداماً في النفوس. ولا بد أن يتجلى في بعض المواضع من الحكاية. لكنه سرعان ما يرتد إلى داخل النفس. وهذا الصنف، رغم سكونه الظاهري، عميق مستمر قوي. ويحصد منه المتلقي متعة عقلية وعاطفية فائقة وإن كانت هادئة. لكنه يبدو بارداً في العرض المسرحي مهما برع الممثلون في إظهار خفاياه. وهو، لذلك، لا يكون شعبياً في العرض أو ممتعاً في القراءة إلا لقلة من الناس.
وفي كلا الصنفين لا بد للصراع أن ينتهي إلى خاتمة هي في الوقت نفسه خاتمة المسرحية. وليست الخاتمة إلا استقراراً لـه على شكل من الأشكال. وفي لحظة انتهاء الصراع يكون الكاتب قد قدم موقفه من الحياة والعالم وأجاب على جميع التساؤلات التي طرحتها الشخصيات وألقتها إلينا الحكاية. فإذا أبقى الكاتب صراعه مفتوحاً مستمراً في المستقبل الذي يأتي بعد انقضاء زمن الحكاية، فإنه يترك للقارئ أو المشاهد أن يحسم الصراع كما يشاء. فكأنه يُبقي تساؤلاته مفتوحة عند المتلقي. لكن صراع الحكاية يكون قد انتهى وبدأ صراع جديد يكون المتفرج أو القارئ مسؤولاً بنفسه عن احتدامه واستمراره.



***
هذا الوصف للصراع هو ما يمكن أن نسميه النوع التقليدي منه. وهو الذي ظل الكتاب المسرحيون طوال القرون يجوِّدونه ويطوُّرونه ويسعون إلى تحميله كل عناصر الإثارة في صعودٍ يتنامى مع تطور الحكاية. لكن القرن العشرين أجرى عليه تعديلاً بسيطاً وحاسماً. ففي المسرح الملحمي ذي الشكل الروائي، والذي يبني المسرحية على طريقة المشاهد المتتالية ولا يبنيها على طريقة المشاهد المتراكب بعضُها فوق بعض، لا يمكن تحقيق الصراع المتصاعد القوي الحازم الحاسم، بل يبدو على شكل تناقض بين الشخصية وبين العالم أو بينها وبين من حولها. ولعل (الأم شجاعة) أفضل مثال على هذا الصنف. فهي لا تصارع أحداً ممن حولها. لكنها تختلف مع الجميع لأن فكرتها عن العالم تناقض ما يجري حولها. وهذا التناقض يتم بينها وبين أقرب الناس إليها وهم أبناؤها الذين لا يصارعونها بل يختلفون معها. وهذا التناقض الدائم بين الشخصية وبين العالم هو الذي يُبرز لنا العالم على الصورة التي يريدها الكاتب.
وتم التعديل الثاني في مسرح العبث. فلأنه لا شيء يحدث فإن الصراع لا يتولد ولا يحتدم. وتبدو الشخصيتان المتحاورتان في (انتظار غودوت) وكأنهما متفقتان. ومن خلال هذا الاتفاق الظاهري يبرز التناقض بينهما وبين العالم. فكأن البريختية والعبثية - رغم تناقض أهدافهما - تضعان الصراع في كفتين جديدتين متشابهتين. وكان هذا أمراً طبيعياً. فكلا المنهجين انبثق عن الرغبة في تحطيم الدراما التقليدية.
إن الصراع هو النسيج الضامُّ لجميع أركان التأليف المسرحي. وهو الذي يحول أجزاء الحكاية التي تقوم بها شخصياتها، إلى عمل مسبوك محبوك مثير. وقد تغير تناول بقية عناصر التأليف المسرحي. فجرت تعديلات كثيرة على بناء الشخصية. وثار الكتاب على الحبكة وأيدهم النقاد أحياناً في الثورة عليها. لكن الصراع هو العنصر الوحيد الذي لم يتغير ولم تتبدل مظاهره. وكل ما حدث لـه أن أطرافه تغيرت وأن أنواعه ازدادت وتعمقت. فسواء كان الصراع بين البشر والآلهة، أم كان بين نبلاء القوم حين تمزقهم المصالح والرغبات، أم كان بين أشخاص يصارعهم أفراد، أم كان في أعماق النفس الواحدة، فقد ظل مسارُ الصراع في بناء المسرحية واحداً لم يتغير ويبدو أنه لن يتغير. ومهما تنوعت أساليب المدارس الأدبية واتجاهات الكتابة، فقد ظل الصراع المسرحي العصب الحساس الذي لا يمكن أن يُستغنى عنه. وشرطه الأول أن يكون قوياً ضارياً بين كفتين متوازيتين ومتوازنتين. وشرطه الثاني أن يكون صاعداً متواتراً دون تلكؤ أو استرخاء. وشرطه الثالث أن لا يغيب لحظة واحدة عن مجريات الأحداث وتصرفات الشخصيات. فإذا تخلى الصراع عن هذه الشروط الثلاثة في مشهد أو موقف، وقع ذلك المشهد أو الموقف في وهدة الضعف والتراخي. فيقعان مباشرة في الإملال. أما إذا افتقد النص المسرحي كله هذا العنصر الحار فلا شيء قادر على إحياء النص حتى إن اكتملت لـه بقية العناصر.


3- الرؤية الاجتماعية في الصراع المسرحي

وافتقاد الصراع المسرحي أو تراخيه أو غموض أطرافه هو الداء العضال الذي وقعت الكتابة المسرحية العربية في براثنه منذ بداية تسعينات القرن العشرين. وهو أحد الأسباب الأساسية في غياب النصوص العربية عن خشبة المسرح وفي تناسي المخرجين لها. ونعترف أن هذا الوقوع كان نتيجة منطقية لمعطيات العصر الحاضر. ذلك أن الصراع المسرحي لا يتحول إلى براعة فنية إلا إذا كان مدعوماً برؤية اجتماعية واضحة.
إن الأدب في جميع أشكاله كان وما يزال صورة عن الواقع الاجتماعي لا في حالته السكونية بل في حركته المتطورة المتغيرة. وأعظم الآثار الأدبية كُتبت في فترات الانقلابات الكبيرة التي كانت تعصف بمجتمعاتها وتنتقل بها من حال إلى حال. وفي هذه الفترات كان الأدب المسرحي أقدرَها على تصوير المجتمعات في حركتها الانقلابية تلك. وفي مثل هذه المنعطفات كانت قوى المجتمع دائماً تتصارع بين قديم يحاول أن يتشبث بالبقاء وبين جديد يحاول أن يفرض نفسه نهجاً جديداً في الحياة. وفي مثل هذا الصراع الاجتماعي الكبير يصبح الصراع المسرحي قوياً بقدر قوة صراع القوى في المجتمع. ولنتذكر نصوص شكسبير وموليير وراسين وإبسن وبريخت وغيرهم من الكتاب المسرحيين الذين امتازوا بقوة الصراع المسرحي رغم انتماء هؤلاء إلى مدارس وعصور ومجتمعات مختلفة. لكنهم جميعاً عاشوا في فترات انقلابية اقتصادياً واجتماعياً. ولنتذكر أيضاً النصوص العربية التي كتبت منذ بداية المسرح العربي حتى نهاية منتصف عقد ثمانينات القرن العشرين. فقد كُتِبت هذه النصوص في فترة معاركة الاستعمار في النصف الأول من القرن العشرين، وفي فترة معاركة أوضاع التخلف والاستبداد والاستغلال التي أعلنت الثورات العربية لواء الحرب عليها في نصفه الثاني. وامتازت هذه النصوص بقوة واضحة في صراعها المسرحي. وإذا كانت نصوص النصف الأول من القرن العشرين تخسر الكثير من عناصر الكمال الفني، فإنها جميعاً كانت تمتاز بوضوح كفتي الصراع فيها وبقوة المجابهة بين هاتين الكفتين لأن الكتاب المسرحيين الذين كانوا يجهلون الكثير عن عناصر وأركان التأليف المسرحي، كانوا يدركون - بحسهم الفطري - أن الصراع هو الجوهري في المسرح وأنه الحامل لأفكارهم وشريكُهم في معاركهم السياسية والفكرية. أما نصوص النصف الثاني من القرن المذكور فقد استكملت عناصر البناء الفني التي كان الصراع واحداً من أبرزها وأقواها. وكان دائماً صراعاً ضارياً عنيفاً. فكأن وضوح الصراع الاجتماعي يعطي وضوحاً في الصراع المسرحي. وكأن قوة الصراع الاجتماعي تعطي قوة في الصراع المسرحي. وبذلك نصل إلى النقطة الجوهرية في صناعة المسرح على الخصوص وهي أن بناء الصراع المسرحي ليس جانباً فنياً يبرع فيه الكاتب، بل هو أيضاً رؤية واعية لحركة المجتمع. وعندما تغيم الرؤية الاجتماعية يتخاذل الصراع المسرحي فيفقد شروطه الثلاثة كلها دفعة واحدة. وها هي النصوص المسرحية العربية اليوم يكتبها كتاب ملكوا ثقافة عالية في أركان التأليف المسرحي. وعرفوا قيمةَ وأثرَ الصراع في بناء المسرحية. لكن صراعهم يتخاذل ويضعف لأن الواقع العربي اليوم غائم الملامح. صحيح أن لـه أهدافه الواضحة المتمثلة في بناء مستقبل مشرق يعيش فيه الإنسان العربي بكرامة المواطن وعزة الوطن، لكن الطريق إلى تحقيق هذه الأهداف غامضة. وبذلك يتحول الحلم الواضح في الذهن والخيال إلى هيولى الواقع وضبابية المنظور. فيقف الأديب حائراً إلى أين يوجه خطوات ما يكتب حين ينشد الشعر أو يحكي الرواية أو يصور الأحداث في المسرحية. وإذا كان الشعر يقع في الفتور مع غياب الرؤية، وتتحول الرواية إلى سرد مع ضبابية النظرة، فإن المسرحية تفقد قوة الصراع المسرحي. وسوف نعود إلى هذه النقطة عند مناقشة (الموضوع في المسرح)
إن الصراع المسرحي المتقن المتصاعد هو روح المسرحية. فإذا وجد هذا الصراع القوي في نص ما فسوف تتهافت الفرق المسرحية عليه. وسوف يحتل مكانته رغماً عن الجميع، شريطة أن يحمل رؤية اجتماعية صحيحة يجد فيها القارئ أو المتفرج نفسه وعصره لا في حالته السكونية الحالمة العاجزة عن تحقيق الحلم، بل في حالته المتحركة الفاعلة في تحقيق الحلم
.

4- ملامح الصراع المعاصر

ولكن.. ما هي الصيغة البنائية التي يمكن أن يستقر عليها الصراع المسرحي في النصوص التي يكتبها أو سيكتبها الكتاب العرب اليوم وفي العالم؟ هل يمكن التخلي عن أحد شروطها أو خصائصها مع قولنا إن الصراع المسرحي هو الركن الوحيد الذي لم تتغير شروطه وخصائصه، ورغم قولنا إن التعديلات الذي حدثت عليه في القرن العشرين لم تخرج به ركناً أساسياً في النص المسرحي؟
للإجابة على السؤال نذهب إلى الموسيقى ففيها مفتاح الدخول إلى الصراع اليوم.
يذكر علماء الموسيقى العربية أن ضروبها الإيقاعية تزيد عن سبعين ضرباً. منها الطويل البطيء مثل (المحجَّر) ووزنه 14 على 4، و(السماعي الثقيل) ووزنه 10 على 8. ويفتخر هؤلاء العلماء بهذا الرقم الكبير للإيقاعات العربية التي يزيدها البعض إلى أكثر من هذا الرقم. وكان الكثير من هذه الإيقاعات مستخدماً في الموسيقى العربية في بداية القرن العشرين. وكان بطؤها وتنوعها يخلقان نشوة الطرب الأصيل الذي ما نزال نتغنى به. لكن الإيقاعات البطيئة الطويلة بدأت تنحسر عن الألحان منذ منتصف القرن العشرين لأن طولها وبطأها صارا مملين. وحافظ الموسيقيون على نوع متوسط البطء والطول مثل (المصمودي) ووزنه 4 على 4. فلما عصفت السرعة بالموسيقى في السنوات الأخيرة، انحسرت جميع الإيقاعات الطويلة ونصف الطويلة. وهرع الموسيقيون إلى الإيقاعات السريعة التي تشكل (الوحدةُ القصيرة) عمادَها الأساسي. وأضاف الموسيقيون إيقاعاتٍ غربيَّة أشد سرعة وصخباً. ورغم كل مناداة المفكرين بالعودة إلى الأصالة العربية في الموسيقى وإلى التراث الغني، فإن الإيقاعات السريعة العنيفة تجتاح الموسيقى المعاصرة لأنها تلبي سرعة العصر واختصار الزمن فيه. ولو تجرأ أحدهم على العودة إلى الإيقاعات الطويلة البطيئة أو نصف الطويلة لما لقي إلا الإهمال والتثاؤب والملل. وأعتقد أن الإيقاعات الطويلة اندثرت في هذا العصر ولم يعد من الممكن إحياؤها مهما صرخ عتاة الموسيقى والمدافعون عن أصالة الموسيقى العربية. فلن يكسبوا من وراء ذلك إلا أن يجرحوا أصواتهم التي يطلقونها في صحراء فارغة.
إن الصراع المسرحي لا يتغير. وأشكالُه موجودة معروفة. لكن بعض أشكاله بدأت تندثر. وعلى الكتاب أن يتجنبوها كما يتجنبون الداء العضال. فالصراع الساكن الهادئ العميق الذي بُنيت عليه مسرحيات تشيخوف مثلاً، صار السيرُ على منواله سقماً ومللاً. وإذا كانت إنكلترا وأمريكا قد افتُتِنت بهذا الصراع مع بداية القرن العشرين ونهجت على منواله في نصوص الواقعية الأمريكية، فإن الصراع في هذه المسرحيات لا يقل إملالاً عنه في مسرحيات تشيخوف. ولا يعني هذا طعناً بمسرحيات الصراع الساكن أو انتقاصاً من قيمته. لكن هذا النوع صار مثل إيقاعات الموسيقى العربية البطيئة التي هجرها العصر الحديث وتجنبها الموسيقيون لكي يملؤوا موسيقاهم بالسرعة والصخب. ولا يعني هذا أيضاً إلغاءَ هذا الصنف من الصراع وإلا كان ذلك سخفاً وجهالة. فلا يمكن لأحد أن يلغي نوعاً من الصراع قامت عليه نصوص عظيمة ويمكن أن تقوم عليه نصوص عظيمة. ولا يعني هذا أيضاً ثانياً أن نفرض على كتاب المسرح أساليب معينة في الكتابة وإلا كان ذلك أشد سخفاً وجهالة. وإنما يعني أن على الكاتب أن يعرف نبضَ العصر الذي يعيش فيه، وأن يدرك مكامن الإثارة النفسية والعاطفية والفكرية التي تشحذ عقل المتلقي وقلبه. وبما أن نبض العصر اليوم سريع حاد، فلا سبيل أمام الكاتب في الساعة ونصف الساعة التي هي الزمن المتاح لـه، إلا أن يكون صراعه سريعاً حاداً كأنه الشهاب الناري.
وإذا كان على الكتاب أن يتجنبوا الصراع الساكن الهادئ، فإن عليهم أن يتجنبوا (التلكؤ) في إدارة الصراع. فالكتاب المسرحيون - فيما سبق تسعينات القرن العشرين - كانوا يتمهلون في بعض المشاهد لإلقاء بعض الأفكار. فكان الصراع يتوقف عن الصعود الحاد. وكان ذلك أمراً مرغوباً في المسرح. أما اليوم، فإن هذا التمهل صار تلكؤاً. وصار هذا التلكؤ أحد مقاتل النصوص المسرحية. أما أفكارهم وتوجهاتهم فيجب أن تأتي من خلال حرارة الصراع نفسه. وسوف نقف عند هذه النقطة وقفة أطول فيما يأتي من البحث.
وهنا نصل إلى قضية كانت مؤرقة لنقاد المسرح وللكتاب على حد سواء وهي قضية (الميلودراما) في الصراع المسرحي. فقد اتفق أكثر النقاد على رفضها، واتهموها بأنها (إثارة عنيفة للعواطف). وبأنها (عندما تطرح صورة الرذيلة والشر في المجتمع فإنها لا تقدم أية تفسيرات لهما. وتربط زوالهما بتدخل العناية الإلهية أو بالقدرات الفردية للبطل. وقد اعتبر الفيلسوف الألماني كارل ماركس الميلودراما اختراعاً قدمته البرحوازية للشعب، تماماً كما قدمت لـه الملاجئ الخيرية ووجبة الحساء اليومية).([1]) وعدوها نوعاً كريهاً في المسرح، وطلبوا من الكتاب أن يتجنبوها، ووصموا المسرحيات التي تقوم عليها بالضعف في أكثر الأحيان.
أما أنها إثارة عنيفة للعواطف فأمر صحيح. وأما أنه مضى عليها ردح من الزمن كانت عليه كما وُصفت فأمر صحيح أيضاً. وأما أنها نوع كريه في المسرح فأمر باطل. وأما أن الكتاب تجنبوها فأمر لم تثبت صحته. وأما أن المسرحيات التي تقوم عليها ضعيفة فأمر ثبت عكسه. وأما أنه يُطلَب أن نستخدمها أسلوباً حيوياً في الصراع بعد أن نخلصها من عيوبها ونحافظ على حسناتها، فأمر سيجد الكتاب أنفسهم مرغمين عليه لأنه الملاحة والإثارة من ناحية، ولأنها إسراع في احتدام الصراع من ناحية ثانية.
إن كبريات المسرحيات قامت على الإثارة العنيفة للعواطف. وماذا نسمي المبارزات وجرائم القتل التي احتشد بها مسرح شكسبير؟ أليست لحظةُ شرب روميو للسم بعد ظنه بموت جولييت أقصى درجةٍ من لحظات إثارة العواطف بالعنف؟ أليس إلقاءُ الأحجار على بيت الدكتور ستوكمان في مسرحية إبسن (عدو الشعب) من أرهف لحظات إثارة العواطف بالعنف؟ أليست لحظة قراءة الرسالة التي على رأس المملوك جابر ثم قطع هذا الرأس واحدةً من اللحظات الفريدة في المسرح العربي؟
إن الميلودراما المفترى عليها واحدةٌ من أمضى أسلحة الكاتب المعاصر. ففي عصر الإثارة بملاحقة السيارات في الأفلام والسينما وبأمثالها من مواقف التوتر النفسي والعاطفي فيما حولنا من ظروف العصر، تصبح الميلودراما ملحَ المسرح. وقد آن الأوان لنرد للميلودراما مكانتها في النقد. خاصة وأن الكتاب استخدموها بشراهة فيما مضى من تاريخ المسرح. وآن أن نعلن عن تلذذنا بها وأن نحثَّ الكتاب عليها. فهي الفتنة والإثارة. وهي التشويق الممتع. وهي لحظات التجلي الأكبر للعواطف حين يحتدم الصراع بين النوازع الدفينة في نفوس البشر. وأعتقد أن خلو النصوص المسرحية العربية من الصراع القوي ومن اللحظات الميلودرامية فيه، كان ذا أثر كبير في ضعف هذه النصوص. وأعتقد أن العودة إلى الصراع القوي بإثارته العنيفة للعواطف سوف يعيد إليه مكانتها السابقة على خشبات المسارح.
لكن الميلودراما لا تصبح سلاحاً ماضياً في يد الكاتب إلا إذا تجنب النوع الكريه منها وهو القفز إليها بغية الإثارة الفارغة. وليس المقصود منها أن يلجأ الكاتب إلى ما يشبه ألاعيب السينما، بل أن يستفيد الكاتب من قدرتها على الإثارة وأن يأتي بها مقنعة للمتلقي في تسلسل الوصول إليها. فإن القفز إليها دون تمهيد يدعو إلى السخرية لأنه افتعال إذ تصبح حدثاً لا مسوغ له.
إن قراءة المسرحية أو مشاهدتها يجب أن تكون شيئاً ممتعاً يدفعنا إلى ارتياد المسرح بتشوق. ولن يتحقق لـه هذا التشويق إلا بإدارة صراع مثير يلهب العواطف ويحرك العقول ويرعش القلوب. والصراع المسرحي هو المفتاح لذلك دون أن ينسى الكاتب أن كل وسائل الإثارة والفتنة لدى القارئ أو المشاهد لا بد أن توضع في شكل فني يقدم رؤية فكرية للمجتمع. فبهذه الطريقة يتكامل شِقّا الصراعِ بأنه براعة فنية ورؤية اجتماعية.
إن كتاب المسرح اليوم هم أبناء هذه المرحلة بأحلامها وعجزها، بطموحها وضبابيتها. فعليهم، إذا أرادوا أن يكتبوا النص المسرحي القوي، أن يعيدوا النظر لا بمعرفتهم المتينة لعناصر التأليف المسرحي فحسب، بل وبفهمهم للمجتمع وبمعرفتهم للقوى الفاعلة فيه. وعليهم أن يكونوا هداةَ الناس في حياتهم. وعليهم أن يضيئوا للناس طريق مستقبلهم. وبكلمة موجزة: أن يكونوا الشاهد على العصر كما كان الكتاب المسرحيون قبلهم.

NoUr kasem
NoUr kasem
مساعد المدير
مساعد المدير

عدد المساهمات : 1954
تاريخ التسجيل : 08/09/2009
العمر : 37
الموقع : دمشق . . فلسطينية الأصل

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات  Empty رد: النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات

مُساهمة  NoUr kasem الأحد يوليو 18, 2010 8:23 pm

3 -
الشخصية المسرحية..
حدُّ السيف


1- تمهيد عن التكثيف في الفن والأدب

قد تشاهد عرضاً مسرحياً أو تقرأ إحدى المسرحيات. ثم يحلو لك أن تُبدِيَ رأيَك لصديقٍ فيما شاهدتَ أو قرأت. وقد تجد نفسك - وأنت مشاهدٌ حصيف وقارئ حصيف - مضطراً أن (تلخِّص) حكاية المسرحية لتضع الصديقَ في جوها حتى يتقبَّل رأيَك السلبيَّ أو الإيجابي فيها، وسوف يكون تلخيصُك لها مكثفاً موجَزاً متوقفاً عند أبرز مفاصلها. ويكون هذا التلخيص متركِّزاً عند نقاط الإثارة الفكرية والإنسانية التي جعلتك تتخذ موقفك منها. أي أنك (تنتقي) من مجمل أحداثها الكثيرة أحداثاً، ومن جوانب صراعها العنيف أو الضعيف أطرافاً، ومن شخصياتها المتعددة أفراداً لتؤكد لمن تتحدث معه رأيَك الموافقَ أو المعارض. ويكون رأيك، بعد هذا، صحيحاً أو قريباً من الصحة. فإذا كان ذاك الصديق قد شاهد أو قرأ ما تحدثه عنه، وكان لـه رأي مخالف لرأيك - وهو مشاهد وقارئ حصيف أيضاً - فسوف (ينتقي) أحداثاً أخرى من مجمل أحداث المسرحية، وينتقي من جوانب الصراع أطرافاً أخرى. ويُعيد إبراز بعض الشخصيات بشكل آخر. وهو يفعل ذلك بحصافة لا تقل عن حصافتك لكي يخالف رأيك برأي آخر. ويكون رأيه بعد هذا صحيحاً أو قريباً من الصحة.
إن هذا الذي يجري بينك وبين صديقك هو مفتاحُ النقد الفني وسرُّه. وهو ما فعله النقاد عبر تاريخ الإبداع الأدبي والفني. وهو السبب الجوهري في اختلاف وجهات نظر النقاد حول الآثار الإبداعية. حتى إذا كان موقفك وموقف صديقك مما شاهدتما أو قرأتما واحداً في الرفض أو الإعجاب، فسوف ينتقي كل واحد منكما من الأحداث والصراع والشخصيات عناصر مختلفة لتأييد رأييكما المتوافقين. وهذا مفتاحٌ آخر وسرٌّ آخر في فهم الإبداع ونقده. وهو الذي يدل على أن الإبداع البشري كان كنـزاً ثرياً في رؤية الحياة وفي فهم آفاقها. وهو الذي يجعل النقد الأدبي والفني مَعيناً للغنى الفكري والنفسي ينهل منه البشر أفكاراً تغذي العقل، وتحليلاً للنفس يهذب النفوس، وفهماً ثرياً للحياة يطورها. ولو لم يكن البشر قد تباينوا في فهم وتفسير ما يشاهدون من وقائع الطبيعة والحياة، لظلت الطبيعة والحياة سراً مغلقاً عنهم. فهكذا برأ الله مخلوقاته. وهكذا جعلهم يدرُجون على وجه الأرض ليعمروها.
وهذا الذي يجري بينك وبين صديقك الذي وصل بنا إلى سر النقد الأدبي ومفتاحه، يوصلنا إلى الأصل الذي يُبنى عليه الإبداعُ كله وهو أنه (فن الانتقاء والتكثيف والتركيز). ولكن هذه الفكرة التي وصلنا إليها في وصف جوهر الإبداع فكرةٌ قديمة جداً، ومعروفةٌ جداً وشائعةٌ جداً. وهي، لشدة شيوعها وكثرة تداولها بين أيدي الناس - مبدعين كانوا أم نقاداً أم دارسين أم مثرثرين حول أمور الفن والأدب - صارت عملةً ممسوحة من ناحية، وتتنازعها مختلفُ التيارات الأدبية والفنية في محاولةٍ لتحديدها حتى غام الكثير من ملامحها من ناحية ثانية. ولو استذكرتُ ما قرأتُه في الكتب النقدية العربية والمترجمة إلى العربية حولها، لضاق القارئ بتناقضات معنى الانتقاء والتكثيف والتركيز. ويزيد ضيقه - وربما ضياعه - إذا تذكرنا أن تحديد معناها لا تختلف فيه المدارس الأدبية فحسب، بل يكون الاختلاف أضرى وأشدَّ فتكاً حينما يصبح الفن والأدب وجهاً من وجوه الصراع الفكري والسياسي. فما يطالب بالتركيز عليه وانتقائه وتكثيفه مبدعٌ أو ناقد يساريُّ النـزعة راغبٌ في التحريض على تغيير المجتمع لما يعتبره الأحسنَ والأفضل، مختلفٌ أشد الاختلاف عما يطالب به عبثيٌّ أو حالمٌ رومانسيٌّ أو متشائمٌ لا يجد على الأرض إلا صراعاً بين وجوه الشر وحدها فلا يكون من هذا الصراع إلا استمرارُ البؤس وشقاءِ الإنسانية. وأراني أقول هذا القول عن معنى (الانتقاء والتكثيف والتركيز) بعد خمسين عاماً من المطالعة حولها، وبعد معاناةٍ للإبداع ونقدِ الإبداع مدةً دامت ما يقرب من أربعين عاماً. فكم عانيتُ من معنى هذا التحديد. وكم ظلمني الناقدون بسبب هذا التحديد. وكم قرأتُ ظلماً من المناقشين والناقدين للمبدعين في الشعر والرواية والمسرح بسبب الاختلاف الواسع في حدود هذا التحديد. وربما أكون قد ظلمتُ المبدعين بسبب ما كوَّنتُه من فكرة حول هذا التحديد. وها أنا - بعد هذه المعاناة الذاتية والعامة - أعود إلى هذه النقطة محاولاً أن أستخلص منها ما هو عام في الفن كائناً ما كان اتجاهُه الفكري أو السياسي، وكائناً ما كانت مدرستُه الفنية التي كان تعدُّدُها وتناحرُها في محصلة الأمر وجهاً من وجوه الصراع الفكري والسياسي. فكأنني أحاول أن أستخلص أصفى أنواع التكثيف والتركيز والانتقاء وأكثرَها شمولية لأنواع الإبداع في شتى الفنون. ولعلي بذلك - وأنا أدلف إلى الهزيع الأخير من العمر - أدخل بالمبدعين الشباب إلى عالمٍ في الإبداع أرحبَ من القيود التي يقرؤونها في كتب النقد عربيةً كانت أم مترجمةً إلى العربية عن شتى اللغات. وكأني أدعوهم إلى الانفلات من قيود الناقد إلى سماء ما يرتئيه إبداعهم. فلعلهم يتجنَّبون بعض الأسى الذي عاناه أبناء جيلي وهم يمضون بإبداعهم في عالمٍ مشحونٍ بالصراع الفكري. ولا يعني كلامي هذا أن لا يخوضوا معاركهم الفكرية والسياسية التي يفرضها عليهم العصرُ والوطن. بل إني أدعوهم إلى أن يكونوا أكثر جرأة وأعمق تصدياً لها حتى يكونوا أصدق الشاهدين على عصرهم. وكل ما أرجوه لهم فيما سأورد من تحديدٍ لمفهوم التركيز والتكثيف هو أن يمتلكوا السلاح الأقوى في فهم سر الفن والإبداع حتى يكونوا أكثر منا إبداعاً وأعمق فكراً.
وأنا أحاول الوقوف عند هذا السر في كلامي عن (الشخصية المسرحية) لأن بناءها هو الركن الأصعب والأرهف بين أركان الدراما. فالصراع المسرحي هو (عصب المسرحية) الأساسي الذي لا يمكن وقوفُ المسرحية شامخة البناء من دونه. والحبكة هي (لُحمة المسرحية) لأنها تمكِّن الصراع من الانسلال إلى تضاعيف الحكاية. فيشطر أحداثها إلى شطرين متنازعين. ويشطر كلَّ شطر منها إلى تشظِّياتٍ صغيرة هي التواتر الحي الذي يجري في كل قفزة من قفزات الصراع حتى يسير صاعداً غير متباطئ. أما الشخصية المسرحية فهي (مستقرُّ جميع عناصر المسرحية) التي لا بد أن يصقل الكاتب جوانبَها تشذيباً وتكثيفاً بحد رهيف كحد السيف. فإذا لم يُحسِن التهذيبَ وحُسْنَ الانتقاء والتكثيف، فسوف ترتدُّ الشخصية عليه كما يرتد السيف على صاحبه فلا يُنجيه شيءٌ من حدِّه.
NoUr kasem
NoUr kasem
مساعد المدير
مساعد المدير

عدد المساهمات : 1954
تاريخ التسجيل : 08/09/2009
العمر : 37
الموقع : دمشق . . فلسطينية الأصل

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات  Empty رد: النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات

مُساهمة  NoUr kasem الأحد يوليو 18, 2010 8:24 pm

- أخطاء النقد في فهم الشخصية المسرحية

وقبل أن نتدرَّج في الكلام عن بناء الشخصية المسرحية أحب أن أقف عند مجموعة من الأغاليط التي شاعت في كتب النقد عن قواعد بنائها. وهي قواعد بلغت من القوة والرسوخ في أذهان المسرحيين كتاباً ونقاداً حداً أصبحت معه قيداً غليظاً لهم. وصارت، في الوقت نفسه، من البدهيات التي لا يمكن مناقشتها. وعسانا، إذا وقفنا عندها، أن نخلخل هذه البدهيات الخامدة الخاملة، وأن نُـزيل القيدَ عن الكاتب والناقد لينطلقا بجناح الإبداع ونقد الإبداع. وقد استندتُ فيما سأقدم من رأي على المسرحيات التي أحْكَمَ الكُتّابُ بناءَ شخصياتها من تاريخ المسرح في العالم، وعلى كثيرٍ من المسرحيات العربية والسورية، مبتعداً عن تحليل النقاد لها. فكأنني أعدت قراءة هذه المسرحيات بصفاء المتلهف إلى متعة القراءة دون الوقوف عند نقدها. وكأني وجدت نفسي مندفعاً إلى استخلاص قواعدها وخصائصها من جديد. وهو جديدٌ بريءٌ من الانحياز لموقفٍ إلا موقف الفن. وبهذا الحياد في استخلاص القواعد أرجو من المبدع أن يخوض معاركه الفكرية منحازاً إلى الموقف الذي يريد.
آ- أول هذه الأغاليط أن على الكاتب أن يأتي بجوانب الشخصية كافةً فلا يغادرَ شيئاً عن تكوينها النفسي والاجتماعي والفكري والنفسي إلا استوفاه.
وتتأكد لنا فداحة هذا الخطأ إذا تذكرنا أن هذا الاستكمال لجوانب الشخصية باطلٌ في فن الرواية مع أن الرواية تقدر على التمدد والاستطالة ما شاء لها الكاتب. ويستطيع كاتبها أن يجعل الشخصية تتحدث عن نفسها بحجة أنها تستبطن ذاتها وتنثال في شرح نفسها وفي فضح غيرها من الشخصيات التي تشبك أحداثَ الرواية معها. ورغم هذه الحرية الظاهرية للكاتب الروائي في تصوير جميع جوانب شخصيات روايته فإن الرجوع إلى الروايات الفاتنة الجميلة يجعلنا نكتشف أن الكتاب لا يوردون من جوانب شخصياتهم إلا المقدار المطلوب لحبك الرواية في تسلسلٍ يجعلها تبدأ من نقطة محددة وتنتهي إلى نقطة محددة. والكاتب الروائي يستبعد عن شخصيات روايته كلَّ الجوانب التي لا تسير بها من نقطة بدايتها لتصل إلى غايتها. فإذا اندفع أحياناً إلى هذا الاستكمال لشخصياته فقد أربك روايته إرباكاً قد يُفسدها بقدْر الزيادات في الشرح والاستيفاء. وليرجِعِ القارئ، مثلاً، إلى رواية (حرب وسلام) لتولستوي التي فتنت قراءها عبر العصور. وسوف يجد أن صفحات كثيرة منها يمكن أن تحذفها دون أن يتأثر سير أحداث الرواية ودون أن تنقص الشخصية. ذلك أن الكاتب يسرف في المناقشات الفكرية التي يجريها بطل الرواية (بيير) مع الشخصيات الأخرى. وتسرف (ناتاشا) مثل إسرافه في استبطان ذاتها. وبمثل ذلك وقعت رواية (مدن الملح) لعبد الرحمن منيف بأجزائها الخمسة فلا تمضي في قراءتها لتستكمل متعة قراءتها إلا إذا تجاوزت عن زياداتٍ كثيرةٍ وحشوٍ كثير. وبمثل ذلك أيضاً وقعتْ رواية (مدارات الشرق) لنبيل سليمان بأجزائها الأربعة التي أسرف الكاتب في سرد زيادات كثيرة فيها حتى يستوفي جوانب شخصياته. في حين نجد (حسيبة) و(فياض) لخيري الذهبي لا تأتيان إلا بما هو ضروري من جوانب الشخصيات وتتابع الأحداث. فلا تقول عن جملة فيهما إنها زائدة. ولا تقول عن تفصيلٍ في الشخصيات إنه لا لزوم له.
فإذا كانت الرواية التي يُباح للكاتب أن يستطيل بها كما يشاء يؤذيها زيادةُ الشرح، فكيف بالمسرحية التي لا يملك الكاتب فيها مثلَ هذه الحرية؟ فهو مقيد أشد القيد بكمية من الصفحات حتى تكون ملائمة لمدة العرض المسرحي الذي لا يمكن أن يزيد عن ثلاث ساعات في العصور الماضية، وتقل عن الساعتين كثيراً منذ بداية تسعينات القرن العشرين. ويجب عليه لكي لا يزيد عن زمنٍ قصير مهما طال، أن يوجز وأن يكثِّف وأن يستغني عن كل تفصيل في الشخصية لا لزوم لـه. وإذا كان مباحاً لكاتب الأمس أن يُفيض ويستفيض، فإن كاتب اليوم يتحول إلى ثرثار مكروه لا يخجل متفرجه من الخروج من صالة العرض، ويسارع قارئه إلى رمي المسرحية ببعضٍ قليلٍ أو كثيرٍ من التأفف.
واستكمالُ جميع جوانب الشخصية وتكوينِها النفسي والاجتماعي لا يتم لدى الكاتب إلا بالحوار الذي هو الوسيلة الوحيدة لهذا الاستيفاء المزعوم. وهو عيبٌ كبيرٌ كثيراً ما اقترفه كبار الكتاب. ففي العصور السابقة على القرن العشرين كان العرض المسرحي سهرة طويلة. وكان الكتاب يتمددون في أحداث المسرحيات قليلاً، ويزيدون من استيفاء جوانب من الشخصيات استيفاءً قليلاً. ومن هذه الإطالات والاستطالات التي أتى بها الكاتب لكي يمد وقت السهرة، استنبط النقادُ ضرورةَ (أن تستوفيَ الشخصياتُ جميع جوانبها) مع أن الحقيقة أن هذا الاستيفاء كان تمديداً للوقت وتمدُّداً في البناء المسرحي يُنقِصُ إحكامَه. ولعل أوضح مثل على ذلك مسرحيات شكسبير الذي شُغِف به العالم ُوالذي روَّج لـه النقاد الإنكليز لأنه قدم شعراً عظيماً. ثم انجرف النقاد في العالم وراء هذا الترويج. فبنوا على زياداته واستطالاته أحكاماً نقدية في بناء الشخصيات المسرحية. فكان مثَلُهم مثَلَ النحاة العرب الذين قرؤوا بيت الفرزدق الشاعر الكبير:
ما أنت بالحكم (الترضى) حكومتُه ولا الأصيلِ ولا ذي الرأي والجدلِ
فأخطأ عامداً بإضافة (ألـ) إلى الفعل لكي يغيظ النحويين في عصره. وإذا بهم يستنبطون من الخطأ قاعدة نحوية تقول إن (ألـ) يمكن أن تكون اسم موصول فكأنها الذي أو التي. وحجتُهم في ذلك أنه شاعر كبير مات قبل عام 150 للهجرة وهو العام الذي وضعوه حداً للاستشهاد بأشعارهم وأقوالهم على قواعد النحو. واعتمدوا - تقويةً لقاعدتهم السمجة هذه - على بيت لشويعر مخضرم مجهول يهجو شخصاً فيقول فيه:
يقول الخنا، وأقبحُ الـعُجْمِ ناطقاً إلى ربنا صوتُ الحمار الـيُجدَّعُ
NoUr kasem
NoUr kasem
مساعد المدير
مساعد المدير

عدد المساهمات : 1954
تاريخ التسجيل : 08/09/2009
العمر : 37
الموقع : دمشق . . فلسطينية الأصل

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات  Empty رد: النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات

مُساهمة  NoUr kasem الأحد يوليو 18, 2010 8:26 pm

وهكذا فعل نقاد المسرح وهم يبنون أحكامهم على مطولات شكسبير وراسين وموليير في ضرورة استيفاء جوانب الشخصية. وهؤلاء مسرحيون كبار.
وبناء على هذه القاعدة الجهنمية سار كثير من كتابنا المسرحيين على منوالها. فإذا بهم يقلِّبون شخصياتهم على نار التحليل والشرح بغية الاستيفاء. فما زادوا على أن أحرقوها بتلك النار حتى كاد استخلاصُها من بين براثنهم يستدعي جهداً حثيثاً. من ذلك كثيرٌ من شخصيات محمود دياب وميخائيل رومان وألفريد فرج في مصر. وكثير من شخصيات سعد الله ونوس وممدوح عدوان وعلي عقلة عرسان في سورية. أما وليد إخلاصي فهو آية من آيات إجبار شخصياته على الإفاضة عن نفسها حتى صار يصعب إنقاذُها من بين يديه. ونضرب مثلاً على ذلك بشخصية (بلاوتوس) في مسرحية (رضا قيصر) لعلي عقلة عرسان وهي من روائعه وروائع المسرح العربي. فمازال يضع على لسانها همومَها وأفكارَها حتى سجنها ضمن ركام من التفصيلات . فكأن الكاتب عدو شخصيته كما سبق لغيره من الكتاب أن كانوا أعداء شخصياتهم. ومثلَ ذلك فعل سعد الله ونوس في (طقوس الإشارات والتحولات ) مثلاً. فهو يترك (مؤمنة) أو (نقيب الأشراف) أو (المفتي) يسرحون على هواهم في الكلام والشرح والاستبطان حتى ألقى عليها ركاماً يحجب العناصر الرئيسية المطلوبة للبناء المسرحي. ويمكنك - أيها القارئ الكريم - أن تعود إلى كبريات المسرحيات لكي ترى هذه الأطباق من الإفاضات والاستكمالات لجوانب الشخصيات لكي تدرك أن كثرة الإفاضة أسلوبٌ باطل، وأن عدم التكثيف فيها وعدم الاقتصار على الجوانب الموجزة المطلوبة لتوضيحها قد لعبت دوراً في الإساءة إليها.
وإذا كان الكاتب في العصور القديمة حتى نهاية القرن التاسع عشر يطيل في الحوار ويسمح للشخصيات أن تنفلت على هواها، فقد كان يستجيب لجمهوره الذي كان يحب الفصاحة والفصحاء على خشبة المسرح. وبما أن المسرحيات كانت شعرية فقد كان العرض المسرحي معرضاً للبلاغة تتبارى الشخصياتُ فيه بما يبدو معه (سوق المربد) في البصرة أيام الأمويين شيئاً عادياً. وكان الجمهور في القرن التاسع عشر لا يقل شغفاً بسماع الكلام المنثور في سياق بلاغي خطابي يسمح للشخصيات المسرحية أن تقلِّبَ جوانبَ حياتها وأحوالَ نفوسها وتفاصيلَ مغامراتها حتى تتيح للجمهور أن يتمتع بالخطب الطويلة في شغفٍ يذكرنا بمجالس العرب المشهودة التي كان فيها المتكلمون يتبارون في فصاحة الكلام وإن بدا العربُ أقلَّ استجابة للإطالة.
إذا كان هذا شأنَ الكتاب في العصور القديمة حتى نهاية القرن التاسع عشر في ترك الشخصيات تنفلت على هواها في الكلام، فما بالُ كتاب القرن العشرين يقلدون من سبقهم في الإفاضة والتطويل؟ وإذا كان من حق كتاب القرن العشرين أن ينساقوا وراء أهل العصور القديمة بدواعي النقد الذي لم ينتبه إلى هذه الإفاضات، فما بال كتاب الهزيع الأخير منه وحالُهم مع جمهورهم هو ما ذكرناه؟ وأعتقد - بشيء من الجزم - أن جميع التمردات التي حدثت منذ نهاية القرن التاسع عشر وطوال القرن العشرين على الدراما التقليدية إنما كان مبعثُها الأولُ ثرثرةَ الشخصيات الزائدة. وكان الضيقُ بهذه الثرثرة سبيلاً إلى تدمير بعض الجوانب في بناء الدراما التقليدية التي يسميها النقاد (الدراما الحديثة ) أو (الدراما البرجوازية). ولو رجعتَ إلى نصوص المتمردين هؤلاء من آرتو إلى أداموف إلى بيكيت إلى يونسكو، لوجدت أولَ سمات شخصياتهم أنها وجيزة الكلام وأن الجوانب المعروضة منها قليلة تكاد لا تقتصر على الجانب الواحد فحسب، بل توجز في عرض هذا الجانب إيجازاً يصل بها إلى نوع من الإيحاءات. وها هي - على سبيل المثال - مسرحية (في انتظار غودوت). ففيها يحصر الكاتب جوانبَ الشخصيات في جانب واحد فقط هو فعل الانتظار. وهذا الفعل الواحد للشخصيات يسوقه الكاتب بكثافة شديدة يجعلها وجيزة الكلام حتى تكاد في بعض الأحيان تقصُرُ عن استكمال عبارتها.
لقد كانت جميع الشخصيات المسرحية في تاريخ المسرح تمتاز بالفصاحة حتى إن كانت مصابة بالحصَر والعِيَّ والعجز عن الكلام. وكان لذلك أسبابُه الاجتماعية في أيامها. ولكن هذه الفصاحة، وإن تركت روائع في المسرح العالمي، فإنها كانت دليلاً على خروجٍ بالشخصيات عن معناها الدرامي بمعناه الدقيق. ولذلك كانت تقلل من فصاحتها مع توالي القرون حتى وصلت في القرن العشرين إلى أوفى صورةٍ للدراما حين أصبحت موجزة الكلام محددة الجوانب التي يستعرضها الكاتب منها.
وقد كان من حق الكتاب العرب أن ينتبهوا إلى النقطة الأخيرة التي وصلت إليها بنيةُ المسرحية الحديثة. لكن تاريخ المسرح الذي اطلعوا عليه ففتنهم منه شكسبير وموليير وإبسن وغيرهم من عمالقة المسرح، ساقهم في دربٍ كان المسرح الحديث قد تركها. وإذا بمسرحياتهم - في أرقى نصوصها وأبرع بنياناتها الدرامية - تنجرف وراء القاعدة النقدية التي بدأنا الكلام عنها بأنها أغلوطة وهي (ضرورة استيفاء جوانب الشخصية المسرحية كافة). فكان من شأن المسرحيات العربية أنها ذاتُ استطالات واستطرادات لم يجد معها المخرجون إلا أن يبتروها. ولم يكن بَتْرُهم لها ذكياً في أكثر الأحيان. فبدت المسرحيات العربية على خشبة المسرح أقل جمالاً من حقيقتها في كثير من الأحيان.
وزاد من وبال هذه الفكرة عن استكمال جميع جوانب الشخصية أن أبرز مدارس التمثيل والإخراج تطلب من الممثل أن يخترع للشخصية التي كتبها الكاتب (تاريخاً) ما جرى لها قبل أحداث المسرحية. ولا أعرف شيئاً في فن التمثيل أكثر ضلالاً وتضليلاً من هذه القاعدة التي تطالب الممثل بأن يتخيل للشخصية التي يؤديها تاريخاً سابقاً يعمل على إبرازه من خلال تضاعيف أدائه. فسوف يضيع الممثل وهو يحشد للشخصية أحداثاً ووقائع قد تخرج به إلى ما لا علاقة لـه بذلك الجانب الرئيسي الوحيد الذي بُنِيت عليه المسرحية. فكأنه يزيد تفاصيل زائدة في مسار الشخصية فوق ما هي عليه من زيادة في النص المكتوب. وعند ذلك يضيِّعها ويجعلها تتفلَّت من بين يديه.
لكن وضع (تاريخ) للشخصية أمرٌ لا بد منه في فن التمثيل الحديث. ولعله واحد من أبرز مكونات عناصر بناء (الدور) المسرحي. ولكي يُحكِم الممثلُ هذا العنصر يجب عليه - وأقول يجب - أن يخترع التاريخ لذلك الجانب الوحيد الذي قدمه الكاتب للشخصية وبنى الأحداثَ والأفكارَ عليه. وهكذا نصل إلى المفتاح الصحيح لهذا العنصر المدهش في فن التمثيل وهو اختراع تاريخ الشخصية الذي وقع لها قبل بدء المسرحية. فما أسوأ أن يتخيل الممثل كامل حياة (ماكبث) أو(الليدي ماكبث) منذ طفولتهما حتى بلوغهما لحظة بداية أحداث المسرحية. وما أحسن أن يتخيل الممثل لهما وقائع من حياتهما أوصلتهما إلى أن تدفع الليدي ماكبث القوية الطامعة بالعرش زوجَها إلى اقتراف الجريمة بقتل الملك. فباختراع كامل الحياة للشخصيتين سوف يضيع الممثل والممثلة ويجعلهما يضيِّعان الشخصيتين. واختراعُ ما أدى بهما إلى اقتراف الجريمة سوف يجعلهما يمسكان بخناق الشخصيتين بجدارة ووضوح.
إن على الممثل أن لا يخترع (تاريخاً) للشخصية. بل عليه أن يخترع (جزءاً من التاريخ).
وبما أن تخيُّلَ هذا التاريخ الموهوم كان جزءاً هاماً من تدريس فن التمثيل في المعاهد المسرحية العربية، فقد أدى بهذا الفن إلى أن يقول عنه الأساتذة والممثلون بأنه (فنُّ التفاصيل). ولا أعرف أسلوباً أشد ضلالاً وتضليلاً من تعريف التمثيل بهذا الوصف المربك الذي يؤدي إلى تمدد الشخصيات وإرباكها بحشد مئات الأفعال التي لا لزوم لها، والتي - مع الأسف الشديد - صار الممثلون يتباهون بها، والتي أوردنا نموذجاً عنها في النص المنقول عن ستانسلافسكي في الحديث عن الحبكة.
لكن المسرح (فن التفاصيل) شئنا أم أبينا. وإن أروع ما توصل إليه فن التمثيل هو أنه فن التفاصيل. فهو الذي حوَّل هذا الفن من مجرد إبداع ذاتي عند الممثل إلى علم يصقل الموهبةَ والإبداع. لكن معنى (التفاصيل) اتَّسع حتى انخرق. فهو مبالغاتٌ في إيرادها من غير ضرورة. ولم يقع فن التمثيل في هذه المبالغات والزيادات إلا بناء على اختراع كامل التاريخ للشخصية. وهكذا أيضاً نصل إلى تحديد معنى التفاصيل. وهو أنه يجب - وأقول يجب - أن تنصبَّ أيضاً في تأكيد وتوضيح ذلك الجانب الوحيد الأساسي الذي بُنِيَت عليه الشخصية. وسوف تنبع هذه التفاصيل لا من عناصر الشخصية التي وضعها الكاتب فحسب، بل ومن (جزء التاريخ) الذي اخترعه الممثل للشخصية.
والمدرسة الروسية هي سيدة اختراع التاريخ للشخصية. وهي التي أكدت على أن المسرح فن التفاصيل. وهي التي أخذنا منهجها عن طريق ستانسلافسكي الذي وضعنا على لسان مدرسته ما لم يَقُلْ، وأضفنا إلى فنه ما لم يفعل. لكن المدرسة الروسية التي تهتم بكثرة التفاصيل تبدو عندنا نحن العرب مدرسةً سقيمةً ذاتَ إملالٍ وإن بدت ذاتَ براعة. وقد أخذناها نحن العرب بقضها وقضيضها دون أن نقدر على تحديد معنى التفاصيل. فبدت الشخصيات المسرحية على خشبات مسارحنا ثرثارة الفعل كما هي ثرثارة الكلام.
إن كل شعب يفهم هذه القاعدة الرائعة بما يناسب طبيعة تركيب أفراده وسلوكهم اليومي في الحياة. كما يضع هذه القاعدة بشكلٍ يتناسب مع مفهوم الذوق الجمالي لـه. والذوق العربي الجمالي يقوم على قاعدة صارمة هي (البلاغة الإيجاز). وآهِ لو يكون العاملون في المسرح على دراية تامة ببلاغة الإيجاز حتى تتراكب التفاصيل الضرورية في هرم جميل.
إن مجمل هذا الكلام يوصلنا إلى الفكرة الجوهرية التي أرجو لكتابنا المسرحيين منذ بداية تسعينات القرن العشرين أن يدركوها وهي أن من الخطأ الفادح أن يعرضوا جميع جوانب حياتها وتفكيرها وبيئتها. وإن من الصواب أن ينتقوا لها جانباً واحداً. ثم يستكملون وجوهَ هذا الجانب كلَّها. فهذا هو جوهر بناء الشخصية الدرامية في شكلها الصحيح. ومن انتقاء هذا الجانب الواحد يأتي الكاتب بأهم خصائص الشخصية اللازمة لها.
إن التكثيف والإيجاز والانتقاء جوهر الفن. وهي الصفات التي يعرفها الجميع كما قدمنا. ويجب أن نعود إليها بوعي وإدراك بعد أن حوَّلها طولُ التكرار الجاهل لها إلى عملة ممسوحة.
وأعتقد أن ما سقتُه من تحليلٍ لشخصيات المسرحيات القديمة قد يوحي بسوءِ تركيبها أو خللِ بنيانها. وهو أمر لم يُقِرَّ به أحد. وهو يخالف حقيقةً لا يستطيع أحدٌ إنكارَها وهي أن هذه المسرحيات بقيت خالدة لأنها كانت صحيحة البناء كما كانت ذاتَ شخصيات معروفة مشهورة نعرفها أكثر مما نعرف أهلنا وأبناءنا. فنحن نستطيع تخيل (هملت ولير وروميو) شكسبير، و(بخيل) موليير، و(نورا) إبسن بمعرفةٍ وثيقة فلا يختلف أحد في وصف ملامحها الرئيسية منذ أن كُتِبت هذه الشخصيات حتى الآن. وهي لم تكن كذلك إلا لأنها كانت غير كاملة الجوانب وغير مستوفية لكل ما يتعلق بحياة الإنسان بل كانت مستوفية لكل ما يتعلق بجانب واحد من حياة الشخصية المسرحية. ومن الولوج في هذا الجانب الوحيد استكمل الكتاب كل حياة الشخصية.
والحق أن هذه الشخصيات - وكثيراً غيرها - نموذج حي على بطلان الرأي القائل باستكمال جميع جوانب الشخصية. فهي لا يبرز منها إلا جانبٌ واحد هو مدار موضوعِ المسرحية وأحداثِها وحبكتِها وحوارِها. وهي أيضاً نموذجٌ محكَمٌ في استيفاء جميع عناصر هذا الجانب الواحد. ولنأخذْ واحدةً منها مثالاً على ما نقول هي شخصية (الملك لير). فهو عجوز خَرِف أو ساذج أو أبٌ صار يتعلق بحب بناته بعد أن تقدمت به السن. ومهما كان شأنه فهو يحمل مفهوماً خاصاً به عن حب الأبناء لآبائهم. وهذا المفهوم مبالَغٌ فيه ومغلوطٌ به. وقد تكَوَّن عنده نتيجة الخرف أو السذاجة أو التعلق الزائد ببناته. ويقوم بفعل توزيع ملكه بين بنتين أنانيتين فهمتا نفسية أبيهما العجوز الخرف الساذج الشديد التعلق بهما. فسايرتاه في هذه النقطة التي أبرزها الكاتب وحدها. في حين لم تفهم ابنته الثالثة هذه النقطة لأنها صادقة مع نفسها. فحرمها لأنها صادقة قاسية في صدقها أمام أبٍ تلك صفاتُه. ثم جرى لـه ما جرى من أحداث تدور في فلك هذه النقطة. فالمسرحية إذن لم تخرج أبداً عن هذا الجانب الوحيد في شخصية هذا الرجل. فنحن لا نعرف شيئاً عن إدارته للمملكة التي ظل يحكمها منذ شبابه حتى شيخوخته. ولا نعرف عواطفه نحو زوجته. ولا نعرف كيف ربى بناته اللواتي وقع لـه معهن أحداثٌ جسام. وهذه النواحي الثلاث في شخصية هذا الرجل هي التي كان على الكاتب أن يقدمها إلينا لو كان فن المسرح يقتضي أن يقدم الكاتبُ جميعَ جوانب الشخصية. لكنه لم يفعل ذلك لأنه يعرف أصول هذا الفن فوقف عند هذا الجانب الوحيد. ثم أخذ يوغل في تحليله ويبني أحداث مسرحيته على تفريعاته دون أن يأتي بأي شيء عن غيره. وكل ما فعلته الشخصية وهي تسير في هذا الجانب وتعمِّقه أنها كانت تتنـزَّه مع جمهورها في حديقة الشعر فتسرف في وصف الألم والغضب. وتحبك لدى المتفرج إحساساً بالمأساة بمبالغة شعرية كان الجمهور يحبها ويطرب لها. لكن الكاتب - وهو يساير جمهوره - أوقع شخصيته في استطالات وامتدادات يضيق بها متفرج اليوم رغم أنها شعر رفيع حافظ على جماله مع أننا نقرأه مترجَماً فاقداً لكثير من جماليات تكوينه الشعري.
وبمثل هذا الجانب الوحيد بنى شكسبير شخصية النبيل (كِنْت) في المسرحية نفسها. فهو أب لولدين واحدٌ منهما غيرُ شرعي. وحمل مفهوماً مغلوطاً عن حب الأبناء لآبائهم. فوقع لـه مع ولديه مثلُ ما وقع للملك المأفون. فكان الكاتب داهية في فن المسرح لأنه لم يخرج أيضاً عن النقطة الأساسية التي وقف عندها وحدها في شخصية الملك. ولكن النبيل (كِنْتْ) كان مثل سيده في التنـزه مع الشعر الجميل. وقد أدرك إبسن الماكر كثرة استطالات شكسبير وأقرانه من كتاب عصر النهضة الأوروبية. فاختصر الكثير منها. لكنه لم يستطع التخلص منها تماماً. فظلت شخصياته - وشخصيات المدرسة الواقعية المحكمة البناء في عصره - تحب الإفاضة في شيء من الشرح والتحليل كان جمهور تلك الأيام يحبها. وعن إبسن - في الدرجة الأولى - أخذنا نحن العرب أسسَ المدرسة الواقعية في إحكام البناء والفضفضةِ في الحوار مستندين إلى أسلوب شكسبير ومعاصريه وأقرانه.
ولو رحنا نستعرض الشخصيات الشهيرة في تاريخ المسرح لتأكد لنا بطلان فكرة (استكمال جميع جوانب الشخصية المسرحية). أما الإتيان بتركيب الشخصية النفسي والفيزيولوجي والفكري وبتوضيح عملها وموقعها في الحياة فهو ليس دليلاً أبداً على ضرورة استكمال جميع الجوانب بل هي دليل على عكس هذا الوهم الباطل. فإن الإتيان به ضروري لأن لكل إنسان صفاتٍ فيزيولوجية وملامحَ وأفكاراً ومهنة وموقعاً اجتماعياً. والكاتب مضطر أن يقدم لنا هذه النواحي - ولا نقول هذه الجوانب - لكي يضع الشخصية بين البشر الذين لا يكون كل واحد منهم إلا على هذا الشكل. ويا ويل الكاتب الذي لا يقدم لقارئه أو متفرجه صورةَ الشخصية في تكوينها الاجتماعي والفيزيولوجي والنفسي. فإنه لن يستطيع أن يقف عند الجانب الذي يريد إبرازه فيها مهما حاول ذلك.
إن تبيان بطلان الفكرة الشائعة عن ضرورة تقديم جميع جوانب الشخصية المسرحية يُطلق أجنحة كتابنا المسرحيين بعد أن طال تقييدها منذ أن تعرَّف العرب على فن المسرح وقرؤوا عنه. ويخلِّصهم من العيوب التي وقع فيها بعضٌ من كتابنا حين حاولوا توضيح جميع جوانب شخصياتهم. والأهم من هذا أنها تجعلنا نعيد قراءة أدبنا المسرحي ونعيد تقييمه. وعند ذاك سوف نكتشف جمال شخصياتٍ شهيرة في أدبنا المسرحي. ونعرف لماذا كانت شخصيات (جابر) سعد الله ونوس و(بلاوتوس) علي عقلة عرسان و(خدامة) ممدوح عدوان و(أوديب) وليد إخلاصي و(عجوز) عشاء رياض عصمت محكمة البناء مع أن هذه الشخصيات كلها - وكثيراً غيرها - تنـزَّهت في استطالات وامتدادات أسرف فيها قلمُ الأديب ولم يقلِّمْها سيفُ المسرحي. وعذرهم في ذلك أنهم يسيرون على منوال إبسن أستاذ الواقعية، وعلى منوال شكسبير أستاذ التراجيديا، وعلى منوال موليير أستاذ الكوميديا. وقد آن لنا أن ندرك عيوب الاستطالات التي أخذناها، وأن نحذفها مع المحافظة الشديدة على إحكام البناء للجانب الواحد من الشخصية
NoUr kasem
NoUr kasem
مساعد المدير
مساعد المدير

عدد المساهمات : 1954
تاريخ التسجيل : 08/09/2009
العمر : 37
الموقع : دمشق . . فلسطينية الأصل

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات  Empty رد: النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات

مُساهمة  NoUr kasem الأحد يوليو 18, 2010 8:29 pm

ب - ثاني الأغاليط أن النقاد قسموا الشخصيات إلى قسمين: شخصيات الفرد وشخصيات النوع.

وشخصيات الفرد هي التي (تكون الشخصية فيها متمايزة عن غيرها في الصفات النفسية بحيث لا تشبه غيرها). وشخصيات النوع هي التي (تتكون من خصائص اجتماعية ونفسية تنطبق على أناس كثيرين من النوع ذاته). وشخصيات النوع هي التي تسمى (الأنماط).
وهذه الأنماط يبنيها الكتاب بالنظر إلى المهنة كالتاجر واللص والمحامي والجندي والحلاق. أو بالنظر إلى الخصيصة النفسية المكروهة كالمتبجح أو الطفيلي أو النمّام أو البخيل. أو بالنظر إلى القومية كالإيرلندي أو الأستكتلندي أو الفرنسي في نظر الإنكليزي أو الإنكليزي في نظر الفرنسي أو العربي في نظر العربي نفسه. أو بالنظر إلى الدين كاليهودي في نظر المسلم أو المسيحي أو كليهما في نظر اليهودي.
وهذه الشخصيات تكون تصرفاتها نابعة من خصائص النوع الذي تمتُّ إليه. فلكل مهنةٍ أفعالٌ وأقوالٌ وطريقةُ تفكير هي التي تتكون منها أفعال وأقوال وتفكير الشخصية موضوعةً في سياق الحكاية. والمكروهون اجتماعياً كالبخيل والأب المتبجح والنمّام يتصرف كلُّ صنف منهم في جميع المسرحيات التصرفاتِ ذاتَها. ولعل (إياغو) شكسبير في مسرحية (عطيل) نموذج عن نمط النمّام الذي تجده في كل مسرحية يفعل فيها النمام فعله. والشخصية القومية تورَدُ بالسخرية منها حين العداء القومي. والشخصية الدينية تُحمَّل الآثام حينما تختلط بالصراعات القومية والفكرية كما صُوِّر اليهود عند أكثر الأقوام وعند العرب. وتورَد بتكريس الخصائص النبيلة إذا صوَّر الكاتبُ نموذجَ قومه كما يصور الكاتبُ العربيُّ عربياً فينتقي لـه من صفات الشهامة والبطولة ما يصح معه أن يكون نموذجاً عن الإنسان العربي كما تعيه ذاكرة التاريخ القومية.
والأنماط في المسرح - كما يدَّعي النقاد - تكون في الكوميديا أكثر مما تكون في التراجيديا. وقد انحدرت إلينا في الكوميديا على الخصوص من الأدب اليوناني ثم الروماني. وترسخت منه في تاريخ المسرح نماذجُ تكررت كالجندي المدَّعي والعاهرةِ الطيبة القلب والقواد والقوادة والطفيلي. ثم جاءت الكوميديا ديلارتي فقامت على نماذج مسبوكة سلفاً في قوالب جاهزة ترتجل مفرداتِ حوارها أثناء العرض الحي أمام جمهور هذه القرية أو تلك بما يثير ضحك هذا الجمهور. ثم انحدرت الكوميديا ديلارتي إلى موليير فبنى شخصياته الكوميدية مستوفياً شروط شخصية النمط إلى أعلى مستوياتها مثيراً عواصف من الضحك.
ويضيف النقاد إلى ذلك أن تشخيص النوع أو النمط بدأ يقل مع انتشار الواقعية التي تخلت عن تقسيم المسرحيات إلى كوميدية وتراجيدية وقالت بخلط الأنواع. فاتجه المسرح نحو تشخيص الفرد. وكان إبسن النرويجي من أوائل البارعين في تقديم نماذج إنسانية تمتاز كلٌّ منها عن غيرها بخصائصها الذاتية التي تجعلها تغاير غيرها من البشر وإن شابهتهم. فهذه الخصائص كبصمة الإصبع التي تجعل كل واحد من الناس مختلفاً عن غيره مهما تشابهت ملامحه مع البشر.
إن هذا التقسيم للشخصيات باطل في باطل. وقد ذهبت محاولاتُ كبار نقاد المسرح أدراج الرياح بعد كل ما حاولوه من تأكيد هذا التقسيم. فكل واحد منهم كان يُجهِد نفسَه لوضع صفات كل من القسمين. وكان يشحذ ذاكرته بنماذج من مسرحيات قديمة وحديثة تُعينه على هذا التقسيم. ثم لا يلبث أن يقول ما معناه (إن هذا التقسيم في نهاية الأمر نظريٌّ يقتضيه البحث لأنه غير صحيح في التطبيق العملي حين النظر إلى تاريخ الشخصيات في المسرح). ثم يخلص إلى أن أكثر الشخصيات فرديةً، كشخصية (هملت)، تصلح أن تكون (نمطاً). فهو في محصلة الأمر أمير يتصرف كما يتصرف الأمراء، كما يخلص إلى أن أكثر الشخصيات نمطيةً لا بد أن يحمل خصائصه الفردية التي تجعله متمايزاً عن غيره من أشخاص نوعه ذاته. ولو عاد القارئ الكريم إلى ما قرأه في كتب النقد المسرحي عن (الشخصية المسرحية) سواء كانت هذه الكتب عربية أم أجنبية، فسوف يلمس هذا الجهد الضائع في تثبيت هذا التقسيم لنوعي الشخصيات. ثم لا بد أن يصل إلى العبارة التي أوردناها في نقض كل ما بُذِل فيه الجهدُ لإثباته.
والحقيقة أن هذا التقسيم وصل إلينا حين أخذ النقاد يؤرخون للمسرحيات الأخلاقية التي نشأت في الكنيسة الإنكليزية في نهاية العصور الوسطى. فقد كانت تمثل الفضيلةَ والرحمةَ والإحسانَ بشخصيات تدفع الإنسان إلى الالتزام بواجباته الدينية والأخلاقية. ولعل تصوير نموذج الإنسان الدنيوي كان أبرع هذه النماذج. فهو غبي سفسطائي مهتم بنفسه وغافل عن واجباته الدينية. ومن الوقوف عند نماذج هذه المرحلة البدائية في المسرح، بدأ الحديث عن شخصيات النوع وشخصيات الفرد يتسلل إلى كتب النقد. والمسرحيةُ الأخلاقية هذه تذكِّرنا بمسرحنا المدرسي في أواسط القرن العشرين حين كان الأساتذة يشحذون همة طلابهم القومية فيضعون على صدور طلابهم لافتات صغيرة كتب عليها (التاريخ - الجزائر - الاستعمار - سورية). ثم تأخذ هذه النماذج تتحاور بما ينطق به المواطن العربي كل يوم من شعارات.
وهذا يعني أن هذا التقسيم بدأ من الوقوف لا عند الأدب اليوناني أو الروماني أو أدب عصر النهضة الغربية، بل بدأ من الحديث عن أكثر المسرحيات بدائية وهي المسرحية الأخلاقية، والتي لَوَتْ فيها الكنيسةُ عنقَ المسرح القديم الذي لم تستطع الاعتراف به لأنها حرَّمته. ثم اخترعت لنفسها نوعاً خاصاً بها يقوم بمهمة الوعظ ويجعل الناس يستغنون عن الأدب القديم. لكن النقاد هنا يستنبطون قاعدة هذا التقسيم من مرحلة ضعيفة في تاريخ المسرح. فكان شأنُهم في هذا المجال أيضاً كشأن النحاة العرب الذين استنبطوا قاعدة قيام (ألـ) بمعنى اسم الموصول لا من بيت الفرز دق الشاعر الكبير فحسب، بل من بيت ذلك الشويعر المجهول. ولم ينتبه النقاد العرب الذين تحدثوا عن بناء الشخصية المسرحية فنقلوا عن النقد الأجنبي هذا التقسيم إلى أن حالهم كحال من يؤرخ للشخصية المسرحية مستنداً إلى شخصيات المسرح المدرسي في جعل الأفكار شخصياتٍ مسرحيةً هي من أشد الأنواع نمطية.
هذا التقسيم الذي انغرس في الذاكرة أوصل حالَنا المسرحي في النقد والتمثيل إلى حالة تدعو إلى شيءٍ من السخرية غير المضحكة، وإلى ضياع الكثير من جهد النقاد، وإلى تأخرٍ كثيرٍ في تشخيص الأدوار على خشبة المسرح. والسنواتُ الأربعون الماضية التي تابعتُ فيها العروض المسرحيةَ مشاهِداً، وما كُتِبَ عنها قارئاً لما كُتِب عنها أو عن تحليل النصوص العربية أو السورية، تقدم الدليل على هذا الضلال الذي نقلناه عن كتب النقد الأجنبي ووقعنا تحت وطأته مبالغين فيه.
فالشخصيات التي يقال عنها إنها (نمطية) كان الممثلون يجهدون في خلق (كاراكتر) لها. ولو جلستَ مع الممثلين اليوم وأتيتَ في سياق الكلام عن إحدى هذه الشخصيات لقفزت هذه الكلمة البلهاء (كاراكتر) إلى أفواههم بسرعة تضاهي سرعة تلقفهم لهذا التقسيم الضال المضل. وكانوا دائما يحرصون
-تنفيذاً لفكرة تشخيص النمط بالكاراكتر - على أن يخترعوا تكويناً جسدياً معيناً للشخصية النمطية غالباً ما يكون مشوهاً. فالنموذج العربي الشهم الشجاع لا بد أن يكون مصقولَ القامة واضحَ النبرات متجهمَ الوجه بحيث يبدو في النهاية ثقيل الظل. والبخيل لا بد أن يكون عجوزاً محنيَّ الظهر سريع حركة المقلتين في حملقةٍ للمال تجعله أشبه بالدمية. والنمّام لا بد أن يكون قميئاً ملتويَ الأعضاء فاجرَ الضحكة. ويكفي أن يتذكر القارئ شخصية اليهودي التي كررها المسرح العربي والسوري مئات المرات حين يجعله الممثلون أخنَّ الصوت كريهَ المنظر رخو الكلام. ونتج عن ذلك أن كثيراً من الممثلين المجيدين تلذَّذوا بالنمط الذي أتقنوه في أحد أدوارهم فركبوه حتى صار سمةً لهم. ولا يدخل في الكلام عن هذا النوع من التمثيل الشخصياتُ الشعبيةُ كشخصية (غوار) أو (أبو عنتر) أو (حسني البوراظان) وأمثالها. فهذه أنماط تفرّد بها أشخاص معينون في حياتهم الفنية كلها. وهي (أنماط) لشخصيات لا علاقة لها بتمثيل الأدب المسرحي أو ما يمت إلى الشخصيات التي يقال عنها إنها من شخصيات الأنماط. فهي نماذج أخرى لها علاقة بروح الفكاهة عند الشعب. وكانت فاتنة سحرت العرب في أقطارهم وماتزال. وهي موجودة عند كل الشعوب. وقد ترقى إلى نوع إنساني يحارب الجهل والظلم كشخصية (الرجل الصغير) التي اخترعها شارلي شابلن فحمل إلى البشرية خيراً عميماً في الدفاع عن الإنسان. ولذلك أرجو من القارئ أن يبعدها عن تفكيره وهو يقرأ عما فعله الممثلون العرب والسوريون في تصوير شخصيات المسرحيات المتقنة التي يقال عنها إنها نمطية.
إن هذا التنميط التمثيلي بالكاراكتر أفقدَنا تنوعَ الرؤية لكثيرٍ من الشخصيات الفاتنة التي عرفها المسرح. ومنع عن الممثلين طُرُقَ الإبداع حين حاولوا خلق مظهر جسدي لهذه الشخصيات. ولو سأل الممثل نفسه: ألا يمكن أن يكون البخيل طويل القامة جميل المحيا؟ ألا يخلق من التناقض بين المظهر الجميل وبين التصرف القبيح مفارقةً قد تكون أكثر إضحاكاً من تشخيصها بالجسد المشوه؟ ألا يمكن أن يكون النمّام هادئ الأعصاب جميلَ الابتسامة خفيضَ الصوت فيكون لفعله وكلامه فعلُ السم الذي يسري في الجسد؟ ألا يكون تأثيره في هذه الحالة أبلغ من تأثيره حين يكون مشوه الجسم؟
ولا يعني هذا الكلامُ الابتعادَ عن خلق تكوينات جسدية غريبة أو مشوهة أو مضحكة أو مبكية بحيث تخلق (كاراكتراً) معيناً لشخصية ما. فقد لا تحلو الشخصية إلا بهذا التكوين الجسدي. بل يعني أن نطرد من تفكيرنا التقسيمَ المفتعلَ للشخصيات بأنها قسمان يقتضي تشخيصُ (النوع) منهما تكويناً جسدياً مشوهاً. والأهم من هذا أن ينـزع النقاد والمؤلفون عن هذا التقسيم. أما الناقد فيتحرر من هذا القيد حين ينظر إلى الشخصية المسرحية من خلال تكوينها في موضوع المسرحية وصراعها وحبكتها. فلا يضعها قسراً في أحد القسمين فيخرج بنتائج باطلة في فهم الشخصيات. وأما الكاتب فيتحرر جناحاه من الخوف من الوقوع في أسر أحد هذين القسمين، وينطلق إلى بناء شخصياته كما يراه ضرورياً لاستكمال شروط بنائها.
وشروط بناء الشخصية بشكل صحيح أن يكون لها سماتُ جانب واحد يستكمل الكاتب مناحيها كما قدمنا أولاً. وأن تأتي أفعالها وأقوالها نابعة من هذا الجانب ومنسجمةً مع دورها في بناء الحكاية ثانياً، وأن تكون مناسبة لها وقائمة على مبدأ السببية ثالثاً.
ومبدأُ السببية هذا يقوم عليه الفنُّ المسرحي كله كما ذكرنا من قبل. ففي الرواية (يحدث كذا ثم كذا ثم كذا). أما في المسرح (فحدث كذا ولذلك يحدث كذا ثم يحدث كذا). ويظل هذا المبدأ يحكم جميعَ الأفعال والأقوال من أول المسرحية إلى آخرها. وهو الذي يحدد للكاتب كميةَ الأفعال وكمية الأقوال. وهو الذي يطوِّر الحبكة ويؤجِّج الصراع. وكلُّ ما يخرج عن هذا السياق المنطقي القائم على السببية يُعتَبَر زيادةً يجدر بالكاتب أن يستغني عنه. وحينما يتمسك الكاتب بهذا القانون الصارم فسوف يبني شخصياته بشكل صحيح. فإذا بناها بناء صحيحاً فسوف يجد أن حبكته وصراعه المسرحي قد اكتملا. أي أن إحكام بناء الشخصية بمبدأ السببية هو الذي يبني جميع عناصر المسرحية الأخرى بإحكامٍ وتصاعد. وحينما ينتبه الناقد إلى هذا القانون الحتمي في فن المسرح، فسوف يستطيع ملاحقةَ الكاتب فيما فعل. ويستطيع، في الوقت نفسه، أن يتجرَّد عن كل ضلالاتٍ مسبقة عن بناء الشخصيات. فإذا تخلص من هذه الضلالات كان أقدر على الدخول إلى عالم المسرحية التي يدرسها.
ولن يستطيع الكاتب أن يبني الشخصية بمبدأ السببية إلا إذا انتبه إلى واحد من أخطر شروط الشخصية وهو (الدافع) الذي يحركها. فالقتل والسرقة والنميمة وهجر الحبيبة والانتحار والموت في سبيل الوطن أفعالٌ تحتاج إلى دوافع توازيها في القوة وتكون منسجمة معها من غير زيادة أو نقصان. ولأن (الدافع) هو المحرك الأساسي لجميع أفعال الشخصية وأقوالها، فإن الكاتب لن يستطيع تحقيقه إلا إذا انطلق من ذلك الجانب الوحيد الذي يختاره لها. فهو يبرز عند ذاك بروزاً واضحاً وجلياً فلا يضيع عن القارئ أو المشاهد، ويظل محرِّكاً نارياً للشخصية ومُقنِعاً بها. وإذا تذكرنا أن قصة المسرحية تحلو وتُدهِش بمقدار غرابتها واستثنائية حوادثها، فإن هذه الغرابة والاستثنائية تستدعي غرابةً في الشخصيات واستثنائيةً فيما يقع لها من أحداث. ومن أول الاعتراضات التي توجهها النظرة العجلى إلى الشخصيات أن تقول (إن هذه الشخصية لا يمكن أن تكون في الواقع). ولكن هذا الاعتراض لا قيمة لـه عندما نتذكر القاعدة الجوهرية في المسرح عامة وهي أن المسرحية ليست هي الحياة بل هي تصويرٌ لجانبٍ منها. ويُستنبَط من هذه القاعدة الجوهرية قاعدةٌ ذهبية هي أن المسرح ليس تصويراً للواقع أو نقلاً لـه بل هو إيحاءٌ به بحيث يمكن أن تقول عن حكاية المسرحية (إنها يمكن أن تقع في الحياة).
إن الغرابة المطلوبة المحبوبة المدهشة في حكاية المسرحية، والمستدعيةَ لشخصيات غريبة استثنائية، لا يمكن قبولُها واعتبارُ بنائها وسير أحداثها منطقياً مقبولاً مقنعاً إلا إذا كانت دوافعها مقنعةً بأفعالها. ولعل أغرب حدث عرفه المسرح هو أن (أوديب) تزوج أمه وقتل أباه. فلما عرف الحقيقة كان ذلك دافعاً مقنعاً تماماً لأخطر فعل يقوم به إنسان وهو أن يفقأ عينيه. وهذا الفعل أكثر إيلاماً من الانتحار. فبالانتحار يتخلص الإنسان من أثر هذه الجريمة التي اقترفها. أما فقء العينين فعقابٌ دائم للنفس. فكانت جريمته الكبيرة دافعاً مناسباً للفعل الكبير الذي فعله بنفسه.
وهكذا، يمكن للكاتب أن يكون حراً في انتقاء أحداث حكايته دون أن يهتم بأن ما يأتي به من أحداث ووقائع لا يمكن أن يقع في الحياة. وهو بهذه الحرية المطلقة لـه، يُطلِق جناحَ خياله فلا يحدُّه قيد واقعي أو فهم سطحي لمعنى الواقعية شريطة أن تكون أفعال وأقوال شخصياته الغريبة المدهشة منسجمة مع دوافعها. فإذا أحسن إحكامَ التناسب بين الأفعال ودوافعها، فقد ملك أكبر أسرار الكتابة المسرحية. وامتلك - وهذا هو الأخطر والأصعب والأهم - سرَّ بناء الشخصيات. فلا يبالي بعد ذلك بما يقال عنه من اتصافه بالاستثنائية والخروج عن الواقعية. لأن التناسب بين الفعل والدافع إلى الفعل هو الواقعية وإن شطَّ خيالُ الكاتب بعيداً عن الواقع أو المألوف.
أما أهم عناصر بناء الشخصية فهو أن تكون (مغلقة). أي أن تبدأ من نقطة ما ثم تنتهي إلى نقطة لا يمكن بعدها حدوث شيء جديد. وهذا هو اكتمال البناء للشخصية. حتى إذا ترك الكاتب لأفعال الشخصية أن تنتهي في ما بعد الانتهاء من المسرحية فقد أغلقها. كأن تنتهي المسرحية بصراعٍ غيرِ محسوم بين شخصيتين، أو تنتهي بالشخصية وهي تحلم بالملاك الذي سينـزل إليها من القمر. لأن القارئ أو المتفرج هو الذي يضع لها فعلَها النهائيَّ فيُقَدِّر أن هذه الشخصية ستنتصر أو ستنهزم، وأن الملاك سينـزل من القمر أو أنه لن ينـزل. فهو في هذه الحالة يقوم بإغلاقها. وما الإغلاق إلا الاكتمال. ولنتذكرْ أن أبرع وجوه إبداع شكسبير أنه أغلق مئات الشخصيات في مسرحياته سواء كانت أساسية أم ثانوية. ولعل شخصية (حفار القبور) في مسرحية (هملت) من أنصع الشخصيات الثانوية التي عَبَرَتْ كاللمح السريع في مسرحية طويلة فضفاضة تنـزهت شخصياتُها على شواطئ التمدد والاستطالات. لكن الكاتب أغلقها كما أغلق بالقتل أكثر شخصياته الأخرى.
وإذا كان الكتاب يحرصون على إغلاق شخصياتهم الرئيسية، فقد يغفلون عن إغلاق الشخصيات الثانوية كما فعل سعد الله ونوس مع شخصيتي (زاهد وعبيد) في مسرحيته (الملك هو الملك). فقد جاء بهما ثوريين يدبِّران احتجاجاً أو ثورة على الملك. ثم تركهما من غير أن نعرف ما جرى لهما. حتى إذا كان دور الشخصية صغيراً جداً وجب على الكاتب أن يغلقها. فقد يأتي بخادمٍ تكون مهمته، مثلاً، الإعلانَ عن دخول الضيوف أو تقديمَ المشروبات والمأكولات. ويجب على الكاتب ألا يهملها. ولعل أبسط شكل لإغلاقها أن نعلم في نهاية المسرحية أنها ماتزال تقوم بهذا الدور.
إن على الكاتب المسرحي في هذا العصر السريع الذي لا يتحمل طولَ الحوار ولا تنَـزُّهَ الشخصيات على خشبة المسرح أن لا يدفعه الإيجازُ والاختصارُ إلى إهمال إغلاق شخصياته الثانوية أو العابرة. فإن فعل فقد حكم على مسرحيته بالضعف والخلل
.

ج - ثالث الأغاليط أن الشخصية المسرحية يجب ألا تكون ذهنية.
أي أنه لا يجوز لها أن تُفيض في حوارها عن أفكارها وعن نفسها، أو أن تتبادل مع الشخصيات الأخرى حديثاً مطولاً عن مقارعة الأفكار بحيث يقلُّ أو ينعدم الفعل المسرحي فلا يتطور الحدث ويسكن الصراع. وتفرَّع عن ذلك وهمٌ كبيرٌ شديدُ الخطأ لأنه شديد الضلالة هو أن المسرحيات تنقسم إلى مسرحيات تصلح للقراءة فقط ولا تصلح للعرض، ومسرحيات تصلح للقراءة والعرض معاً. وانبثق عن هذا التقسيم نبْتٌ شيطاني هو المسرحية التي تصلح للعرض دون القراءة.
إن الجذر الخاطئ في هذا الوهم أن المسرحية التي تصلح للقراءة دون العرض ليست مسرحاً على الإطلاق. بل هي حوارية لا تدخل في باب المسرح كبعضٍ من مسرحيات وليد إخلاصي الأخيرة. فلنُخرجْ هذا النوعَ من ميدان المسرح، ولنناقشِ النوعَ الذي يصفه النقاد، موهومين، بأنه ذهني.
ونقف بداية عند نقطة مؤلمة اقترفها النقد المسرحي عامداً متعمداً وهي وصفُ بعض مسرحيات توفيق الحكيم الرائعة بأنها ذهنية تصلح للقراءة دون العرض كمسرحية (أهل الكهف) أو (شمس النهار). وقد نسي هؤلاء النقاد أن هذه المسرحيات قُدِّمت في مصر وفي عديد من الأقطار العربية مرات عدة ونجحت في كل مرة نجاحاً ساحقاً. فهي، إذن، تصلح للعرض. وهي في الوقت نفسه من روائع الأدب الذي تتوازى فيه لذةُ القراءة الفكرية مع لذة العرض المعتمد على بصريات إبداع الممثل والمخرج. ولعله يجدر بنا هنا أن نتذكر شيئاً في فن المسرح بقينا طويلاً نتجاهله حتى جهلناه، وآن لنا أن نذكِّرَ به حتى لا نهبط بمسرحنا ولا نقلِّل قيمته ولا نخرجَ به عن مساره فنخسرَ مكانتنا المسرحية في العالم. وهو أن المسرح، قبل كل شيء وبعد كل شيء، (أدب) كما هو الشعر والرواية والقصة القصيرة. ومن الممتع فيه أن نقرأه. وإذا كان الكمال فيه أن يُقَدَّم على خشبة المسرح، فإنه لا يفقد قيمته الأدبية وإلا لم يكن ممكناً أن يُطبَع في كتب وأن تتوارثه الأجيال باعتباره جزءاً من تراث الأمة الأدبي والفكري. وهذا الأدب المسرحي تتباهى به الأمم كما يفعل الإنكليز في افتخارهم بشكسبير ومارلو وأوسكار وايلد وغيرهم من أدباء مسرحهم. ومثلَ ذلك يفعل الفرنسيون بمسرحيات موليير وراسين وكورني وفيكتور هيجو. ولا يقلُّ افتخار الفرنسيين بهؤلاء الكلاسيكيين عن افتخارهم بمسرح الطليعة الذي دمَّر أصول البناء المسرحي التقليدي وخلق أصولاً جديدة في البناء المسرحي أضافت لتراثهم الأدبي لوناً جديداً. ولو أن المسرح لم يكن أدباً لجاز لنا أن نرمي أدبنا المسرحي كله بعد تقديمه على خشبة المسرح في عرض أو عرضين. لكننا نفعل غير ذلك إذ نحوط أدبنا المسرحي بالرعاية والاهتمام والتأريخ والتقييم لأنه جزء من تراثنا الأدبي الحديث.
ولا يمكن للمسرحية أن ترتقي إلى مرتبة الأدب المسرحي إلا إذا كانت تحتوي - إضافة إلى إحكامها الدرامي - عمقاً فكرياً وفلسفياً وغوصاً على النفس الإنسانية يضيف إلى ثقافة القارئ أو المتفرج ثقافة واطلاعاً على مناحي الحياة الفكرية والاجتماعية. فيخرج بعد القراءة أو المشاهدة وهو أغنى نفساً وفكراً. ولو أن إحكام الحبكة وبناء الشخصيات يكفيان للارتقاء بالمسرحية دون عمقها الفكري، لكان الكاتب الفرنسي الشهير (سكريب) من أعظم كتاب المسرح لأنه أبرعهم في بناء الحبكة. لكن تاريخ المسرح نسيه لأنه اكتفى بإتقان الحبكة دون إتقان البعد الفكري في مسرحياته.
ويُبنى على هذا الكلام أن المسرحية حقل واسع يحتوي كثيراً من جوانب الإبداع. فقد تقوم الحكاية على صراع فكري يحبكه الكاتب بحيث تتبدى فيه الشخصيةُ المسرحية كائناً حياً ينطلق من جانب واحد في أفكاره وفي النقطة التي يدور فيها الصراع بين الشخصيات. وتنجلي المسرحية في نهايتها عن قصة متكاملة لكن الصراع فيها فكري كما أن الحدث فيها يقوم على مقارعة ذهنية. ومن هذا المنطلق نتمتع بمسرحيات برنارد شو قراءةً ومشاهدةً. وبمثل هذه المتعة نتلقى مسرحيات أوسكار وايلد ذات البراعة الذهنية والحذلقة الكلامية الفاتنة. وأعتقد أن هذا النوع من المسرحيات هو أصعبها وأرقاها. ولا يستطيعها إلا كبارُ الكتاب ذوو العقول الجبارة التي تستطيع أن تقيم من قِراع الأفكار صراعاً مسرحياً يتنامى وحكايةً جميلة تتصاعد. ومن هذا النوع أكثر أنواع مسرح العبث أو اللامعقول الذي ليس في نهاية الأمر إلا حواراً ذهنياً يبدو ساكناً لكنه يغلي بنوع جديد من الصراع. وقد ترك هذا النوع أثراً كبيراً في العالم. وعندما نرفض مثل هذا النوع بحجة أنه (ذهني)، فكأننا نرفض نتاج جبابرة العقول وما أقلهم في تاريخ المسرح.
وهنا لا بد من التفريق بين المسرحية ذات الصراع الفكري أو التي تنبع مناقشاتها الفكرية من قلب الصراع لتصبح جزءاً من الحبكة، وبين حشو كلام الشخصيات بالأفكار التي لا ترتبط بتصاعد الحكاية أو التي يمكن حذفها رغم جمالها وعمقها. فهي في الحالة الأولى أدب رفيع. وهي في الحالة الثانية (تنـزُّه) أحبه الكتاب الكبار كثيراً لأنه وسيلة لإبراز حكمتهم في الحياة. ولعل أوضح مثال على النوع الأول مشهد المحاكمة في مسرحية برنارد شو (جان دارك). فهو قراع فكري وصراع درامي في آن واحد.
إن الانجراف وراء تقسيم المسرحيات إلى ذهنية وغير ذهنية ضلالةٌ نقدية أتمنى أن لا ينجرف وراءها النقاد والكتاب. أما النقاد فسوف يندُّ عنهم فهمُ فن المسرح إذا تمسكوا بهذا التقسيم السقيم. وأما الكتاب فإنهم سوف يخسرون عمقهم الفكري والنفسي إذا انجرفوا وراء هذا التقسيم وتجنبوا عمقَ الفكر في كتاباتهم. أما اعتبار النص الذي يصلح للعرض دون القراءة مسرحاً فوباءٌ وقانا الله شرَّه.
وإذا كان هذا التقسيم الـمُضِلُّ قديماً في كتب النقد، فقد كثُرَ الحديثُ عنه في هذه الأيام. وسببه أن مسرحنا العربي منذ عشر سنوات ينفر من كل ما يتيح للنص المسرحي دخولاً في التأمل الفكري، ويهوى كلَّ ما يتيح للنص دخولاً في المشهدية البصرية. ولعل لذلك أسباباً سياسية تتعلق بانهيار الموقف العربي تجاه قضاياه المصيرية، وأسباباً اجتماعية تتعلق بانهيار الحلم العربي في تحقيق العدالة التي حلموا بها منذ بداية عصر النهضة. لكن السبب الرئيسي هو أن الحركة المسرحية العربية اليوم يقودها المخرجون وليس الكتاب. وأكثر هؤلاء المخرجين ينحَوْن في عروضهم المسرحية نحو إبراز الشكلانية الجمالية التي صارت طاغيةً على العروض المسرحية. ولكي يحققوا ذلك فقد حلّوا محل الكتاب من ناحية، وطلبوا نصوصاً تلائم مطلبهم من ناحية ثانية. وبذلك تحولت الكتابة المسرحية إلى ما يشبه (السيناريو) الذي يحبك أحداثاً فعّالة في خلق المشهد البصري دون الاهتمام بإبراز موقف فكري أو إنساني من الحياة. وفي هذا النوع تبرز الشخصيات المسرحية المتضائلة التي تتيح للمخرج أن يحول الممثل إلى أداة طيِّعة الجسد والعقل لتحقيق الشكلانية، وتختفي الشخصيات القوية التي تجبر المخرج على أن يجعل الممثل عنصراً أساسياً يقوم بخلق الدور المسرحي المتكامل الذي ينبثق من جانب إنساني ينمو ويتصاعد ويتعمق. حتى إذا تناول المخرجون نصوصاً أجنبية أو عربية فيها شخصيات قوية تدخل صراعاً قوياً، فإنهم يقرِضون أطرافَ هذه الشخصيات ويجرِّدونها من عمقها الفكري والإنساني حتى تبدو أقزاماً ضئيلة متلاعَباً بها بعدما كانت في نصها الأصلي شامخة تصول بأفكارها ومواقفها على خشبة المسرح. ومن هنا برزت النصوص التي تصلح للعرض فقط ثم تُهمَل بعد الانتهاء منه. وقد حلت هذه النصوص محلَّ الأدب المسرحي. فكأن فجوةً حدثت في العقد الأخير الذي يبدأ مع تسعينات القرن العشرين ويستمر مع بدايات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
وقد ركض النقد المسرحي وراء هذا المنحى الجديد للمسرح العربي، وإذا به يلاحق باللوم والتثريب كلَّ جملة ذاتِ موقف فكري أو تأملي للحياة ينطق بها الممثل. والويل عندهم كل الويل إذا هدأ المسرح عن الحركة لحظة لتبرز معاناة الشخصية بأفكار سياسية أو اجتماعية أو إنسانية. فهي (المباشرة) حيناً. وهي (الذهنية) حيناً آخر. وإذا بالتقسيم الضال القديم للمسرحيات بأنها ذهنية أو غير ذهنية يبرز من جديد إلى النشاط المسرحي والنقد المرافق لـه. لكنه هذه المرة يعود بكثير من الغباء ومن الجهل بأصول التأليف المسرحي. وإذا بوصف الذهنية يُلصَق بأي نص يتلبَّث قليلاً ليقدم زاداً فكرياً ظلت البشرية تسعى إليه من أول نشأة المسرح، مع أن الشخصيات في هذا النص لا تقدم هذا الزاد إلا من ضمن تركيبها واكتمال بنائها. فكأن رفض العمق الفكري رفضٌ لكمال البناء في الشخصية المسرحية.
إن الشخصية المسرحية هي التي تقدم هذا الزاد الفكري. وشرطه الوحيد هو أن يكون هذا الزاد نابعاً من بنية الحدث المسرحي ومن طبيعة تكوين الشخصية المسرحية. ولعلنا نذكر مونولوجات الملك لير وهو يتحدث بعمق ممتع عن علاقة الأبناء العاقين بآبائهم. ولعلنا نذكر مواقف (نورا) إبسن التي حللت اضطهاد المرأة. ولعلنا نذكر أيضاً تحليل (بلاوتوس) علي عقلة عرسان لعلاقة رجل الفكر برجل السلطة. وما أمتع ما يتحدث به (زبّال) ممدوح عدوان عن الوضع الفلسطيني. وما أجمل ما يقوله (ملك) سعد الله ونوس عن العرش ومتطلباته وقواعد الحفاظ عليه. وفي مثل هذه المواقف وأمثالها، تنثر الشخصيات أفكاراً وحكمة وفلسفة يمكن لك أن تضِلَّ بها وبنفسك فتصفها بالذهنية.
لكن من الضروري أن نتذكر أن قيمة هذه الأفكار بما فيها من الحكمة والفلسفة تأتي من أنها منبثقة عن مجمل التكوين النفسي للشخصية، ونابعة عن السمات الضرورية للجانب الواحد الذي اختاره الكاتب لها ثم أخذ يعمقه فيها. فإذا بها تضيء لنا وجهاً من وجوه الحياة. وتقدم لنا زاداً فكرياً نضيفه إلى مخزوننا الفكري. وتلك هي إحدى مهام الأدب وإحدى تجليات عظمة
NoUr kasem
NoUr kasem
مساعد المدير
مساعد المدير

عدد المساهمات : 1954
تاريخ التسجيل : 08/09/2009
العمر : 37
الموقع : دمشق . . فلسطينية الأصل

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات  Empty رد: النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات

مُساهمة  NoUr kasem الأحد يوليو 18, 2010 8:33 pm

المسرح عبر العصور.
3-تعريف الشخصية المسرحية

تلك هي أهم الأباطيل التي وقع فيها النقد المسرحي طويلاً في بناء الشخصية المسرحية. وهي - بكشفها والابتعاد عنها - نصل إلى الفيصل النهائي في رسم الشخصية المسرحية وهي أنها (تصويرٌ منظَّمٌ لجانب واحد من إنسانٍ ما في جميع خصائصه التي تميزه عن غيره، موضوعاً في حالة صراع مع الآخرين، مقصوداً به الوصولُ إلى هدف معين).
آ - فالتصوير المنظم يعني الانتقاء والتنسيق والترتيب. فالشخصية داخلةٌ في تركيب قصة. وحبكةُ القصة هي أن يكون لها موضوع محدد. وتصوير الشخصية المنظم يعني أن يأتي الكاتب من أفعال الشخصية وأقوالها بما يخدم هذا الموضوع ويغنيه ويطوره. فالعاشق، مثلاً، يقوم في حياته اليومية بعدد كبير من الأفعال والأقوال. ولكي يصبح هذا العاشق شخصية مسرحية، يقف الكاتب عند جانب العشق فقط. ثم ينتقي من مجموع أفعاله وأقواله ما يناسب الموضوع المحدد وهو حكاية العشق ويهمل بقية الجوانب. وعند ذلك ينطلق سهمُ الشخصية من يد الكاتب إلى الهدف المحدد
.
ب - وتصوير جميع أركان هذا الجانب يعني أن يقدم لنا الكاتب خصائص الشخصية الفيزيولوجية والنفسية والاجتماعية التي تجعله متميزاً عن غيره.
إن الإنسان ابن بيئته. ولا يمكن رسمه إذا لم يوضع ضمن ظرفه الاجتماعي بمهنته وانتمائه الطبقي. ويكون لـه طول معين ووجه معين قد يكون قبيحاً أو جميلاً. ويكون لـه تركيبٌ نفسي هو الذي يحركه وتنبثق عنه الدوافع والمواقف. ومجموع هذه العوامل تساهم في تحديد مسار الشخصية. فلو لم يكن (عطيل) كهلاً مغربياً أسود اللون شجاعاً سبق لـه أن كان عبداً ثم صار قائداً لجيش، لما وقع لـه ما وقع حينما أحب (ديدمونة). ولو لم تكن الحبيبة هذه جميلة صغيرة السن تنتمي إلى أسرة عريقة، لما وقع لها ولحبيبها ما وقع
.
ج - و(تميُّز) الشخصية عن غيرها لا يعني إبرازَ تفوقها على الآخرين، بل يعني أن يكون لها صفاتها الخاصة التي تفرِّقها عن الآخرين. فلكل واحد من البشر صفاته الفردية التي تخصه وحده وتجعله مختلفاً عن الآخرين. ومع أن المسرحيات حفلت بشخصيات ذات صفات بطولية تعطيها صفة التفوق على الآخرين، فإن هذا التفوق لا يدخل ضمن هذا البند في تحديد خصائص الشخصية، بل يدخل في البند السابق. وهو تصوير جميع أركان الجانب الذي انتقاه الكاتب لشخصيته.
د - أما أن تكون الشخصية موضوعة في صراع مع الآخرين فهو الصفة التي تجعلها (درامية). فالصراع هو الذي يبرز خصائصها السابقة كلها لأنه المحرك للفعل. وتبرز صفات الإنسان عند الفعل الذي هو الحركة وليس عند السكون. فلن تعرف شجاعة الإنسان أو جبنه إلا إذا خاض حرباً أو شجاراً. ولن تعرف كرمه أو بخله إلا إذا وُضِع في موضع يُضطَرُّه إلى إظهار بخله أو كرمه. ومثلُ ذلك الشهامةُ أو النذالة، والنبل أو اللؤم وغير ذلك من الصفات الإنسانية التي ظلت البشرية قروناً متطاولة وهي تحملها وتتمحور أفعالُها حولها.
هـ - وأما الهدف الذي تريد المسرحية الوصولَ إليه فهو الذي يحكم جميع عناصر التأليف المسرحي، وهو الذي يوجه الكاتب إلى انتقاء الجانب الذي تنطلق منها الشخصيات كلها، وهو الذي يبنيها على مبدأ السببية. وهو الذي - كما يقول ستانسلافسكي - جعل الكاتبَ يمسك بالقلم لكتابة مسرحيته.


***
إن الشخصية المسرحية أرهف ركن من أركان النص المسرحي لأن المسرحية حكاية يقوم بها أفراد من الناس. فهم عمادها. وجميع عناصر التأليف المسرحية الأخرى تدور حولها لإظهارها بالقدرة الكاملة للقيام بالأفعال والأقوال التي تبني الحبكة وتخلق الصراع وتوصل الهدف الأعلى. ولذلك أطلقنا عليها عنواناً فرعياً هو (حد السيف). فكثيراً ما يودي الخلل في بناء الشخصية إلى خلل في بقية الأركان مهما أجاد الكاتب في بنائها. والشخصية - بالشكل الذي قدمناه - يخلصها مما يربكها ويضعفها. فهو يجعلها واضحة الملامح الضرورية لها، كما يجعلها تمسك بيدها جميع أركان النص المسرحي الأخرى بقوة ومتانة.
NoUr kasem
NoUr kasem
مساعد المدير
مساعد المدير

عدد المساهمات : 1954
تاريخ التسجيل : 08/09/2009
العمر : 37
الموقع : دمشق . . فلسطينية الأصل

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات  Empty رد: النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات

مُساهمة  NoUr kasem الأحد يوليو 18, 2010 8:34 pm

4 -
موضوع المسرحية..
رأس الحربة


1- تمهيد وتعريف

لعل أبسط وأدق تعريف للموضوع هو أنه (الفكرة التي يريد الكاتب إيصالها إلى الناس في عصره).
ولو رجعنا إلى تاريخ الأدب كله لوجدنا أنه كان ميداناً للأفكار. بل يمكن القول إن إيصال الأفكار إلى الناس هو الذي خلق الأدب كله في جميع أنواعه. بل يمكن القول أيضاً إن إيصال الأفكار هو خالق الفلسفة والعلوم والفن. فمحصلة النتاج البشري هو (الفكر).
و(الموضوع الذي هو الفكرة) هو الذي جعل من المسرحية سلاحاً في الدفاع عن الإنسان. وهو الذي ساهم في اكتساب الإنسان لا معارفَه فحسب، بل و انتصاراته الروحية والاجتماعية. فبالموضوع خاض الكتاب المسرحيون معاركهم ضد الحكومات والأنظمة المستبدة، وضد الجهل والفساد الأخلاقي والتهاوي الاجتماعي. وبالموضوع انتصر الكتاب المسرحيون لكل ما هو نبيل وشريف عند الإنسان. ولو قرأت النتاج المسرحي عند أمة من الأمم في كل عصر من عصورها من منظور الموضوعات التي عالجها الكتاب المسرحيون، لاكتشفتَ أمراً عجباً. وهو أن المسرح كان الزعيم الأكبر لكل المطامح الاجتماعية والسياسية والإنسانية التي كان المجتمع يسعى إليها. وسبب ذلك أن المسرح شديد الالتصاق بالمتفرجين الذين هم (المواطنون) في ذلك العصر. فهو يخاطبهم مباشرة خطاباً حاراً جميلاً. فيكون من وراء ذلك أنه يشكل لهم رأياً جماعياً يتحول إلى قوة سياسية ضاغطة يُحسَب حسابها. ويؤدي ذلك إلى نوع من التحريض على اتخاذ المواقف. ولا نقصد بكلمة (التحريض) هنا المصطلح النقدي الذي شاع لنوعٍ من المسرح منذ أواسط القرن العشرين حين انتشرت البريختية وأمثالها في أن يكون المسرح محرضاً للناس على التغيير، بل نقصد معنى أوسع هو ما قلنا عنه إنه كان دائماً يخلق عند الناس موقفاً جماعياً حول أمر من الأمور بسبب طبيعة صلته المباشرة الحية المثيرة بالناس. وعندما كان المسرح يحمل أفكاره في عصر من العصور كانت بقية فنون الأدب تسانده فيها دون أن تمتلك قدرته على الإيصال. وكان الفلاسفة يتوجون هذه الأفكار بتحويلها إلى بناء متماسك بالمنطق يأتي على شكل منظومة فكرية تنغرس في العقول لتصبح منهجاً يتناول شتى أمور الإنسان في المعرفة والأخلاق. ولا يعني هذا الكلام تراتبية في العملية الفكرية في عصر من العصور يكون فيها المسرح أولاً ثم يتلوه بقية أنواع القول والفلسفة، بل يعني أن العملية الفكرية كلها في عصر من العصور، كان المسرحُ أوضحَ مجالاتها وأوسعَ ميادينها. فكأنه كان رأس الحربة في المعارك الفكرية والسياسية والاجتماعية التي يتصدى لها الإنسان في عصر من العصور.
ولو راجعت النتاج المسرحي عند أمة من الأمم في عصر من العصور لوجدت أن جميع كتاب ذلك العصر داروا حول موضوعات رئيسية واحدة تعدُّ على أصابع اليد. وهي الموضوعات ذاتها التي تناولها بقيةُ المبدعين في العصر نفسه. ولعل أوضح مثل على ذلك أن مسرح القرن التاسع عشر دار في فلك الواقعية التي يسميها البعض (الواقعية النقدية). وهذه الواقعية وقفت عند الظلم الاجتماعي الذي أوقعه النظام الرأسمالي الذي كان ناشئاً وكان يسعى لتركيز المال والسلطة بين يديه، فاكتسح جميعَ المعايير الإنسانية ليتراكم لديه رأسُ المال. وقد دارت جميع مسرحيات القرن التاسع عشر في هذا الميدان من إبسن إلى تشيخوف. وتحول فن المسرح إلى محللٍ اجتماعيٍّ فذٍّ وناقدٍ سياسيٍّ موجِعٍ ونصيرٍ للبشرية على المظالم. ومن هذا الموضوع نبعت جميع الدعوات الاشتراكية في مختلف تلاوينها، من الطوباوية إلىالماركسية. ويكفي أن نتذكر أن المسرح العربي بعد عام 1967 دار حول موضوع واحد هو هزيمة ذلك العام. ومن هذا الموضوع استولد موضوعات قليلة (الفقر - الظلم الاجتماعي - القهر السياسي - الدعوة إلى التغيير) تفرعت عن الموضوع الأصلي. وإذا به يخضُّ الحياة العربية والمجتمع العربي. ولو راجعت مجملَ النتاج الأدبي والفني والفكري الذي أبدعه العرب في المرحلة المشار إليها، لم تجدْه يخرجُ عن هذا الموضوع بتفريعاته وتوليداته.
إن أهمية الموضوع في المسرحية تنبع من أنه يصبح - بعد توشيحه بالفن- نهرَ الأفكار العظيمة التي تنير درب البشرية. وهذا الدور الكبير للموضوع قد يستنكره بعضُ النقاد الذين يريدون المسرح خالياً من (الذهنية) بحجة أنه فن بصري قبل وبعد كل شيء. ولعل إريك بنتلي قد أجمل أهمية الموضوع بقوله ( إذا كان الذهن الذي تنبثق عنه الفِكَرُ يلعب دوراً مهماً في الأدب عموماً، فإنه- على الأرجح - يلعب دوراً في الأدب الدرامي. أقول "على الأرجح" لأننا نرى في القرن العشرين نقاداً ومسرحيين يعُدُّون أفتنَ ما في الدراما خلوَّها من الذهن. إن عبءَ البيِّنة يقع عليهم. ولسوف يكون لزاماً عليهم أن يبرهنوا على خلوٍّ ذهنيٍّ غيرِ الذي يتصفون هم به إن هم أرادوا إقناعنا بدعواهم هذه. أما نحن فلا يسعنا إلا القول بأننا في الأدب نجد أرحبَ الأفكار وأرحب العواطف معاً في الأعمال الأدبية ذاتها، وإن الدراما ليست أكثر عاطفة وحسب مما يزعم الرأي الشائع اليوم، بل أكثر فكراً أيضاً. لم توجد الدراما العظيمة في فترات متباعدة في التاريخ. ومن دأب المؤرخين أن يبينوا أن الموجة الجديدة من الحيوية تصحبها موجةٌ جديدةٌ من الدراما. والحيوية فكريةٌ بقدر ما هي أي شيء آخر. وموجةُ الدراما العظيمة تَهدُرُ بفكرة معينة.
وهذه الفكرة هي الروح التي تشيع في الحركة الجديدة في التاريخ. إنها
صورة جديدة للإنسان)
NoUr kasem
NoUr kasem
مساعد المدير
مساعد المدير

عدد المساهمات : 1954
تاريخ التسجيل : 08/09/2009
العمر : 37
الموقع : دمشق . . فلسطينية الأصل

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات  Empty رد: النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات

مُساهمة  NoUr kasem الأحد يوليو 18, 2010 8:35 pm

- الصفة العامة للموضوع الجيد

لا بد للكاتب المسرحي أن يكون موضوعه حاضراً في ذهنه وواضحاً ومركَّزاً قبل الدخول إلى بناء مسرحيته. لأن المسرحية، أولاً وآخراً، حكاية تقوم على نوع من المشاجرة بين طرفين. ولا يتشاجر الناس في الحياة من غير سبب. فلولا الوباء الذي حلَّ في المدينة لما اختصم (ترزياس) وأهلُ المدينة مع (أوديب). ولولا شكوك (هملت) في أن عمه قتل أباه وتزوج أمه لما بُنيت تلك المسرحية ولما سقط عدة قتلى في نهايتها. وليس سببُ المشاجرة أو الصراع إلا موضوعَ المسرحية وفكرتَها وهدفَها الأعلى وغايتَها الفكرية والإنسانية والعاطفية التي من أجلها أمسك الكاتب بقلمه ليبني كل العناصر التي تؤلف أصول الكتابة المسرحية. وهذا الموضوع أو الفكرة أو الهدف الأعلى الذي خلق المشاجرة هو مدار هموم العصر في مجتمع الكاتب. وهو المعركة الفكرية التي خاضها الكتاب عبر العصور في مجتمعاتهم. وهو الذي يعطي مسرحياتهم -بعد كل حساب - قيمتها الأدبية. ولا يعني هذا الكلام أن يختار الكاتب فكرته أو موضوعه ثم يبدأ الكتابة. ولو فعل ذلك لتحول إلى آلة حاسبة أو إلى جهاز أوتوماتيكي مبرمَج. والكاتب الذي يفعل ذلك لن يكتب إلا مسرحية ميتة. إنما يعني أن تولد الفكرة مع الحكاية. وإذا بالفكرة تعمِّقُ الحكاية، والحكايةُ توضح الفكرة. وبذلك يقوم الموضوع بمهمته في خلق المسرحية. وهذه الحالة التي يتشابك فيها الموضوع بالحكاية هي التي يسميها النقاد علاقة الشكل بالمضمون. وهي علاقة لا يمكن فيها الفصل بين الطرفين رغم أنف كل محاولات فصلهما ولو كان الفصل نظرياً لدراسة العنصرين
NoUr kasem
NoUr kasem
مساعد المدير
مساعد المدير

عدد المساهمات : 1954
تاريخ التسجيل : 08/09/2009
العمر : 37
الموقع : دمشق . . فلسطينية الأصل

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات  Empty رد: النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات

مُساهمة  NoUr kasem الأحد يوليو 18, 2010 8:39 pm

3- القيود على الموضوع

القاعدة العامة في اختيار الموضوع أن الكاتب حرٌّ في اختيار الموضوع الذي يشاء. لكن تاريخ المسرح أثبت أن ثلاثة قيود كانت تقف أمام حرية الكاتب في اختيار موضوعاته. والتفحص لهذه القيود الثلاثة يجنِّب الكتاب المسرحيين مزالق تعرقل إبداعهم، وتعلمهم أنواعاً من المكر يتغلبون بها عليها.

أول هذه القيود هو الدولة أو السلطة.
فالمسرح فن صدامي شرس. كان يفضح العيوبَ بأنواعها في التراجيديا. ويسخر منها في الكوميديا. ولم يكتف بهذا. بل جمع الفضائحية والسخرية في الدراما. فإذا أضفنا إلى هذا الحالةَ الجمعيةَ التي يقذف فيها أفكاره، يتبين للسلطات الحاكمة خطرُه، ويتبين لنا لماذا وقفت منه هذه السلطات على حذر شديد. ولعل آخر وأبرع صيغة للقيود توصلت إليها السلطات هي وجوبُ أخذِ الموافقة على النصوص قبل العمل عليها، وضرورةُ مشاهدةِ العروض المسرحية بعد إنجازها. فالكتاب المسرحيون لا يؤمَنُ جانبُهم. وكثيراً ما يقدمون نصاً بريء المظهر خطير المخبر. ولا يظهر هذا الخطر إلا بعد أن يتحول نصهم البريء إلى عرض مسرحي. ومصيبة السلطات مع المسرح أن العاملين فيه لا يقلون عن الكتاب (سوءاً في النية) وقدرةً على التملص من قيود الرقابة. فقد يستنبطون من النص إيماءةً أو حركة تنسف الرقابة على النص وتقول ما ترتجف لـه فرائص الحكام بأرتال أعوانهم من أعلى الدرجات إلى أدناها. والحاكمون لا يخافون على سلطاتهم أن يتعرض لها المسرح بالنقد والتشهير فحسب، بل يخافون - كما يدعون - على الأخلاق العامة أن يستهين بها الكتاب المسرحيون وأنصارهم من العاملين فيه. وإذا بالرقابة تتخذ وسيلتين لتفرض قيودها. وهما عدمُ التعرض لأسس النظام الحاكم ولبعض رموزه، وعدمُ التحرش بالأخلاق السائدة المقدسة منها أو الاجتماعية. فإذا تحرش المسرح بواحدٍ من هذين الأمرين، بطشت به من غير هوادة. وقد تجد مسرحها الرسمي جريئاً في أحد هذين الجانبين. لكنها جرأة محسوبة بحساب ينتهي إلى (تلميع) وجه السلطة دون أن يضرب في أساس بنيانها. ولا تختلف السلطات القمعية عن السلطات الديموقراطية كثيراً. والفرق بينهما هو مقدار المساحة المسموح بها للكاتب المسرحي. فهي في النوع الأول مساحة ضيقة كثيراً. وهي في النوع الثاني ضيقة أقل. ففي كلا النوعين من أنظمة الحكم مُنِعت مسرحيات أو أوقف عرضها.
تلك هي قيود السلطة أو الدولة على الكاتب المسرحي. لكن مراجعة بسيطة لتاريخ المسرح تبين أن هذا القيد لم يمنع المسرح عن صداميته وشراسته رغم مبالغة النقاد والمؤرخين في أثر هذا القيد. ووقعنا نحن العرب في قبضته طوال حياة المسرح العربي. لكننا بالغنا فيه أحياناً حتى وصلنا إلى تحميل السلطات العربية ما لم تقم به فغفلنا عما تقوم به. ولم ندرك كيفية التعامل معه أحياناً. ووجدنا في تضخيم هذا القيد عذراً عن خوفنا الداخلي وعجزنا الفكري أحياناً أخرى. وفي هذا الأمر تفصيل كلام.



***

إذا استثنينا بعض أحقاب التاريخ التي كانت فيها السلطات مستبدة عاتية، وجدنا الدول دافعةً للكتاب المسرحيين إلى الكتابة، أي على إقامة العروض المسرحية. ويمكن القول إن المراحل التي ازدهر فيها المسرح وشكل فيها منعطفاً حاسماً في تاريخه، قامت على دعم الدولة. وهذه المراحل هي المسرح اليوناني ومرحلة عصر شكسبير ومرحلة الكلاسيكية الفرنسية ومرحلة القرن التاسع عشر مع نشأة الواقعية، ومرحلة منتصف القرن العشرين. فمن المعروف أن الدولة في العصور اليونانية كانت مشجعة للكتاب المسرحيين. وكانت تقيم لهم كل عام مسابقة يفوز فيها من يفوز. وكانت تتكفل بإنتاج المسرحيات وتدفع المال للناس كي يحضروها. وسار الرومان على بعض منوال اليونان في هذا المجال. فلما عاد المسرح إلى نشاطه في عصر النهضة، كان الكتاب المسرحيون يعتمدون على ساعد الملوك والأمراء في استمرار نشاطهم. حتى إذا وقفت منهم الدولة موقفاً معارضاً لم يكن هذا الموقف يؤثر كثيراً على كتاباتهم. فقد كانت مسرحياتهم تجد طريقها إلى الحياة والظهور. وسبب هذا الدعم للمسرح وإفساح الحرية الحذرة لـه أن السلطات الحاكمة كانت تعتبر وجوده ونشاطه دليلاً على صحة سلطانها. فهو في محصلة الأمر احتفالات وبهرجات تخلق حالة من الفرح والابتهاج لدى الناس مما يعني اطمئنانَهم إلى حكامهم. وقد حمل البريد إلى نابليون بونابرت في أثناء إحدى معاركه أن جمهور باريس لا يُقبل على المسرح، فأرسل إلى وزير الداخلية أن يُرخي قبضته عن الناس. فالفاتح الذي جرَّ وراءه أبناء فرنسا إلى الحرب يريد أن تبدو فرنسا مبتهجة محتفلة لا أن يعتكف أبناؤها في بيوتهم مما يعني نقمة خفية على فتوحاته. ولو راجعت تاريخ أوروبا كله لم يخرج الأمر مع حكوماتها عما فعله نابليون. وهذا يعني أن قيد الدولة أو السلطة كان أوهى القيود وأضعفها، وأنه لم يكن أبداً عائقاً أمام الكتاب المسرحيين. فإن وُجِدَ فقد كان المسرحيون يتحايلون عليه بمكر شديد. ألم يقدم بريخت خمس وسائل شهيرة في قول الحقيقة؟ بل إن شيئاً أكثر مرارة للحكام كان يحدث. وهو أن منع النص المسرحي كان يزيد من تلهف الناس عليه. ومن طرائف ما نذكر في هذا المجال أن فترة العصر الإليزابيثي في إنكلترا - وهو أحد العصور الذهبية في المسرح - لوحق كتابها وسجنوا وعذبوا. فإن (توماس كيد) اتُّهِم بالإلحاد وسُجِن. و(كريستوفر مارلو) اتهم وسجن واغتيل. و(بن جونسون) كان ينتقل من سجن إلى سجن. ومع ذلك، فإن مسرحياتهم كانت تقدم إلى الناس. وكانت التجمعات السياسية المعارضة للملكة البطاشة تجد فيها دعماً لمواقفها. وإذا كان شكسبير قد نجا من البطش والسجن فلأن الملكة كانت تحبه ولأنه كان يتمتع بشعبية كبيرة. وموليير الذي غضب منه الملك ما زاده الغضب إلا اشتهاراً بحيث اضطر الملك إلى إخفاء غضبه وبسط الحماية عليه. وما ذلك إلا لمكر الكاتب في قول الحقيقة.
فإذا جئنا إلى المسرح العربي وجدنا فنوناً من القيود على الكتاب والعاملين في المسرح أيام الاحتلال العثماني أو الاستعمار الغربي
لكنهم كانوا دائماً يتحايلون على سلطات الاحتلال ببراعة ومكر بحيث كانوا يقدمون ما يشاؤون. ولولا هذا التحايل لما استطاع المسرح أن يقوم بدوره الفعال في مقاومة الاحتلال رغماً عنه. ولو خضع الكتاب والعاملون في المسرح للخوف من السلطات لما كان للمسرح العربي ذلك التاريخ المشرِّف ذو الدور الكبير
فلما جاءت استقلالات الدول العربية عن الاستعمار، وقفت السلطات الحاكمة موقف التأييد للنشاط المسرحي كتابة وعرضاً. فهي التي أنشأت المسارح الرسمية الناطقة بلسانها، وسمحت للمسارح الأهلية بالعمل على أن لا تخرج عن حدود المسرح الرسمي. وأحياناً كانت تسمح لمسرحيات لا تنطق بلسانها، وذلك مراعاة منها لموازين القوى الاجتماعية التي تتحاشى السلطاتُ إغضابَها. ولنرجع إلى فترة عقدي سبعينات وثمانينات القرن العشرين. فقد قدم الكتاب المسرحيون عدداً كبيراً من المسرحيات التي تهاجم الأنظمة الحاكمة وتتهمها بما شاءت لها الجرأةُ أن تفعل. وجميعُ هذه النصوص المهاجمة للسلطات العربية وجدت طريقها إلى الظهور في الكتاب المطبوع وفي العرض المسرحي بفضل الدول والحكومات مع أن أكثر هذه الدول لا تبلغ في الديموقراطية باعاً طويلاً. وسببُ ذلك يعود إلى أن شأنها شأنُ الدول الأجنبية في اعتبارها النشاط المسرحي نوعاً من الاحتفالية والبهرجة التي تدل على رضا الناس واطمئنانهم إلى الأنظمة الحاكمة، أو لامتصاص القوى المعارضة لها. ومن هنا جاءت المهرجانات المسرحية العربية والمحلية رغم أنها جميعاً قدمت أعمالاً كانت تبلغ من الجرأة حدَّ نسف أسس هذه الأنظمة أحياناً.
حتى إذا كانت الدول والحكومات صارمة في ملاحقة ما يعارضها من نصوص مسرحية، فقد كان الكتاب يقولون ما يريدون. وكان لهم في ذلك ابتكارات فنية وجمالية تُذهل القارئ في مكرها ونفاذها. فعن طريق الرمز أو الأسطورة أو الحكايات التاريخية أو غير ذلك، كانوا لا يهاجمون السلطات الحاكمة فحسب، بل كانوا يعنفون في هذا الهجوم. وهل أوقف غضبُ الملك الشمس موليير عن السخرية المرة من النبالة الفرنسية التي كان العرش الملكي يقوم على أكتافها؟
ينتج عن هذا أن قيد الدولة أو الرقابة الرسمية ليس خطيراً على الكاتب المسرحي رغم قسوته. ويمكنه أن ينسى أو يتناسى هذا القيد لأنه يمكنه التحايل عليه بأنواع من المكر. وبعدم الخوف من قيد السلطات يظل الكاتب محتفظاً بجرأته وبحريته في القول. وبهذه الحرية التي يدافع بها عن نفسه إنما يدافع عن أدبه.

ثاني القيود على اختيار الكاتب لموضوعه (اجتماعي)
وهو أخطر من الأول وأضرى في الهجوم عليه إن خانه التوفيق. وسبب خطر هذا القيد أن في كل مجتمع من المجتمعات مجموعة من (المقدسات) التي تتحول مع تقادم الزمن إلى قواعد فكرية ثابتة يصعب التعرض لها. فمثلاً، لا يستطيع الكاتب العربي أن يتعرض للمقدسات الدينية التي يقع الاحتكاك بها تحت اسم (الحرام). ومثلُ ذلك أمور الجنس ومنافاة الأخلاق العامة. والقيود المفروضة على الكاتب المسرحي في مثل هذه الموضوعات لا يأتي من السلطة بل من الناس. وتدعم السلطة هذا القيد بقوة أشد من دعمها للقيود السياسية. وغالباً ما يكون الهجوم على المقدسات نوعاً من التمرد السياسي. وتجد السلطة في دعم القيد الاجتماعي وسيلة سهلة في الضغط على الكتاب المسرحيين. وحجتها في ذلك عدم إثارة الفتنة بين الناس.
لكن مراجعة تاريخ المسرح تنبئنا أن هذا القيد لم يكن عقبة أمام الكتاب المسرحيين. بل يمكن القول إن تحطيم هذا القيد كان الإنجاز الفكري العظيم الذي قام به المسرح. ومراحل الازدهار التي ذكرناها كان تغييرُ المواضعات الاجتماعية أهمَّ وأخطرَ ما فعلته كل مرحلة. فكان المسرح فعالاً في هذا الصدام مع الثوابت الاجتماعية البالية. وشارك الكتابَ المسرحيين أصحابُ الفلسفات الإصلاحية والتغييرية في مهمتهم الجليلة. وقد كان مسرح القرن التاسع عشر ميداناً لتأييد الدعوات الفكرية المجددة والإصلاحية خاصة بعد ظهور الداروينية والفوضوية والاشتراكية. ومع أن النقد المسرحي وقف من مسرح الدعوات الإصلاحية موقف الحذر، فقد كان هذا النوع طاغياً في القرن التاسع ومساهماً في تغيير البنية الفكرية للمجتمعات الأوروبية. ثم كان القرن العشرون أشد ضراوة في تأييد الدعوة إلى التغييرات، خاصة وأن المسرح تحول من موقف (الدعوة الإصلاحية) إلى موقف (الثورة الاجتماعية). فبعد موقف إبسن العنيف وموقف تشيخوف الهادئ في نقد المجتمع وفضح وساخاته، جاء بريخت الصاعق اجتماعياً وسياسياً، وبيرنديللو وبيكيت ويونسكو وأداموف وأضرابهم الصاعقين فكرياً ونفسياً. ومهما وصف النقدُ المسرحَ الإصلاحيَّ أو الثوريَّ أو - بكلمة موجزة - (الدعائي) بأنه ينطلق من الموضوع والهدف أكثر مما ينطلق من الفن، فإن هذا المسرح كان مصادماً للمواضعات الاجتماعية وحرباً على الأفكار والسياسات. وكان لـه أثر كبير في الناس. فكان رأس الحربة في عصر الانقلاب الرأسمالي الأوروبي.
ولم يكن المسرح العربي في عمره القصير أقل عدوانية وشراسة في الهجوم على كثير من المواضعات الاجتماعية التي حازت مرتبة التقديس دون خوف منها. ولعل لدينا مثلاً طريفاً منذ نشأة المسرح العربي على هذا الهجوم الشرس. فقد اعترض المعترضون على أبي خليل القباني بأنه (يشخص) الخليفة هارون الرشيد في مباذله. وفي ذلك إهانة لمقام الخلافة. ونجد الكثير من أمثال هذا الموقف في المسرح العربي الذي تلا عصر القباني. ولنتذكر مسرحيات ممدوح عدوان وسعد الله ونوس مثلاً ووليد إخلاصي في نقض ما كان الناس يعدونه مقدساً.
في ذلك كله يبدو أن القيد الاجتماعي لم يكن لـه ذلك التأثير الكبير على الكتاب المسرحيين. فقد تجاوزوه. ولا شك أنهم أغضبوا جمهورهم. ولقوا في ذلك اتهامات كثيرة نذكر منها عند العرب المروقَ من الدين والعروبة والأخلاق. لكنهم - في إغضابهم لجمهورهم - كانوا يدفعون المجتمع إلى التطور. والمسرح في هذا المجال ظل فناً صدامياً شرساً.
وإذا كان الكاتب القديم يجد في المجتمع من يهاجمه إذا هاجم المقدسات أو المحرمات الأخلاقية، فإن الكاتب المعاصر اليوم سوف يلقى من المؤيدين أضعاف ما يلقى من المعارضين. ونذكر مثالاً على ذلك استخدامَ الكلمات التي يسميها الناس بذيئة في الشتائم وفي الحديث العادي. فما تزال الهيئات الرسمية ترتجف خوفاً على أذواق الناس من الفساد مع هذه الكلمات في حين يضحك لها الناس في موضع الضحك ويعدونها موقفاً سياسياً أو اجتماعياً في مواضع أخرى.
من هذا الاستعراض السريع ندرك أن قيد المجتمع - مثل قيد السلطة - لم يقف عائقاً أمام الكتاب المسرحيين. فبالتحدي حيناً وبالمكر والتحايل حيناً، كتبوا النصوص التي يريدون. وخاضوا في الموضوعات التي يرغبونها. ودليل ذلك أننا ورثنا عن البشرية أكثر النصوص المسرحية القوية التي كتبها المسرحيون. فإن قضي على هذه النصوص أن تختفي في أدراج الكتاب ردحاً من الزمن، فقد كانت لا تلبث أن تظهر بعد حين. ولم يعرف تاريخ المسرح غير هذه الحال.
ومن هذا الاستعراض أيضاً نصل إلى النتيجة التي يجدر بالكاتب المسرحي العربي أن يصل إليها وهي: لا تخَفْ من قول ما تريد قوله. عالِجِ الموضوعاتِ التي تراها مناسبة لنهجك في الحياة ولما تعتقد أنه التعبير عن نفسك وفكرك.
والشرط الوحيد الذي لا بد أن يضعه على نفسه هو أن يلتقط ما هو جوهري في الحياة التي يعيش في عصرها. ولكن الكاتب العربي المعاصر يجد نفسه في مأزق لا فكاك منه. فالقضايا الجوهرية في عصرنا الحاضر هي القضايا ذاتها التي عالجها الذين قبله. وهي المتعلقة بالكرامة الوطنية وبالظلم الاجتماعي وبقضية فلسطين. أي أن شيئاً لم يتغير في واقع الأمة العربية رغم كل شيء. بل إن هذا الواقع يزداد تردياً يوماً بعد يوم. والكاتب المسرحي مطلوب منه أن يغوص في هذه الموضوعات شاء أم أبى. لكن عليه أن يضع في ذهنه أن الناس سئموا من معالجة هذه الموضوعات. فالجيل الذي سبقه ظل يخوض فيها أكثر من ثلاثين عاماً. وإذا كان قد صفَّق لها بحرارة في عقد سبعينات القرن العشرين، فقد كان تصفيقه لها أقلَّ حرارة في عقد ثمانيناته. ثم صار ينصرف عنها بملل وسأم وتذمر في عقد تسعيناته عندما تحولت معالجاتها إلى الرداءة بالدعائية حيناً وبالجبن المتزلف حيناً آخر وبقصور الرؤية الصحيحة حيناً ثالثاً. وها هو القرن الحادي والعشرون قد أطل برأسه وماتزال تلك الموضوعات هي الأكثر التهاباً في ضمير الكاتب وضمير الإنسان العربي الذي يتوجه إليه الكاتب. لكن هذا الإنسان محجم عن معالجتها أمامه بقدر ما هو متألم مجروح مأزوم منها. فكيف يستطيع الكاتب التوفيقَ بين المطلوب غير المرغوب؟ ذلك هو السؤال الذي يطرحه عليه شيطان المسرح الذي لا بد أن يكون صدامياً شرساً، والذي لا يقبله الناس إلا إذا كان على هذا الشكل.
وأعتقد أنه إذا قال الكاتب لنفسه: (لا تخف)، فسوف يحقق المعادلة الصعبة في ذلك الموضوع المطلوب ليجعله مرغوباً. ومن الملاحظ أن الكتاب المسرحيين يهربون اليوم من هذا الموضوع لأنه غير مرغوب. لكنهم يخسرون جولتهم مع الكتابة المسرحية ويتجهون إلى ما هو ثانوي غير أساسي. وبهذا الاتجاه يقتلون موهبتهم وقدراتهم. وإذا راجع الكتّاب تاريخ المسرح في العالم وفي الوطن العربي، فسوف يجدون أن مراحل ازدهاره هي التي عالجت أخطر موضوعات الحياة والمجتمع بجرأة وعمق وإدراك لفلسفة العصر.

ثالث القيود هو القيد الجمالي (اختيار الشكل)
وهو (حرية الكاتب في اختيار الشكل المناسب لموضوعه).
إن الموضوع لا يكون إلا مما يفرضه واقع العصر. ومهما بلغت حرية الكاتب في اختيار موضوعاته، فإنه يظل مشدوداً إلى هموم وأفكار عصره بخيوط حديدية. وهذه الهموم والأفكار تتخذ لنفسها أسلوباً خاصاً بها في تقديمها إلى المتلقي. وهذا الأسلوب هو المعادل الجمالي لأسلوب التفكير والذوق وطريقة الحياة في ذلك. ومن هنا نستنتج أن المدارس والمذاهب الأدبية كانت (الشكل القادر على التواصل مع الناس في كل عصر من العصور). والشكل الجمالي الذي يستوعب الموضوع يكاد يكون عفوياً لأنه استجابة عفوية من الكاتب لمتطلبات عصره. وقد يتخذ هذا الشكل أسلوباً مباشراً حاداً في التخاطب مع الجمهور. وقد يكون أسلوباً موارِباً يتخفّى فيه الموضوع وراء الرموز. وقد يتجلى بهدوء من خلال حكاية ما. ومن هنا نستنتج أمراً آخر هو أنه لا يوجد شكل مسرحي يمكن اعتباره شكلاً أمثل. ومن هنا أيضاً نستنتج الخطأ الكبير الذي وقع فيه نقاد المسرح حينما استنكروا الأساليب المباشرة في معالجة الموضوعات. ووقعوا في خطأ أكبر حينما دفعوا الكتاب المسرحيين إلى تغليف موضوعاتهم بأطباقٍ من التزيينات النفسية للشخصيات أو بغموض ومواربة في تناول الموضوعات. وقد تناسوا أن الشكل تقاس جماليتُه بقدرته على الولوج بموضوع المسرحية إلى نفوس وعقول الناس. ولعل أوضح مثال على تجني النقاد على الكتاب المسرحيين وعدم إنصافهم أنهم - سواءٌ كانوا من العرب أم من الأجانب - يعدون مسرحية (هملت) لشكسبير - وأمثالها - نموذجاً فعالاً للبناء المسرحي. وكم تقطعت أعناق الكتاب وهم يحاولون أن يصلوا إلى مثل ذلك النموذج. وبذلك خدع النقادُ الكتاب المسرحيين لأن هذه المسرحية - وكثيراً من أمثالها - لا تزيد عن كونها ثلاث ساعات تتضمن قدراً وافياً من الملل والسقم. وإذا كنا نقول غير ذلك فلأننا لا نملك القدرة الكافية على المراجعة الصريحة لتاريخ المسرح. ودليل ذلك أيضاً أن أكثرنا يدعي التمتع بمشاهدتها على المسرح أو السينما. وإذا كانت هذه المسرحية قد فتنت جمهورها في عصرها، فإنها اليوم - وكثيراً غيرها من المسرحيات التي كانت عظيمة - عاجزة عن غير إثارة الملل وضيق النفس. ذلك أن الشكل الذي وضعت فيه أصبح بائداً لا يتناسب مع الذوق الجمالي المعاصر. وهذا القول فيها لا يذهب بقيمتها، لكنه يدفعنا إلى تحرير الكاتب المسرحي من أي نموذج أو شكل إلا ما يجده هو لنفسه مناسباً لتقديم موضوعه إلى جمهوره.
لكن هذه الحرية المطلقة للكاتب المسرحي المعاصر - والكاتب العربي على الخصوص - في اختيار الشكل الجمالي لموضوعه هو أقسى قيد يمكن أن يُفرَض عليه. فالكاتب القديم حتى نهايات القرن التاسع عشر، كان يجد أمامه قوالب مسرحية وضعها النقاد والدارسون في مناهج تحت اسم (المدارس الأدبية). وكان الكتاب يركبون هذه القوالب، مثلُهم في ذلك مثَلُ الشعراء العرب القدامى الذين وجدوا أمامهم قالباً شعرياً جاهزاً قوياً قادراً على استيعاب جميع فنون القول عندهم. وسواء كان الموضوع مدحاً أم هجاءً أم غزلاً، فقد كان البيت ذو الشطرين بالقافية المتكررة قالباً جاهزاً يملؤه الشاعر. وكل تجديداتهم فيه انصبت على تحسين هذا القالب بما سماه النقاد العرب (حسن الديباجة) رقةً حيناً وخشونةً حيناً آخر، وتغييراً في العلاقة بين المشبه والمشبه به. وكل ابتكاراتهم فيه انصبَّت على استيعاب علوم العصر بما سماه النقاد العرب القدامى (إدخال التفكير الفلسفي). فلما تحرر الشعر العربي من هذا القالب متجهاً نحو (الشعر الحديث)، فرض على نفسه قيوداً مرعبة هي استيلاد قوالب عديدة تعدد الشعراء والموضوعات.
وكذلك الكتاب المسرحيون في هذا العصر. فهم ليسوا مقيدين بقالب معين كما كان كل كاتب مقيداً بقالب معين ابتكره عصره فكان واحداً من جملة كتّاب ينضوون تحت اسم مدرسة معينة. وقد انقضى العصر الذي يقال فيه: المدرسة الكلاسيكية أو الواقعية أو الرومنسية أو السريالية أو البريختية أو العبثية. وأصبح التأليف المسرحي اليوم طليقاً من كل هذه التسميات. ودليل ذلك أن المسرحيات التي كتبها الكتاب العرب منذ بداية عقد تسعينات القرن العشرين لا يجمعها جامع ولا تنتمي إلى أي شكل معروف سابق. ويتأكد لدينا هذا التفلُّتُ من المدارس أن كتاب العرب منذ أواسط ستينات القرن العشرين يمكن أن تردهم إلى قوالب عرفها تاريخ المسرح السابق عليهم قديمه وحديثه. فهم بين كلاسيكي ورومنسي وواقعي وعبثي. وهم بين تقليدي يسير على نهج (الدراما الحديثة) وبين متأثر بالمنهج البريختي أو منهج اللامعقول. وكل تجديداتهم
-وهي تجديدات عاصفة - انصبت على تطعيم هذه القوالب بسمات خاصة بموضوعاتهم التي فرضها عليهم عصرهم. أما الكاتب العربي المعاصر فلا يمكن أن تضعه في حقل من هذه الحقول.
لكن النصوص المكتوبة منذ بداية عقد تسعينات القرن العشرين، المتفلتة من قيود الأشكال القديمة، المبتكرة لأشكال جديدة، لم تستطع أن تكون ذات أثر في الحياة. ولم تبلغ من القوة درجةً تعد معها نصوصاً قوية. وحال كتابنا في ذلك حالُ أقرانهم من كتاب المسرح في العالم كله. فمنذ الثلث الأخير من القرن العشرين لم يظهر في العالم كتاب مسرحيون كبار. وحلَّ محلهم كتاب (نص العرض المسرحي) الذي ينتهي أمرُه بانتهاء العرض. وهذا ما آل إليه حال الكاتب العربي. فهو - في أحسن الأحوال - كاتبٌ لنص العرض المسرحي. وليس كاتباً لنص مسرحي قادر على الاستقلال بنفسه باعتباره أدباً مسرحياً قوياً بذاته.
إن الحالة التي وصل إليها الكاتب المسرحي اليوم تعود بشكل أساسي إلى (الموضوع) أي الفكرة التي يتقدم بها الكاتب إلى عصره. وهنا نعود إلى ما تحدثنا عنه من اختيار الموضوع الذي يلتقط ما هو جوهري في المجتمع في عصر الكاتب. والموضوعات التي يختارها الكتاب اليوم ليست جوهرية في المجتمع. ونعود فنؤكد أن ما هو جوهري في حياتنا المعاصرة هو الدفاع عن كرامة الإنسان العربي في جميع مناحي الكرامة الإنسانية والقومية ورفض الاستعباد والاستغلال. ولذلك فقدت النصوصُ المسرحية افتتانَ الناس بها. فكانت كل محاولات التفلت من الأشكال القديمة لبناء أشكال جديدة محاولاتٍ هزيلةً هشة تفقد فيها عناصر التأليف المسرحي مقومات القوة. فكأن غياب الموضوع الحي الجوهري يضيِّع على الكاتب فرصة القدرة على استكمال القوة في عناصر نصه المسرحي.

4- الموضوع والقوالب

إن الموضوع هو المفتاح الأول للكاتب المسرحي. فمنه يستمد الكاتب شكله المناسب لـه. وبه يخوض غمار الحياة. وعليه يتوقف بناء الشخصيات والصراع والحبكة. فهو رأس الحربة في المجتمع. وعليه يقوم النص المسرحي.
لكن على الكاتب المسرحي العربي أن يتقن معرفة جميع القوالب المسرحية التي سبقته. وأن يدرك كل الإدراك خصائص جمالياتها ونقاط ضعفها. وهذه القوالب قدمت نصوصاً عظيمة ماتزال البشرية تجد فيها صدىً عميقاً لا لعواطف البشر فحسب، بل للمهارة في بناء النص المسرحي المحكم. فبهذا الإتقان يستطيع معرفة تطور الدراما من شكلها الأول حتى أشكالها الأخيرة التي وصلت إليها في القرن العشرين. فكأنه يضع أمامه لوحة كاملة لتطور المسرح. وسوف ينهل من هذه الأشكال ما يريد دون أن يحدَّه حد أو يقيده قيد. وليعلم الكاتب المسرحي العربي أن البشرية لن تعترف بعد اليوم بقالب واحد من قوالب المسرح. ولن تعيد استخدام تلك القوالب القديمة. فقد انقضى عهدُها جميعاً وأصبحت بالية لن تقدر على استيعاب موضوعات العصر الحديث التي صارت متنوعة بتنوع مظاهر الحياة بما فيها من تقنيات علمية جرفت أمامها أغلب ما تواضع عليه البشر من أفكار ومعتقدات. وعلى الكاتب أن يؤمن أن موضوع (الجنس) اليوم مثلاً، يجب ألا يكون محرَّماً عليه. وأن لا يكون (الدين)، مثلاً آخر، محجوباً بستار القدسية بعد أن أعمل المفكرون الإسلاميون المجددون معاولهم في تهديم البالي من موروثاته، وأن عليه أن يعالج السياسة بكثير من الحرية في النظرة والرؤية. وإذا كان جيل من سبقه من الكتاب قد جابهوا السلطات بكثير من الحذر وكثير من الجرأة، فعلى الكاتب المسرحي العربي الجديد أن يحتفظ بعنصر الجرأة دون عنصر الحذر. وإذا كان يعتبر مطلبَ الديموقراطية من أهم موضوعات هذا العصر، فليمارس الديموقراطية على نفسه بأن يكون مستعداً للتحرر من كل قيد، وأن ينفض عنه رداء المقدسات، وأن ينطلق إلى موضوعاته بطريقة جديدة في رسم الشخصيات وبناء الحبكة وتصاعد الصراع. فبغير هذه الحرية الثائرة المتمردة لن يستطيع تقديم أشكال جديدة تناسب عصره. وبغير هذه الحرية المطلقة المنفلتة من كل قيد، لن يستطيع الاستفادة من الأشكال والقوالب المسرحية القديمة.
إن على الكاتب المسرحي العربي اليوم أن يخلق شيئاً جديداً وأصيلاً. فمرحلة تقليد النص الأجنبي انتهت. وآن لـه أن يبتكر كامل أسلوبه. وإذا كان الشاعر العربي الحديث قد حطم القوالب الشعرية القديمة وبنى من أحجارها شعراً جديداً، فقد صار من واجب الكاتب المسرحي الجديد أن يفعل مثلما فعل الشاعر بأن يتجاهل كل ما يعرفه - بعد أن يتقن معرفته - من القوالب
المسرحية السابقة وأن يبني منها شكلاً جديداً.
NoUr kasem
NoUr kasem
مساعد المدير
مساعد المدير

عدد المساهمات : 1954
تاريخ التسجيل : 08/09/2009
العمر : 37
الموقع : دمشق . . فلسطينية الأصل

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات  Empty رد: النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات

مُساهمة  NoUr kasem الأحد يوليو 18, 2010 8:42 pm

-
5 -
الـحـوار.. جامع الشمل


1- تمهيد عن ارتباك الحوار

مهما اختلف النقاد في تعريف أركان المسرحية وفي تحديد عناصر كل ركن منها، فإنهم مجمعون على أن الشخصيات المسرحية في جميع العصور ومختلف المذاهب كانت فصيحة اللسان ناصعة البيان. فلا يعتور عباراتِها اعوجاجٌ أو خللٌ وهي تتكلم. وكلها تمتلك قدراً عالياً من القدرة على استبطان ذاتها أو استكناه نفوس غيرها. وكلها تتدفق في الكلام دون أن يصيبها حصر أو ضيق. حتى العييُّ منها يمتلك قسطاً من الفصاحة نتمنى أن نمتلك بعضه في حياتنا. وهذا دليل حاسم على أن المسرحية ليست الحياة وليست تقليداً لها، بل هي إيحاء بها وتمثيل لها. وهو ما وصفه القدماء - وما يزال وصفهم صحيحاً- بأنه محاكاة الواقع.


***
كان الحوار في كتابات النقاد يوصف بأنه (أسلوب التعبير الدرامي المتميز). وكانت لـه هذه المكانة لأن التأليف المسرحي نوع رفيع من أنواع الأدب. وظلت البشرية قروناً طويلة تتغنى بحوار المسرحيات ما بين تشدق الممثلين بتكلف واصطناع، وبين تأديته بواقعية لطيفة. ولأن الكتاب المسرحيين كانوا عماد الحركات المسرحية المهمة، فقد احتلت النصوصُ المكانةَ الأولى في العرض المسرحي. وكان ذلك دافعاً إلى بذل الاهتمام في إيصال الحوار بأبهى صورة إلى أذن المتلقي. ولأن النص المسرحي أدب يصدر في كتاب، ولأن اللغة مادة الأدب، فقد حرص الكتّاب على تجويد حوارهم وصقله حتى يبدو قريناً لبقية فنون الأدب.
لكن ولادة المخرج في بدايات القرن العشرين أزاحت الكاتب عن المكانة الأولى في العرض المسرحي وأحلتَّ المخرجَ مكانه، وعملت في الوقت نفسه على إعطاء النص المكانةَ الثانية في العرض المسرحي. وأخذ الحوار يفقد أهميته رغم امتلاء المسرح به. وأتى فقدانُه لأهميته من أنه لم يعد التعبير الأقوى أو الوحيد عن التواصل الفعلي بين الشخصيات في صراعها أو في توافقها. وعندما ازدادت براعة المخرجين والممثلين، صار الفعل يحلُّ محل الحوار في التعبير عن الدلالة النفسية والعاطفية. فصار الحوار مكملاً للفعل وليس بديلاً عنه. ولكي يستعيد الحوار مكانته في العرض المسرحي أخذ يتخلى عن بلاغته وفصاحته. وقد بدأت هذه العملية مع نشأة الواقعية التي تحاول أن تكون أفعالها وإيماءاتُها مستمدة من حركة الناس اليومية، خاصة وأن موضوعات المسرحيات كانت معاصرة وليست تاريخية. فدفعه ذلك إلى أن تصبح لغةُ الحياة اليومية مادة الحوار. ولم يعد الممثلون يختالون على خشبة المسرح بحكاياتهم القديمة ذات الفخامة في القول والفعل. ولم يعد الحوار يجلجل بفصاحته في آذان المتفرجين. بل صار حديثاً عادياً قد يعنُف في أزمات الصراع لكنه يظل ضمن دائرة الحديث الواقعي العادي. ولم يكتف المخرجون بإنزال مكانة الحوار إلى المرتبة الثانية أو الثالثة، بل صاروا يكيدون الكتابَ كيداً مؤلماً بحذف أطوالٍ من نصوصهم. ثم زادوهم كيداً أشدَّ في أواخر القرن العشرين بأن قدموا عروضاً دون كلام.
غير أن هذا الصراع الخفي بين المخرج والكاتب - بعد كل حساب - لم يذهب بقيمة الحوار، ولم يكن ممكناً الاستغناءُ عنه لأن العرض المسرحي في نهاية الأمر تجسيد لظروف الكلام. وكائناً ما كان شأن العرض المسرحي فإنه لن يقوم - رغم أنف المخرج - إلا بتجويد الحوار. فهو كلام يتصدى لـه الممثل بالإلقاء المتقن في نبرات الصوت ووضوح الأحرف وجلاء الكلمات والتعابير. ويحسب الممثل حساب قوة الصوت لإيصال كامل الكلمات حتى لا ينـزعج المتفرج من القوة الزائدة للصوت وحتى لا يسمع الممثلُ تلك الكلمة اللئيمة من المتفرجين: (صوت). والحوار هو الذي يقيم التواصل بين الشخصيات وبينها وبين المتلقين. والأخطر من هذا أن الحوار المسرحي يبدو لا معنى لـه إذا لم يحمل شحنته العاطفية المتولدة عن العلاقات بين الشخصيات. ومهما بلغت قوة الفعل من الدلالة بديلاً عن الكلام، فإن موضوع المسرحية وصراعها وشخصياتها لن تقوم لها قائمة إلا بالحوار. وبهذا الشكل كان المخرجون مضطرين إلى الاهتمام بالحوار لأنه حامل المسرحية كلها وجامعٌ لشمل جميع عناصرها.
لقد احتل الحوار مكانته الرفيعة عندما كان شعراً. فلما صار نثراً تقلَّبت مكانتُه بين ارتفاعٍ وانخفاضٍ مع حركات التجديد في المسرح. فكل ريح تهب على المسرح كانت تلفح الحوار فيصيبه منها هَزةُ تغيير. أما أكبرُ تغيير أصابه فكان مع مسرح العبث. فلأول مرة في تاريخ المسرح يفقد الحوار وظيفة التواصل والتوصيل. فهو لا يشبك العلاقةَ بين الشخصيات المتحاورة. ولا يقدم معلوماتٍ تمهد للحكاية والصراع. ومسرح العبث هذا تأثر به عدد وفير من الكتاب في شتى أنحاء العالم. وتأثرهم هذا أخضع تركيبَ الحوار لتمزيق المنطق فيه. ثم خضع تحليله للدراسات البنيوية فتحول بين أيدي هذه الدراسات إلى بعض خروجٍ عن وظائفه.
وإذا كان الحوار في المسرح الأجنبي قد تقلبت مكانته بين مدٍّ وجزر، فإنه في المسرح العربي تقلَّب على السفُّود وما يزال يُشوى بنار التناقضات بين الآراء. وسوف نعود إليه
.

تعريف هادئ بالحوار

(الحوار هو الحديث الذي تتبادله الشخصيات. فيكشف جوهرها ويدفع الفعل إلى الأمام). وهذا التعريف يعني الأمورَ التالية:
آ - فهو ليس الحديثَ العادي الذي يجري بين الناس في الحياة. فالحديث العادي لا هدف لـه. ويمتلئ بالزيادات والبذاءات والسخف. أما الحوار المسرحي فمركَّزٌ منتقى مهذب. وله غاية محددة. أي أنه درامي. ولا شك أن الكتاب المسرحيين جميعاً يعرفون ذلك ويفرقون تفريقاً دقيقاً بين الحوار المسرحي وبين الحديث العادي. لكنهم وقعوا - عبر العصور - في الهوة التي ذكرناها من قبل وهي الثرثرة. وأبرز وجوه الثرثرة التي يقع فيها الكاتب هو (تكراره للفكرة الواحدة أو المعنى الواحد مرة بعد مرة). وكتاب العصور السابقة وقعوا فيها جميعاً لا تكاد تستثني منهم إلا آحاداً. وإذا كان لهم أعذار في الوقوع فيها بيّناها فيما سبق، فإن كاتب العصر الحديث لا عذر لـه ولا وقت عنده للوقوع فيها.
ب - والحوار غير النقاش. فالنقاش خلاف في الرأي. وغايتُه إقناع أحد الطرفين بحجة الآخر لتصفية الخلاف بينهما. وقد تتم تصفية الخلاف وقد لا تتم. أما الحوار المسرحي فهو صراع بين قوتين إنسانيتين. وغايتُه غلبةُ قوة اجتماعية وإنسانية على أخرى. ولا شك أيضاً أن الكتاب المسرحيين عرفوا ويعرفون هذه القاعدة. لكن المذهب الواقعي هو الذي أوقع المسرح في فخ (النقاش) وصولاً إلى تمثيل الواقع بتفاصيله. ولو راجعتَ كبريات مسرحيات إبسن وغيره من كتاب الواقعية في البلدان الأجنبية لوجدت قسطاً وافراً من الحوار الذي يدخل باب النقاش لا باب الحوار. ولو راجعت كبريات المسرحيات العربية منذ منتصف القرن العشرين حتى اليوم، لوجدت أكثرها
-وأكاد أقول كلُّها - يقع في أحبولة النقاش ويخرج في بعض أجزائه عن الحوار. وما دفعهم إلى ذلك إلا محاولة استيفاء الفكرة بعد الفكرة. وإذا كان لمن سلف من الكتاب عذر أو أعذار أيضاً في الذهاب نحو النقاش، فإن الكاتب المعاصر سيلقي بنصه إلى التهلكة إذا لم يدرك الفرق الدقيق بين الحوار والنقاش. وآه ثم آه لو يستطيع الكتاب العرب التفريق الدقيق بين الأمرين.
ج - والحوار لا يجوز فيه التوقفات والمقاطعات التي تكون في الحديث العادي. وهو يجري على نسق متواتر من التنظيم. فالشخصيات لا يقاطعُ بعضُها بعضاً. وكل واحد منهم ينتظر انتهاء كلام شريكه حتى يبدأ كلامَه. والنقطة أو الفكرة التي تم الكلام فيها لا يُعاد إليها إلا لسبب يتعلق ببناء الحبكة. وبذلك تبدو المسرحية في نهاية الأمر قطعة مسبوكة يهدر فيها الكلام من أولها إلى آخرها. فإذا تخلل الحوارَ فترات صمت - ولا بد أن يقع فيها فترات صمت- كانت هذه الفترات جزءأ من الكلام لأن الصمت في المسرحية كلام. فهو يمهد لجملة أو يترك لها زمناً حتى تترك أثرها عند المتلقي. وكثيراً ما أورد الكتاب في ملاحظاتهم الإخراجية (لحظة صمت قصيرة) أو (لحظة صمت طويلة).
د - والحوار ينمو ويتوالد. ففي الحياة قد يتوقف الحديث عند نقطة معينة لا يتجاوزها إلى غيرها. أما الحوار فينتقل - بمنطقية وتسلسل - من نقطة إلى نقطة. وهذا النمو والتوالد هو السلاح الرئيسي في يد الكاتب لنمو الحكاية. فقد يطلب الابن من والده مالاً. فيرد الأب عليه بأنه أخذ البارحة مالاً كافياً لمصروفه. فيرد الابن بأنه يقلل لـه مخصصاته المالية لأنه يحب ابن الزوجة الثانية أكثر مما يحبه. فيرد الأب بأن زوجته الأولى هي التي أجبـرته على الزواج لأنها كانت تهمله. وهنا قد تدخل الزوجة الأولى وتعيِّـره بأنها تزوجته غصباً عنها وإنها تطلب الطلاق. وبهذا الشكل يحتدم الصراع بينهما . وهو صراع ولَّده الحوار المتنامي بمنطق السببية الذي يبني الحكاية.
وهذا النمو والتوالد يجب أن يتم بسرعة ودون توقف حتى يستوفي الكاتب كل ما تقدم من أركان التأليف المسرحي في المدة الزمنية القصيرة المتاحة لـه. وهو- مع تجنب التوقفات والانقطاعات فيه - يجب أن يمتاز بالإيجاز في إيراد المعاني وبالسرعة في إيراد الأفعال. وهذا هو الأسلوب الحديث أمام الكاتب المعاصر كي يحقق كل ما تقدم فيه الحديث عن مواكبة العصر في سرعة الإيقاع وفي تقديم الإثارة اللاهبة التي صارت سمة العصر، والتي صار القارئ أو المتفرج يطلبانها في العرض المسرحي القصير الزمن، والذي يجب أن يمتلئ بكل مقومات البناء المسرحي في عمق الصراع وقوة الموضوع واكتمال الشخصيات. وأعتقد أن الحوار بهذا الشكل هو السبيل الوحيد أمام الكاتب المعاصر. ولذلك قلنا إنه سلاحه القوي.
هـ - والحوار ينبثق عن مفهوم المحاكاة في المسرح. فهو مشابهٌ للواقع من ناحية، ومخالف لـه من ناحية ثانية. إذ يشابهه في تعريفنا بنوازع الشخصيات وسلوكها الإنساني. ويخالفه في أنه مركَّب بطريقة فنية لها وظائفُ محددة. فهو ليس حواراً واقعياً. وإنما يوحي بالواقع. والكتاب العرب يعرفون، أيضاًً معنى المحاكاة في المسرح معرفة دقيقة. ويسوقون حوارهم ببراعة في هذا الميدان. لكن خللاً ما في فهم محاكاة الحوار للواقع أوقعهم في متاهة انتقاء لغة الحوار: أهي الفصحى أم العامية؟ وسوف نقف بعدُ عند هذه النقطة.
3-

وظائف الحوار التي لا غَناء عنها

للحوار ثلاثُ وظائف أساسية تعطيه صفته الدرامية. وإذا لم يقم بها الحوار لا يفقد دراميته فحسب، بل يخرج عن كونه حواراً مسرحياً. ويمكن للكاتب أن يبتكر للحوار مهمات أخرى كأن يُدخِل الغناء أو أن يقطع تسلسل الحكاية بمخاطبة الجمهور. لكنه لا يستطيع التخلي عن هذه الوظائف الثلاث. فهي القيد الذي لا بد أن يكبل يديه به حتى يكون نصه منتمياً إلى جنس المسرح.
أولاها تطوير الحبكة
فهو الذي ينقل المسرحية من التمهيد إلى العقدة إلى الحل. وهو الذي يكشف جوانب الصراع ويعمقه ويدفعه إلى التأزم. وهو الذي يعطي الفعل المسرحي قيمته إذ يرافقه شارحاً أو يسبقه ممهداً أو يتبعه مفسراً. فإذا طعن البطلُ خصمَه فقد يقول له: (خذها من أبي). أو (لن تقف اليوم في طريقي إلى العرش). أو (الآن آخذ أموالك وزوجتك). وهنا يقوم الحوار بمهمة التمهيد للحدث ويوجه سير الحكاية بوضوح وحيوية وتشويق. وإذا لم يقم الحوار بمهمة تطوير الحبكة فسوف يقع في السردية التي ميدانُها الرواية وليس المسرح.
ويتوقف تطوير الحبكة على الحوار في الأفعال التي لا يمكن أن تجري على الخشبة حين لا تكون قادرة على استيعاب كل الأفعال أو استيعاب سرعة الزمن. وهذا ما كان يحدث كثيراً في المسرحيات القديمة. أما الكاتب المعاصر فلا بد لـه أن يضع في ذهنه أن الخشبة اليوم صارت متطورة قادرة على تقديم ما لم تستطع خشبة الأمس تقديمه. وكل ما تستطيع تقديمه اليوم يُعتبر الحوارُ فيه حشواً وزيادة يحسن الاستغناء عنهما. وإذا أمكن للإضاءة أن تجري بالزمن اللازم مرورُه لتطوير الحبكة، فقد وجب على الكاتب أيضاً أن يستغني عن هذا الجزء من الحوار. وإذا كان المسرح فيما سبق العقود الأخيرة من القرن العشرين مضطراً لاستخدام الحوار في تحديد المكان والزمان أو في الاستغناء عن تمثيل الأفعال، فإن الخشبة اليوم تُسقِط وظيفة الحوار في الحديث عن الأفعال الكبيرة العنيفة أو في تمرير الزمن. وحذفُ هذا الجزء من مهمات الحوار أبرزُ نقطة يجب أن ينتبه إليها الكاتب المعاصر. وهي التي تجعل أسلوبه في الكتابة مغايراً لمن سبقه ومساوقاً لما وصل إليه تجهيز الخشبة. وبذلك يتمكن الكاتب من اختصار كثير من الحوار حتى يستطيع تقديم كامل حبكة مسرحيته في مدة لا تتجاوز الساعة ونصف الساعة.
وأهم ما في تطوير الحوار للحبكة أنه يسوق المسرحية ضمن خطة معينة للوصول بها إلى نهاية القصة وإلى هدفها الأعلى. ولن يتحقق للحوار تأدية هذه الوظيفة إلا إذا كانت كل جملة في الحوار من أول المسرحية إلى آخرها، مربوطة سلفاً بالهدف الأعلى. ولذلك يجب على الكاتب أن يدرس كل جملة يكتبها دراسة متمعنة لفحص دورها في هذين الجانبين (الوصول إلى نهاية القصة - الوصول إلى الهدف الأعلى). وإذا كان الكاتب القديم يستطيع بما يُتاح لـه من زمن، أن يسترخي في الحوار بتقديم جمل إنشائية جميلة، فإن الزمن المتاح للكاتب المعاصر ضيق محدود. وهو لذلك، مضطر أن يكون أكثر صرامة في التقيد بهذه المهمة للحوار.
وثانيتها تصوير الشخصيات
فبالحوار نتعرف على أفكار الشخصيات وعواطفها. ونعرف مدى ثقافتها وما تنويه من أفعال وما أنجزته من مهام. وبالحوار تصارع الشخصيةُ خصومَها وتصل بصراعها إلى نهايته المحتومة.
ويعاني الكتاب من مشكلة مقلقة في تصوير الشخصيات بالحوار. وهي أن الإنسان في العادة لا يكشف عن نفسه بالكلام. بل يخفي عواطفه ونواياه الشريرةَ والخيِّرة. فلا أحد يقول عن نفسه إنه جبان. وإذا قال إنه شجاع اتهمناه بالادعاء والتفاخر. والذي ينوي سرقةَ مصرف أو قتلَ شخص لا يعلن ذلك. والمتفِقُ مع حبيبته على الهرب لا يفشي سره لأحد. ومع ذلك فإن على الكاتب أن يجعل الشخصية تُفصِح عن نفسها بشكل طبيعي. وهنا تتجلى مهارة الكاتب وطول باعه. كأن يضع الشخصية في موقف المضطر للاعتراف والبوح، أو في حالة انفعالية حادة تسمح لها بالإفضاء عن سريرتها، أو يقابلها مع صديق يتبادل معه المصارحة والمسارَّة. وقد يجعلها تكشف عن نفسها وحدها عن طريق المونولوج.
وكان الكتاب القدامى يلجؤون إلى حيلة (الحوار الجانبي) أو (النجوى). وهي أن يتكلم الشخص مع نفسه عن أمر من الأمور دون أن يسمعه أحد. وقد كانت هذه الحيلة مقبولة فيما مضى. لكنها تبدو اليوم سخيفة ممجوجة. حتى (المونولوج) يتقبله قراء وجمهور اليوم بشيء من الضيق مهما بلغ من القوة والضرورة. فالأصل اليوم هو الاشتباكُ السريع في الحوار المؤدي إلى الصراع والإسراعُ في تأزيم الحبكة.
وثالثتها الإمتاع بالجمال
ذكرنا أن جميع الشخصيات في تاريخ المسرح تبدو فصيحة قادرة على وصف نفسها ووصف الآخرين ببراعة. فالعشاق يجيدون وصف مشاعر الحب. والسياسيون خطباء بارعون. حتى الأمهات الساذجات البسيطات يعرفن أفانين الكلام الذي نتمنى لأمهاتنا أن يملكن بعضه.
والسر في هذه الفصاحة أن القارئ أو المتفرج يقبل من الشخصيات فصاحتها. بل ويرفض أن تتكلم كما يتكلم الناس في الحياة الواقعية. وما ذلك إلا لأن المتفرج العادي يدرك معنى المحاكاة في المسرح ببساطة مدهشة. ولا يشترط على الكاتب إلا أن يكون مضمون الحوار مشابهاً تماماً لعواطف الناس وأفكارهم وأحلامهم.
إن المسرح فن من فنون القول وواحد من الأنواع الأدبية. ولذلك وجب أن يكون جميلاً بصياغته وحسن سبكه وقوة بيانه، وأن يستطيع أن يهز نفوسنا ويشبع رغبتنا في قراءة أو سماع الكلام الجميل. ولم يبدأ المسرح شعراً إلا لأنه كان يقدم متعة مركَّبة. فهو شعر جميل وهو قصة جميلة وهو مرويٌّ بتشويق. فكان يحمل خصائص الإبداع الشعري مضافاً إليها خصائصُ قوة البنيان المسرحي. وكان لـه من جماليات الشعر مهادٌ موطأةٌ لتحقيق الإمتاع بلذائذ الكلام. فلما صار نثراً صارت مهمته في تحقيق الإمتاع أصعب. ثم لما صار واقعياً يحاول أن يحاكي اللغة اليومية في مشاكل القضايا اليومية صار تحقيق الإمتاع الجمالي أشد صعوبة. فالإنسان لا يختلف مع زوجته بكلام مشحون بالصور البلاغية. ولا يتقصَّد جمالَ السبك وفصاحةَ الكلام وهو يختلف على صفقة تجارية أو يدبر جريمة قتل. وإذا كان الشعر يتيح لشكسبر أن يملأ كلام حفار القبور بالفصاحة، فقد يكون من الصعب أو المضحك أن يكون كلام رجل أو امرأة من عامة الناس فصيحاً. والأشد مدعاة للصعوبة أو السخرية إذا كان المتكلم جاهلاً. ورغم ذلك يجب أن يكون جميع الكلام قادراً على أن يكون جميلاً. وتلك هي واحدة من صعوبات التأليف المسرحي ومن واجباته التي لا مندوحة عنها ولا يمكن التهرب منها. والأهم من ذلك كله أنها تحلُّ التناقضَ بين مقتضى الواقع والواقعية في المسرح وبين مقتضى الفن.
NoUr kasem
NoUr kasem
مساعد المدير
مساعد المدير

عدد المساهمات : 1954
تاريخ التسجيل : 08/09/2009
العمر : 37
الموقع : دمشق . . فلسطينية الأصل

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات  Empty رد: النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات

مُساهمة  NoUr kasem الأحد يوليو 18, 2010 8:45 pm

-خصائص الحوار

لكي يتحقق للحوار جميع وظائفه كان لا بد لـه أن يمتاز بما يلي:
آ - مناسبة اللغة لموضوع المسرحية. فالمسرحية ذات الموضوع التاريخي يختلف أسلوبُ لغتها عن أسلوب الموضوع الواقعي. ولغة المأساة تختلف عن المسرحية الكوميدية. وأسلوب المسرحية التاريخية التي تدور أحداثها في العصر الجاهلي يختلف عن مسرحية تاريخية من العصر العباسي أو العثماني.
ب - أن يتلاءم الحوار مع الشخصية. فلغة المثقف غير لغة الجاهل. ولغة الفلاح غير لغة ابن المدينة. وكلاهما يختلف عن الجندي أو الطبيب. ولغة المثقف المتبجح بثقافته غير لغة المثقف المتواضع.
ج - أن يكون رشيقاً وذا إيقاع جميل. فطول الجملة أو المقطع يؤدي إلى ضياع المعنى. والجمل التي ليس فيها إيقاع موسيقي جميل لا تفتن المتفرج أو القارئ. ونحب أن ننبه إلى أنه إذا كان الإيقاع الموسيقي في الشعر مفروضاً على الشاعر، فإنه في المسرح أكثر فرضاً ووجوباً. فهو كلام يمتد على مدى ساعة أو أكثر. وإذا لم يحفل بالموسيقى الداخلية الخفية، فإن المتفرج يضيق به مهما برع الممثل في أدائه.
د - أن يكون الحوار مساعداً للممثل على الإلقاء. وذلك بالابتعاد عن الحروف التي لا تتلاءم إذا تجاورت كالقاف والكاف أو الشين والسين، وبالابتعاد عن الكلمات التي ترهق حنجرة الممثل

تلك هي النقاط الأبرز والأهم في الحوار المسرحي كائناً ما كانت لغة الكاتب. وقد وقفنا عندها في محاولةٍ لتكثيفها لأن الحوار هو الركن الوحيد الذي ليس فيه اجتهادٌ بالتغيير والتعديل. فقد طور الكتّاب أسلوب بناء الحبكة أو طريقة رسم الشخصيات أو نهج إدارة الصراع. وكان من حق الكتاب أن يختاروا الموضوعات وأن يحرِّمَ النقاد بعضها. لكن عنصر الحوار بصفاته وخصائصه التي أوردناها لا يمكن التلاعب بها أو تغييرها لأنها نابعة من خصوصية المسرح بين الفنون. فهو أدب وفن. وهو واقعي التصوير للحياة دون أن يكون واقعياً بشكل مباشر حتى لا يقع في الفهم الساذج للواقعية. وليس على الكاتب إلا أن يحاول تجويد أدواته لأداء خصائص الحوار كما هي
.
5 - الحوار في المسرحية العربية

قطع تطورُ الحوار في المسرحية العربية طريقاً شاقة حتى وصل إلى إشكاليته في العصر الحديث. وفي كتابنا (مراجعات في المسرح العربي منذ النشأة حتى اليوم)([2]) تحدثنا عن هذا التطور وعن مرافقته لتطور الأدب العربي عموماً وهو ينفض عنه غبار عصر الانحطاط. وأشرنا إلى أن الحوار المسرحي كان - مع لغة الصحافة اليومية - ذا أثر فعال في دفع أساليب الأدباء إلى البساطة والتخلص من القيود التي كان مكبلاً بها وهي قيود السجع والتكلف التي كانت سمة الجمال في تلك العصور. فهما - أي حوار المسرح والصحافة- شديدا التواصل مع الناس. فأسرعا إلى اتِّباع الأساليب التي تتيح لهما أن يكونا مفهومين مؤثرين. وسرعان ما لحق بهما الشعر والمقالة والرواية والنقد.
لكن بقية فنون الأدب كانت عريقة في التراث العربي. وكان لها من تاريخها الطويل ما يساعدها على السرعة في مواكبة الحياة. أما المسرح فكان فناً جديداً طارئاً على الثقافة العربية. وكان يبني تراثه وقواعده من خلال كتابة النصوص وتحويلها إلى عروض مسرحية. وبناءُ هذا التراث والقواعد مع تطوير اللغة هو الطريق الشاقة التي سار فيها الحوار المسرحي العربي خلال قرن ونصف قرن حتى استقر أمره على أنه نوعان: واحد يعتمد العامية مادة لـه. وواحد يعتمد الفصحى. وسبب هذا التباين الشديد يعود إلى أمر قد لا نجده عند بقية الأمم وهو أن العرب يتكلمون في حياتهم اليومية بعاميةٍ تمت إلى الفصحى بأوهى الصلات، ويكتبون أدبهم ورسائلهم الديوانية باللغة الفصحى. وأكثرُهم يتكلف هذه اللغة تكلفاً واضحاً في كلامه الرسمي أو في تأليفه الأدبي. يضاف إلى هذا أن العامية العربية لهجاتٌ تتفرع عنها لهجاتٌ في حين أن الفصحى واحدة في جميع الأقطار العربية. وهي فصحى ممتدة على قرون ممتدة من الزمن لم تتغير قواعدها وأساليب تركيبها على الإطلاق. فهي من لحظة نـزول القرآن حتى اليوم ثابتةٌ ثباتاً عجيباً لم تحظ به لغةٌ من اللغات. وكل ما تغير فيها هو موت كلمات منها وولادةُ كلمات جديدة أولاً، وتبدُّلٌ في وضع هذه الكلمات في جمل وتراكيب ضمن سياق القواعد النحوية المعروفة الصارمة ثانياً.
أمام هذا الواقع اللغوي المعقد فهم الكتاب العرب (المحاكاة في المسرح) فهمين متناقضين. الأول هو أن تتكلم الشخصيات على المسرح كما يتكلم الناس في الحياة حتى يكون قادراً على التواصل معهم تواصلاً حياً فانحاز نحو العامية. والثاني هو أن كلام الشخصيات يجب أن يوحي بالواقع لا أن يطابقه. ووجد أصحاب هذا الاتجاه في الفصحى سبيلاً صحيحاً وصادقاً ومعبراً عن الحياة خاصة وأن المسرح ينتمي إلى الأدب.
ومع أن الكتاب المسرحيين في كل بلد عربي كانوا يكتبون بالأسلوبين معاً، إلا أن أكثر الأقطار العربية كانت، بالتدريج، تميل إلى العامية وتهجر الفصحى. وظلت سورية أكثر البلدان تمسكاً بالفصحى. فجميع أدبها المسرحي مكتوب بها. وتناوب الكتابُ في مصر بين العامية والفصحى. وطُبعت فيها مسرحياتُ العامية إلى جانب مسرحيات الفصحى.
لكن العقد الأخير من القرن العشرين وما تلاه حمل شيئاً جديداً إلى المسرحية العربية وهو أنها بدأت تفقد انتماءها إلى ميدان الأدب المسرحي وتُدخِل نفسها ميدان العرض المسرحي. وصار هذا الاتجاه طاغياً في جميع الدول العربية ومنها سورية. وقد ترافق هذا الانحياز نحو العامية مع تراجع أحلام العرب في تحقيق ما طمحوا إليه من تغيير في نسق حياتهم الاجتماعي والسياسي على الشكل الذي ذكرنا أطرافاً منه من قبل. وانتهى الأمر بالعرب إلى أنهم خسروا المسرحية التي تنتمي إلى الأدب والتي تتوارثها الأجيال والتي تخلق للمسرح تراثه الخاص به. ولم يبق عندهم إلا العروضُ المسرحية التي تموت نصوصها معها. والاتجاه نحو العامية لم يقتل المسرحية الأدبية فحسب، بل أضعف ذائقةَ الكتاب المسرحيين الدرامية حينما يريدون الكتابة بالفصحى. فظهرت هذه النصوص القليلة شاحبة ضعيفة تفتقد قوة الدراما في أركانها التي تحدثنا عنها. وبهذا الشكل ظهرت الأمة العربية وكأنها، منذ بداية تسعينات القرن العشرين، خسرت جزءاً خطيراً من نتاجها الأدبي وهو المسرحية. وليس أمام الكتاب العرب إلا العودة إلى الفصحى إذا أرادوا أن يكون لهم أثر في الأدب العربي وأن يكون لهم تأثير فعال في قرائهم ومتلقي عروضهم. وإذا كانت العامية أشد قرباً إلى المتفرج من الفصحى، فإنها عاجزة عجزاً مطلقاً عن بناء دراما قوية تستطيع النفاذ إلى كنه الإنسان وتستطيع في الوقت نفسه أن تعالج موضوعاتها معالجة عميقة هي التي كانت وراء خلود المسرحيات وبقائها.
إن هذا الكلام ليس دعوة للكتاب المسرحيين للكتابة بالفصحى فإن لهم حقَّ اختيار ما يريدون من أشكال فنية ومن أسلوب في حوار شخصياتهم. لكنه دعوة إلى كتابة المسرحية القادرة على تصوير الواقع العربي بعمق وقوة. ولكي يستطيع الكاتب الوصول إلى كتابة مثل هذا النوع، عليه أن يعرف ما هي (لغة المسرح).
6-

لغة المسرح وخصائصها

إن لكل لغة من لغات الشعوب وجوهاً جمالية تفرِّق بين لغة الكلام العادي وبين لغة الأدب.
ولئن كان للغة الأدب خصائصُ معينة لجميع فنون القول، فإن لكل فن منها خصائصَ خاصة به بحيث يمكن القول إن للشعر لغة تتميز عن لغة الرواية كما تختلف عن لغة القصة أو المسرحية أو لغة النقد الأدبي. وتأتي هذه الخصائص من طبيعة تكوين الجملة المناسبة للنوع الأدبي رغم أنها جميعاً لا تخرج عن القواعد العامة للفصاحة في جميع فنون الأدب.
وقد وضع النقاد العرب القدامى والمحدثون بعضَ القواعد والأصول
لفصاحة الكلام العربي. منها وضوحُ المعنى وسلاسةُ التعبير وتضمنُه موسيقاه الداخلية التي تمنحه إيقاعية مطربة لأذن القارئ أو المتلقي. ولعل أجلَّ قاعدة عربية في ميدان الفصاحة هي (البلاغة الإيجاز). وعنها ولدت الجمل التي تسمى (جوامع الكلم) وهي العبارة التي تحمل أكبر قدر من المعنى في قليل من الألفاظ.
وجميع فنون القول - ما عدا المسرح - تستطيع أن تستخدم قواعد الفصاحة بالشكل الذي يريده الكاتب المبدع. أما المسرح فهو مقيد بقاعدة صلبة هي أنه فن يكتب لكي يقدم على خشبة المسرح. أي أن المتفرج يتلقاه مسموعاً لا مقروءاً. وهو منقول بالتناوب الذي قد يكون سريعاً بين شخصين أو أكثر. وهو يقدم كاملَ أركان المسرحية من القصة المحبوكة بصراعها وتعقيد الأزمة فيها إلى الشخصية إلى الموضوع. فإذا غاب بعضُ المعنى بدأت صلة المتلقي به تتناقص. وإذا تكرر غياب بعض المعاني، فلن يلبث المتلقي أن ينصرف عما يشاهده انصرافاً تاماً. ولهذا يجب على الكاتب أن يحرص في كل جملة من مسرحيته أن تصل بكامل معناها وكامل دلالاتها النفسية وكامل دورها في عقد الحبكة وتسلسل الحكاية. ولهذا أيضاً تبدو الأسس التي تقوم عليها لغة المسرح شديدة القسوة والصرامة. والكاتب يتقيد بها محافظاً لا على نصاعة الأسلوب العام للمسرحية فحسب، بل وعلى نصاعة أسلوب كل شخصية في المسرحية. فالكاتب - وهذه إحدى مصاعبه - لا يروي الحكاية بلسانه كما يفعل الروائي، ولا ينظمها بإحساسه الشخصي كما يفعل الشاعر، بل يرويها بلسان الشخصيات. فكأن الحوار الذي يستمر ساعة وبعض ساعة ليس من كتابته بل من تأليف شخصياته. وهذا يعني أن يبتكر في المسرحية الواحدة عدداً من أساليب الكتابة، وأن يكرر هذا الابتكار في المسرحية بعد المسرحية. ولذلك كان من خصائص الحوار (مناسبة الحوار للشخصية). وعلى كل كاتب بعد ذلك أن يكون لـه أسلوبُه الخاص به الذي يمتاز به عن أسلوب غيره من الكتاب بحيث تقول إن هذه المسرحية من تأليف هذا الكاتب وتلك من تأليف ذاك الكاتب دون أن يقرأ المتلقي اسم هذا أو اسم ذاك.
إن أمام الكاتب مجموعة من المهام الصعبة التي يجب أن تتحقق كلها دفعة واحدة حتى ترتقي مسرحيته إلى مرتبة الأدب أولاً، وأن توحي بالواقع ثانياً، وأن تنسلَّ إلى قلب وعقل المتلقي بصفاء وسلاسة بحيث تردم الهوة المخيفة بين لغة الحياة اليومية التي يتعامل معها المتلقي في حياته العادية، وبين لغة المسرح


التي يجب أن توحي بلغة الحياة اليومية ثالثاً. وتلك هي المرتبة الرفيعة التي، إن تحققت للنصوص المسرحية، استطاعت أن تحتل مكانتها على المسرح من جديد.
ولكل كاتب أن ينتقي الطريقة التي يشاء لإنجاز هذه المهام مجتمعة. ولطالما تعددت أساليب الكتابة بتعدد الكتاب. لكن ثمة قواعد يستهدي بها الكاتب في صياغة الحوار المسرحي نذكر منها - إضافة إلى ما قدمناه عن خصائص لغة الحوار - قاعدة ناصعة نعدها مفتاحاً لكل جماليات الحوار وهي (الإيصال المباشر للمعاني) لأن النص المسرحي يُسمَع ولا يُقرَأ. والقارئ يستطيع العودة إلى الجملة إن غاب عنه معناها أو صَعُبَ وصولُه إليه. أما المستمع فيجب أن يصل إليه المعنى كاملاً بكل ما يتضمنه من مواقف نفسية واجتماعية ومشاركة في سبك الحكاية. ولذلك لا بد من أن تكون الجملة قادرة على الوصول السريع إلى القارئ. وسبيل الكاتب إلى هذا الوصول السريع أن تكون جُمَلُه معتدلة الطول، وأن يكون تنسيق أركانها (الفعل والفاعل والمفعول به والحال .. إلخ) مُعيناً على إيصال المعنى المباشر.
ولا يعني ذلك أن تأتي هذه الأركان بترتيبها العادي. فإن من مظاهر الفصاحة في العربية أن يتلاعب الكاتب بترتيب هذه الأركان. فقد يجعل المفعول به سابقاً على الفعل أو على الفعل والفاعل. وقد يأتي الحال سابقاً على صاحب الحال. وكم بلغ الأدباء مراتب عالية في حسن السبك وقوة التعبير بمثل هذا التلاعب بأركان الجملة. والكاتب المسرحي مضطر إلى مثل هذا التلاعب حتى يحقق الجمالية التي تُعدُّ إحدى وظائف الحوار. ولكن عليه، في الوقت نفسه، أن يظل حواره قادراً على الوصول السريع، وأن يحقق جميع المهام الملقاة عليه. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الكاتب لن يملك هذه القدرة على صياغة حواره بهذا الشكل إلا إذا كان مالكاً لناصية اللغة العربية في قواعدها وبلاغتها وأساليب الفصاحة العربية على امتداد عصورها. ولن يملك هذه الناصية إلا إذا تعمَّق في الآثار الأدبية البليغة القديمة والحديثة. وهذا يعني أن التعمق في التراث الأدبي القديم هو سبيل الكاتب للوصول إلى الحداثة المتمكنة.
إن الوصول بالحوار إلى هذه المرتبة الرفيعة هو الذي ينهض بالتأليف المسرحي لأن الحوار جامعُ شملِ جميع أركان البناء المسرحي. وأعتقد أن لجوء بعض الكتاب إلى العامية قد يكون نابعاً من عجزٍ عن تحقيق الحوار بهذا الشكل.

NoUr kasem
NoUr kasem
مساعد المدير
مساعد المدير

عدد المساهمات : 1954
تاريخ التسجيل : 08/09/2009
العمر : 37
الموقع : دمشق . . فلسطينية الأصل

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات  Empty رد: النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات

مُساهمة  NoUr kasem الأحد يوليو 18, 2010 8:47 pm

القسم الثاني
الـفـعـــــل


(النص المسرحي على الخشبة)

أثــرُه وتـأثُّـرُه



1- مدخل وتمهيد (النص في العرض)

إذا كان (النص المسرحي) مقصوداً بكلمة (الكلمة)، فإن (العرض المسرحي) هو المقصود بكلمة (الفعل).
و(الفعل) في المسرح يحمل معاني عدة. فهو- في أبسط أشكاله ومعانيه- مجموعُ الأفعال والحركات التي يقوم بها الممثلون، والتي تبدأ بشرب كأس الماء أو خلع الثوب، وقد تنتهي باقتراف جريمة قتل. وهو الحوار أيضاً. فقد قال النقاد (إن تكلمتَ فأنت تفعل. وإن تذكرت ما مضى فأنت تفعل. وإن بلَّغتَ عن أمر أو رأي أو موقف فأنت تفعل).
وهو محصلة تطور أحداث حكاية المسرحية التي تُبنى بالحبكة لتكوين المسرحية مكتوبةً وقابلةً لتحويلها إلى عرض مسرحي. وهو، بهذا المعنى، يشكل العنصر الديناميكي للدراما. وبهذا المعنى أيضاً يصبح (الفعل) مجموعَ الكلام وأفعال الشخصيات. وبهذا المعنى أيضاً يتكون الفعل مما يحدث داخل الخشبة وخارجها.
وهذه المعاني جميعاً بتداخلاتها وتعددها تشكل في النهاية ما يسمى (العرض المسرحي). وهو الذي نقصده بكلمة (الفعل) في هذا البحث. فهو جماع المعاني المتفرقة وتتويجها.
والنص المسرحي واحد من العناصر المتعددة التي تخلق تلك الاحتفالية الجماعيةَ البناء، الجمعيةَ التلقي التي نسميها (العرض المسرحي). لكنه أخطرها شأناً وأكثرها إرباكاً للقائمين بهذه الاحتفالية وللذين يتلقونها لأنه (كلام) أولاً. والكلام عند البشر هو الذي شكَّل تاريخهم وبنى حياتهم. فهو سلاح الدعوات الكبرى ووقودُ الحروب وسجلُّ الهزائم والانتصارات ووعاء الحضارات. فهو - لكي يفعل ذلك كله - يجمع قلوب الناس ويعيد خلقهم ويدفعهم في دروب كانوا غافلين عنها. وإنَّ أثرَ ضربة السيف يزول، وإن الحروب قد تُنسى ليحل صلحُ المصالح محل العداوات، وإن العواطف والأحقاد قد تزول ويحل محلها نقيضُها. لكن أثر الكلمة يبقى. ولهذا كان الحذرُ من الكلمة والحذرُ في استعمالها من أول المطالب عند من يبغي أن يجني ثمراتها ويتجنب مآسيها. ولهذا كان النص المسرحي من أهمَ عناصر العرض المسرحي وأكاد أقول إنه أهمها.
ويزيد من خطره وأهميته وإرباكه أنه (أدب) ثانياً. لكنه ليس أدباً محضاً. وعليه أن يتقيد بأصول التأليف الأدبي وأن يتحاشى التوغل فيها حتى لا تنقلب هذه الأصول على صاحبها. وأول صفات (الأدب) أنه يُكتب ليبقى. فإذا كُتِب النص المسرحي بشروطه التي بيّناها ليبقى، فقد حكم على نفسه بالعيش في مدارج عصره، وبالتخلف عن العصر التالي وبالكمون في المدارج المنطوية في العصور التي تلي. فكأن ذلك هو الموت. فالأدب المسرحي من بين جميع فنون الأدب إذن أدبٌ ناقص. وكمالُه في نقصه. وسر عظمته أنه قادر على أن يقدم نفسه مناسباً للعرض اليومَ ولا شأن لـه بالغد.
ويزيد من خطره وأهميته وإرباكه، ثالثاً، أنه هو الذي يقود جميع عناصر العرض المسرحي بقسوة لا رحمة فيها وبحزم لا يمكن الفكاك منه. وإذا به يفرض على الممثلين أسلوب التمثيل وعلى المخرج أسلوبَ وتفاصيلَ العرض. حتى إذا حاولتَ أن تقلب التراجيديا إلى كوميديا، وأن تحول الرجل الشرير إلى رجل خير، فسوف تجد النص المسرحي يسخر منك وهو يفرض عليك مناخه وأسلوبه في مثل هذه العملية الغريبة المعقدة. فإذا أراد المخرج وفريق العمل المسرحي أن يتمرد على سيطرة النص عليه لم يكن أمامه إلا أن يدمره تدميراً كاملاً ويحولـه إلى (كلام حواري) لا يمت إلى النص الأصلي إلا بأوهى الصلات. وهذا أسلوب كثر ركوبه في هذا العصر، كما أسلفنا، فانتفى عن خشبة المسرح ما يُطلق عليه اسم (النص المسرحي).
ويزيد من خطره وإرباكه، رابعاً، أنه أكثر عناصر العرض المسرحي قابلية للتخلف عن مواكبة زمن العرض المسرحي. فمن السهل التجديدُ في أسلوب التمثيل والإخراج وبناء العرض المسرحي. ويكفي المجددين أن يستجيبوا للإيماءات الاجتماعية المعاصرة لهم ولدلالات الأفعال التي يقوم بها الناس في دوامة الحياة لكي يكونوا مجددين ومتساوقين مع العصر. لكن تجديد كتابة النصوص المسرحية يحتاج إلى استيعاب الجوهر الفكري للمجتمع، وإلى إدراك فلسفته وإلى التمييز بين ما هو أساسي فيه وما هو ثانوي. ومثل هذا الإدراك قد يغيب عن جيل كامل من كتاب المسرح. وإذا بالخشبة تجد نفسها في يباب من مثل هذه النصوص. فتلجأ إلى بدائله وهو (التوليفات) المسرحية التي ليست أكثر من (الحوار الكلامي) الذي سبقت الإشارة إليه. ولعل هذا واحد من الأسباب التي دفعت العاملين في المسرح اليوم إلى ركوب سبيل تدمير النصوص المسرحية أو الاستغناء عنها.
لهذا كله، كان للنص المسرحي على الخشبة تاريخ منفصل عن تاريخ العرض المسرحي رغم التحامه فيه. وهذا التاريخ للنص المسرحي هو الذي يحدد حركة التطور الاجتماعي والسياسي في أمة من الأمم في مختلف عصورها. وهو الذي يفرض على بقية فنون الأدب بعض مساربها بمقدار ما تفرض عليه هذه الفنون كثيراً من تياراتها.
ولهذا كله سوف نتناول النص المسرحي من حيث التعامل معه وأثره على حركة المسرح وتأثره بها وبالمجتمع. وبمعنى آخر سوف نتناول الجانب العملي في وقوف النص المسرحي على الخشبة. فكأننا نورد تاريخَ تطور النص المسرحي وأسبابِه ومزالقَ هذا التطور. كما نقف عند الهموم العملية التي يعاني منها العاملون في المسرح. وكأننا نتحدث عن النص المسرحي في مطبخ الشغل المسرحي بعد أن تناولناه في جوانبه الأدبية وأركان تأليفه في القسم الأول من هذا الكتاب. ولا نقصد من هذا أن ندخل في مدارس التمثيل والإخراج التي تطورت وتغيرت حسب العصور، بل نقصد كيفية تعامل الأمم في أجيالها المختلفة معه بغض النظر عن هذه المدارس. فقد تعاملت الأمم مع النصوص المسرحية بما يلبي حاجاتها، وكانت مدارس التمثيل والإخراج وعاء لهذا التعامل. فكما قدمت هذه المدارسُ نصوصَ مرحلتها قدمت نصوص ما سبقها من مراحل.
2 - الوَفْق والفرق بين النص المسرحي وفنون التعبير

لا يختلف المسرح عن بقية الفنون الأدبية من حيث بناؤه الفني فحسب، بل يختلف عنها اختلافاً بيناً من حيث تقديمه إلى المتلقي. ولا ينصرفنَّ ذهن القارئ إلى أننا نقصد أن المسرح فن معروض بينما بقية الفنون الأدبية مقروءة. فهذا أبسط الفروق وأهونها شأناً وإن كان هذا الفرق غايةَ الغايات في فن المسرح. والفروق التي نعنيها هي في الوقت نفسه أبرز خصائصه.
أول هذه الفروق أو الخصائص أن جميع فنون القول تصبح ناجزة في لحظة الانتهاء من كتابتها في حين يبقى النص المسرحي غير ناجز.
إن الرواية والملحمة والقصيدة تكتمل باكتمال كتابتها، وتصبح ذات قيمة أدبية فنية بذاتها. فلا يجوز المساس بها أو تغييرها رغم تطاول الزمن عليها. وحين تقرأ الإلياذة والأوديسة أو الشاهنامة أو سيرة عنترة أو ألف ليلة وليلة، فإنك تقرؤها كما كتبها مؤلفوها. وتتمتع بالعودة إلى الحقبة التاريخية التي وصفتها هذه الملاحم. والوشائج بينك وبينها هي الاطلاع على واحدة من حكايات التاريخ. وهذا الاطلاع لا يُقصَد منه التثبُّتُ التاريخي بل المتعةُ الجمالية بالشكل الفني وبالغوص إلى جوانب النفس الإنسانية.
وحينما نقرأ (الحرب والسلم) أو (أنا كارنينا) أو (أولاد حارتنا) أو (الوباء) أو (حسيبة) أوغيرها من آلاف الروايات فإننا نقرأ وصفاً فنياً مؤرِّخاً لفترة من فترات شعب من الشعوب قد يكون واقعياً وقد يكون متَخيَّلاً، أو حكايةً لشخصية من الشخصيات الإنسانية في عصر من العصور في بلد من البلدان في حي من الأحياء في عائلة من العوائل. وما بيننا من الروابط بيننا وبينها هو (مراقبة) هذه الفترة أو الحكاية أو الشخصية التي تسعى على الأرض - كما نسعى نحن - حاملةً هموم البشر وطموحاتهم وأهواءهم. وهي مشاعرُ وأهواءٌ ومآسٍ وأفراحٌ إنسانية لم تتغير على الإطلاق وإن تغيرت أشكالُ السعي الإنساني فيها وتلونت في كل عصر بألوان درجة التطور الحضاري، ولبست أردية التقاليد والأديان.
وكذلك الشعر.
فمعلقة زهير ابن أبي سلمى أو النابغة أو امرئ القيس أو غيرها من قصائد الشعر الجاهلي، تصف موضوعات كانت تشكل عناصر الحياة العربية وتصف أهواء شعرائها من خلال طبيعة المرحلة التي كتبت فيها هذه القصائد. وكل ما علينا أن نفعله هو أن نعرف معاني ألفاظها التي صارت غريبة عنا، مستعينين بمعاجم اللغة. ولا يحق لنا أن نستبدل كلمة من كلماتها التي ماتت بكلمات معاصرة تؤدي معناها نفسه وتقوم بالمهمة الوزنية الموسيقية نفسها. ألا ترى الرواة ومؤرخي الأدب - وهم يوردون هذه القصائد - يذكرون الروايات المتعددة للبيت الشعري الواحد أو الأبيات التي ذكرها هذا الراوي ولم يذكرها ذاك؟ وهم بهذا الإيراد لا يقصدون الأمانة في النقل فحسب، بل يمتنعون عن المساس بالقصائد التي انحدرت إلينا كما هي في مختلف وجوهها. ونحن نتخيل بِرْكةَ المتوكل وإيوان كسرى مع البحتري، ومعركةَ عمورية مع أبي تمام، وحربَ سيف الدولة للروم مع المتنبي. ونفعل ذلك كله بطريقة الاطلاع التاريخي على هذه الأحداث. ونغرق مع أبي نواس في خمرياته وغلامياته. ونتسامى بالحب مع مجنون ليلى في عذرياته. ونجوب آفاق الموضوعات والعواطف مع بقية الشعراء العرب. فلا نجد من الروابط بيننا وبينها إلا الإحساس بالفخر أو الألم أو العذاب أو التهالك على اللذات. وهي مشاعر وأحاسيس نشعر بها ونحن نقرأ هذه القصائد مدركين كل الإدراك أننا (نرجع) إلى زمن مضى ولا شأن لـه بالحاضر إلا ما يكون بين البشر من استرجاع الأحاسيس والعواطف المشتركة.
إن الرواية والقصيدة في هذا المجال تشبهان اللوحة أو المنحوتة. فهما تكتملان بانتهاء الفنان منهما. وكلتاهما تحتفظان بقيمتهما الجمالية بذاتهما. والنظرُ إليهما ممتعٌ بما هما عليه من أسلوب في الرسم والنحت وفي مزج الألوان وضربات الإزميل. ولنحذر كل الحذر من تغيير ألوان اللوحة أو تعرجات المنحوتة. ألا ترى في كل متحف من المتاحف اختصاصيين في الحفاظ على هذه الألوان والأشكال من عاديات الزمن؟ حتى إذا أردنا تصوير لوحة أو منحوتة حرصنا أن تكون العدسة المصوِّرةُ أمينة في ضبط الألوان والأشكال. ولنتخيل أن أحداً غـيَّـر بعض ألوان الجيوكندة أو انحناءةً من انحناءات فينوس. فسوف نعتبره مجرما سطا على كنـز من الكنوز، ومحرفاً لآية من آيات الفن. وهو لم يزِدْ على أن جعل الكاميرا تفعل فعلها المحدود في التظليل.
لكننا في الموسيقى - وهي فن مسموع - نطلب شيئاً آخر مختلفاً عما نطلبه من الرواية والقصيدة. ونتعامل معها بطريقة مختلفة عن تعاملنا معهما. فنحن نطلب في الموسيقى شيئاً من التحوير والتغيير لأن حسن التلقي للموسيقى يقتضي استخدام الآلات الموسيقية المعاصرة لنا كما نطلب استخدامَ أساليب العزف التي انتهى إليها العازفون. من هنا، وبسبب هذا التحوير والتغيـير نسمع سمفونيات بيتهوفن وموزارت وشايكوفسكي وغيرهم في عدة تسجيلات أدتها فِرَقٌ موسيقية مختلفة بقيادات مختلفة تحافظ على اللحن الأصلي وتُضفي عليه كلُّ واحدة منها عليه تلوينات وظلالاً تختلف بها عن قرينتها كما تختلف عن الشكل الأول الذي كانت عليه يوم تأليفها. وقد نستجيب لإعادة توزيع المقطوعات الموسيقية بشكل يذهب بأسلوب أدائها مذهباً بعيداً جداً عن أسلوب تقديمها الأول أو الثاني أو الثالث. وقد يكون هذا التحوير والتبديل سبباً جوهرياً في إبقاء هذه المقطوعات على قيد الحياة بين الناس على عكس الملحمة والرواية والقصيدة. فإن أي تغيير أو تحوير فيها يقتلها ويخرجها عن إهابها. أما الموسيقى فإن التغيير والتحوير - سواء في أسلوب العزف أو طريقة الأداء - هما اللذان ينعشانها ويبقيانها على قيد الحياة. وكمثال على ذلك لا أظن أحداً اليوم قادراً على سماع دور (أنا هويت) لسيد درويش كما غناه صاحبه أول مرة، أو كما غناه بعد ذلك عباس البليدي ومحمد عبد الوهاب ورياض السنباطي. لكنه سيحس بالمتعة الكاملة حين يسمعه بصوت سعاد محمد الذي أعاد توزيعَه توفيقُ الباشا. وكل الفرق بين هذه الأداءات المختلفة أن توفيق الباشا استخدم آلات جديدة وأسلوباً جديداً في الغناء دون أن يمس اللحن الأصلي أو مواطن ترديد آهاته. لكنه في النهاية أخرجه خلقاً جديداً مسايراً للعصر.وبعد عدة سنوات سنحتاج إلى إعادة توزيع جديدة لكي نستمر في استمتاعنا بهذا الدور الجميل. وكذلك معزوفات محمد عبدالوهاب وفريد الأطرش نسمعها اليوم على المسارح باستخدام آلات جديدة وبتوزيعات جديدة تحوِّر وتغيِّـر في اللحن الأصلي. وهي تغيـيرات وتحويرات طفيفة لكنها حاسمة لأنها تجعل هذه المعزوفات قادرة على التواصل مع المستمعين اليوم. وسوف نحتاج إلى مثل هذه التحويرات والتغييرات كل حين حتى لا تغيب هذه المعزوفات في طوايا النسيان وزوايا الإهمال.
أما المسرح فهو فن مقروء مسموع مرئي. وهذا أولُ جوانب تباينه عن بقية فنون القول ونقصُه عنها. ومع أنه فن مقروء كالملحمة والرواية والشعر، فإنه لا يتم ناجزاً حين كتابته على الإطلاق.
إن على الكاتب المسرحي أن يقدم أثراً أدبياً متكامل الأدوات الفنية باعتباره فناً مقروءاً. ولكنه يفعل ذلك تاركاً في استيفاء الجانب الفني فجوات لا يملؤها إلا الممثلُ وبقيةُ أعضاء فريق العمل المسرحي باعتبار ما كتبه فناً مرئياً. ولا يتجلى جمالُه الحقيقي واكتمالُه إلا إذا تحول إلى فن منطوق على اعتباره فناً مسموعاً. ولهذا، فإن المسرح لا يصبح عملاً ناجزاً بعد الانتهاء من كتابته كما تصبح الرواية والقصيدة بعد انتهاء كتابتهما أو كما تصبح اللوحة والمنحوتة بعد الانتهاء من رسمها أو نحتها. بل يصبح ناجزاً بتحويله إلى فن آخر يخضع لمؤثرات الرؤية والسماع. فيأخذ من اللوحة والمنحوتة سمات المنظور في ضرورة انسجام الألوان والخطوط والانحناءات. ويأخذ من القطعة الموسيقية ضرورةَ التأكيد على صحة أصواتِ الآلات الموسيقية العازفة وبراعةَ المغنين المؤدين حتى يبدو الكلام المنطوق مطرباً مريحاً للأذن كاملَ النفاذ إلى العقل.
وإذا كانت الرواية والملحمة والقصيدة تُقرأ في كل عصر فلا يضيف إليها القراء في العصور المتتالية شيئاً ولا يحورون منها حرفاً كما لا يضيف أحد إلى اللوحة والمنحوتة خطاً أو تعرجا، فإن المسرح، مثله مثل الموسيقى، يخضع لتطور فن الأداء المسرحي كما تخضع المقطوعة الموسيقية لتطور أدوات العزف وابتكار آلات جديدة واختفاء آلات قديمة. وكما يكون من السخف والضعف أن يغني المغنون اليوم كما كان المغنون يغنون بالأمس بالأدوات الموسيقية التي كانت بالأمس، فإن من السخف والضعف أن نقدم اليوم مسرحية بالأدوات والأساليب التي قُدمت بها أول مرة أو في المرات التالية لها. بل يجب أن يقدم كلُّ فريق مسرحي النصَّ المسرحي بأدوات فن الأداء المسرحي في عصره.
وبهذا الشكل يمكننا أن نتخيل الفروق الهائلة بين المسرح وبقية أنواع الأدب والفن التشكيلي. فهي إبداعات لن تضيف إليها العصور شيئاً لأنها ولدت مكتملة. أما المسرحية فيضيف إليها كلُّ عصر أشياء تجعلها تبدو كل مرة في مظهر جديد مغاير لمظهرها السابق. بل إنها تبدو في مظاهر متغايرة في العصر الواحد عندما يتناولها فريقان في يوم واحد من زمان، وفي موضع واحد من مكان. وإذا بها تترك من الإيحاءات والدلالات والإشارات معاني مختلفة وقد تكون متناقضة . وذلك على عكس فنون القول الأخرى وفنون التشكيل. فهي تعطي الإيحات والدلالات والإشارات ذاتها دائماً.
وهذه الإشارات والدلالات تمر عبر عقل المتلقي وقلبه فيسبغ عليها
ما يتخيله هو. لكن المسرحية لا تمر مباشرة من بين يدي الكاتب إليه كما يحدث في فنون القول الأخرى، بل تمر عبر عقول وقلوب أعضاء الفريق المسرحي الذين يحمِّلونها ما يشاؤون من أفكار ورؤى. ويؤثِّرون على المتلقي تأثيراً كبيراً إذ يفرضون عليه ما يرتؤون. فيقفون بينه وبين الكاتب فلا يسمحون أن يتصل الطرفان اتصالاً مباشراً على الإطلاق. فإذا أراد المتلقي أن يتصل بالكاتب اتصالاً مباشراً كما يفعل مع الرواية والقصيدة كان عليه أن يتحول إلى قارئ. وسوف يتمتع بقراءة (الأدب) وحده. وقد يجد لذة كبيرة في التمتع بجمال الأدب. لكن مخيلته لن تستطيع أن تشحذ سكين خياله على صفحات النص المسرحي. وسوف تقتصر متعته على ذلك الجانب الأدبي وحده. لكنها متعة قاصرة. وسوف تبدو لـه أعظمُ المسرحيات في هذه القراءة المنفردة أثراً عادياً مهما كان النص جميلاً. ولن تقدر أن تمنحه ما تتضمنه السطور المكتوبة من لهيب العواطف وتأجج الإثارة في فجائعية التراجيديا وسخرية الكوميديا ورهافة تصوير الدراما التي تتحقق في العرض المسرحي.
ثاني الفروق بين النص المسرحي وغيره من فنون الأدب أن هذه الفنون تُكتب للتأريخ. أما النص المسرحي فيُكتَب للمعايشة. وهو فرق نجده أيضاً بين الفن التشكيلي وبين الموسيقى.
والتأريخ هنا يأخذ معناه الواسع وهو القص أو الحكاية أو الوصف لحالة من حالات الإنسان الواقعية أو النفسية أو العاطفية. وهذا الاعتبار هو الذي يجعل الملحمة والرواية والقصيدة تحمل خصائصها التي تحدثنا عنها.
ولا شك أن كتاب هذه الفنون الأدبية لا يقصدون أبداً إلى هذا التأريخ الذي أشرنا إليه. بل يقصدون إلى التعبير عن عصرهم لأنهم شهوده. وتكون لهم أهداف فكرية تنصبُّ في عملية بناء مجتمعاتهم. لكنهم - وهم يغوصون في شؤون عصرهم حتى نخاع عظامهم - يكتبون آثارهم بالأسلوب التأريخي الذي أشرنا إليه. ولو رجعت إلى جميع الروايات والملاحم والقصائد في تاريخ البشر، لوجدتها تحمل رسالة فكرية قد يبذل الأدباء دماءهم دونها. ويخوضون معارك عصرهم الفكرية والاجتماعية فيتناقضون مع السائد فيه حيناً ويثورون عليه حيناً. وقد يكون هذا التناقض مع أخلاق العصر ومعتقداته وتركيبته الاجتماعية والاقتصادية. وقد تكون الثورة مجرد تمرد على الوسائل الفنية السائدة لتطويرها وإحلال أساليب فنية جديدة محلها. لكنهم يفعلون هذا وذاك من خلال أسلوب التأليف التأريخي. فالروائي يقدم حكاية يُفترض أنها مضت. ولذلك كان الفعل (كان) مفتاحاً لفن الرواية وإن كانت الرواية تجري أحداثها اليوم. حتى إذا كان الراوي يحكي حكايته الشخصية فإنه لا يكتبها إلا بعد افتراض انقضائها أو اكتمال وانقضاء تخيلها. فيكون الفعل (كنتُ) مفتاح روايته. وكذلك القصيدة. فإنها تحكي حكاية انقضت وإن كان انقضاؤها البارحة أو قبل ساعة أو قبل دقيقة. واستعمال الفعل الماضي هو مفتاح القصيدة. حتى إذا استعمل الشاعر الفعل المضارع أو فعل الاستقبال فإنهما لا يعنيان إلا الماضي. ذلك أنه يصف ما جرى أو ما شعر به البارحة أو العام الماضي أو اللحظة التي سبقت قول القصيدة. ولهذه التأريخية للرواية والقصيدة كان محرماً المساسُ بهما لأنهما تعبير عن حدث مضى وانقضى.
أما المسرحية فمكتوبة لتعرض حدثاً نعيشه الآن في اللحظة التي يتم العرض المسرحي فيها. فإذا عرضنا اليوم مسرحية (أوديب) أو (الملك لير) أو (رضا قيصر) أو (الزير سالم) أو (السندباد)، فإن المتلقي يشاهد الحكاية الموغلة قِدَماً في الآن وفي هذه اللحظة. وهو يعايش هذه الشخصيات كما لو أنها تجري أمامه الساعة. والمسرحية في هذا الشأن تشبه فن السينما وتختلف عنه اختلافاً كبيراً. فالسينما تعيد تجسيد الحكاية. أما المسرح فيحييها. والفاصل بينهما أن السينما آلة تدور وتعرض صورة مصنوعة. أما المسرح فيقدم أشخاصاً أحياء يقومون هذه اللحظة بتمثيل الحكاية وشخصياتِها التي قامت بها. ويتماهىالتمثيل إلى حالة التجسيد التي تبلغ ذروتها في اندماج الممثل بالشخصية وفي اندماج المتفرج بالممثل حتى تذوب الحدود بين الماضي والحاضر، وتتطابق اللحظةُ القديمة مع اللحظة الحاضرة. ودليل هذا التماهي الذي يبلغ ذروته في الاندماج أنه مايزال منتهى الإبداع المسرحي وذروةَ إتقان الفن كما هو ذروة التلقي. ودليل ذلك أيضاً أن الدعوات الكثيرة التي ظهرت في الأداء المسرحي للتخلص من هذا الاندماج ولإخراج المتلقي من هذا التماهي - ودعوة بريخت أهمها - لم تقل بإلغاء الاندماج أو التماهي بل قالت بكسرهما والخروج منهما في لحظات معينة من العرض المسرحي. فإذا تم الكسر والخروج عادت حالة المسرح إليهما.
مثل هذه الحالة نجدها أيضاً في الموسيقى. فالقطعة الموسيقية، غناء أو عزفاً، ليست إلا معايشة آنية حية بين الفنان وبين المتلقي تضع الطرفين في حالة من الاندماج والتماهي لا تختلف عن حالة المسرح. وهذا هو السر الدفين في أن أقصى تمتع بالموسيقى يكون في الحفلات الحية المباشرة وليس عبر تسجيلات الاستوديو. ولعل أعظم شاهد على حالة الاندماج والتماهي بين المتلقي وبين الموسيقى هو أم كلثوم. وهذه الحالة سر عظمتها. فقد حققت حفلاتها الشهرية تواصلاً بينها وبين الجمهور الذي كان يشاهدها أويسمعها عبر الإذاعة قلَّ نظيرُه في تاريخ الموسيقى العربية والأجنبية. ولم تستطع أغاني أفلامها أو أغاني أسطواناتها أن ترقى إليه. ومثل ذلك حصل ويحصل مع المغنين والفرق الموسيقية التي تؤدي عزفاً حياً مباشر التواصل مع المتلقين. ومن المؤكد أن الناس يطلبون حتى اليوم تسجيلات حفلات أم كلثوم وغيرها من المغنين والمغنيات ويجدونها أجمل من أغاني الأسطوانات وتسجيلات الاستوديوهات. ومع أن هذه الأغاني المسجلة تحقق أعلى مستوى فني في نقاوة الصوت ومهابة العزف مما لا يمكن أن ترقى إليه أية حفلة موسيقية عادية، فإن الناس يجدون في تسجيلات الحفلات ما لا يجدونه في الموسيقى المسجلة. وليس ذاك الذي يفتقدونه إلا المعايشةَ التي تخلق حالة الاندماج والتماهي اللذين يضعان المتلقي في الآنيَّة الحية للموسيقى. فكأنها معزوفة مكتوبة للمتلقي في هذه اللحظة التي يستمع إليها. وليست مكتوبة أو مؤداة من زمن طويل.
هذا الذي قلناه عن الموسيقى العربية ينطبق تماماً على موسيقى أية أمة من الأمم لأن الجذر الذي تستند إليه قاعدة التواصل هذه هي حالة الاندماج والتماهي في فن يلتقي مع جانبٍ من فن المسرح وهو أنه فن مسموع. ألا ترى الناس حتى اليوم يسعون إلى سماع السمفونيات في المسارح مع أنها مبذولة في الأسطوانات وأشرطة التسجيل؟ أ ليس هذا السعي لأن الأداء الموسيقي الحي لهذه السمفونيات يعيد خلقها للمتلقي نفسه في لحظة الأداء فكأنها كتبت وعزفت لـه في هذه اللحظة؟
NoUr kasem
NoUr kasem
مساعد المدير
مساعد المدير

عدد المساهمات : 1954
تاريخ التسجيل : 08/09/2009
العمر : 37
الموقع : دمشق . . فلسطينية الأصل

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات  Empty رد: النص المسرحي من الفكرة إلى بناء الشخصيات

مُساهمة  NoUr kasem الأحد يوليو 18, 2010 8:49 pm

- سمات النص المسرحي وتأثيره

مما تقدم نستخلص أول سمات النص المسرحي وهي (المعايشة) بالمعنى الذي شرحناه. لكن حالة المعايشة التي هي أخص خصائص المسرح والتي هي أعظم ميزاته، هي أيضاً صعوبته ومشكلته، والتي كانت السبب في افتقاد كثير من أعظم المسرحيات لأهميتها مع مرور الزمن على عكس بقية فنون الأدب والفن التشكيلي. فالملاحم والروايات والقصائد واللوحات والمنحوتات تحتفظ ببهائها وعظمتها مهما تطاولت عليها القرون. ويطالعها المتلقي كأنها كُتبت لـه اليوم في عصره هو وليس منذ بضعة أعوام أو بضعة قرون. ألا ترانا نقرأ (حرب وسلام)، مثلاً، بشغف وحرارة مع أن بيننا وبينها عدة عقود من السنين، وتجري أحداثها في بلد يبعد عنا مسافات شاسعة، وتدور حول حدث تاريخي مضى منذ قرنين؟ وما أعطاها هذه الميزة إلا أنها تأريخ لأشخاص وأحداث واقعية أو متخيلة. ونشعر بمثل هذه الحرارة في قراءة جميع القصص والروايات والملاحم. ونشعر بمثل ذلك أيضاً حين نشاهد اللوحات والمنحوتات. فهي تنقل إلينا سحرها لأنها (مؤرِّخة) لشخص أو منظر أو مكان (كان) موجوداً في عصر من العصور وفي بلد من البلدان. وسبب هذه المتعة الفائقة أننا نطالع ونشاهد تاريخاً يعطينا كامل ذاته بمجرد قراءته أومشاهدته. ولانقصد أبداً أن نتعايش معه في متطلبات عصرنا.
أما المعايشة التي هي الصفة الأولى للمسرح فتعني أنه فن يُطلب منه أن يتحدث عن مشاكل عصرنا وعن همومنا الفكرية والسياسية والاجتماعية والإنسانية بجلاءٍ واضحٍ لا مواربة فيه إلا مواربة الفن. ولذلك كانت (الآنيَّة) ثاني خصائص المسرح. والكاتب المسرحي لا يستطيع أبداً أن يهرب من مواجهة مشاكل عصره الآنية سواء كانت حكاية المسرحية معاصرة استمدها من وقائع الحاضر أم من أحداث الماضي. وحالة التماهي والاندماج لا تكتمل على الإطلاق إذا لم يشاهد المتفرجُ المتلقي ذاتَه وعصرَه ومشاكله وهواجسه على خشبة المسرح أمامه. وبمقدار ما يستطيع الكاتب - ومعه فريق العرض المسرحي - أن يقترب من هذه الآنية ويغوص فيها، يضمن لنفسه النجاح الكاسح.
إن هذه (الآنيَّة) ذات سطوة هائلة على الكاتب والمتلقي في آن واحد. ونادراً ما انتبه إليها النقد المسرحي إلا بعمومياتها دون الدخول في تفاصيل أهميتها. وهي التي تدفع الكاتب المسرحي، شاء أم أبى، إلى التقاط مفردات الحياة اليومية في عصره وهو يرسم الشخصيات ويسوق الحكاية بالأسلوب الذي يحبه الناس في عصره من خلال السائدة في بلده. ويحدثنا مؤرخو المسرح أن المسرحيات اليونانية فيها الكثير من الإشارات إلى حوادث وأمازيح كانت سائدة في عصر كتابتها. ولنأخذ هذا المشهد الطريف من مسرحية (الضفادع) لأروستوفانيس :
ديونيزوس : بينما كنت في السفينة أقرأ رواية أندروميدا، أحسست
فجأة بقلبي يشتعل برغبة كبيرة جداً جداً جداً.
هرقل: رغبة كبيرة؟ من أي حجم؟
ديونيزيوس: يعني كبيرة بدرجة معقولة. تقريباً من حجم مولون.
هرقل: رغبة في امرأة؟
ديونيزوس: لا.
هرقل: في غلام إذن؟
ديونيزوس: أبداً.
هرقل: إذن رغبة في كلايستين.
و(مولون) هذا ممثل تراجيدي أثيني كان هائل الحجم. و(كلايستين) كان فتى مخنثاً يأتيه الرجال.
وينقل إلينا مؤرخو المسرح أيضاً أن مسرحية النهضة الأوروبية نشأت في إنكلترا في حضن الكنيسة حين كانت نقابات المهن تقوم كل واحدة منها بتجسيد قصة من قصص الكتاب المقدس. وإذا بهذه النصوص التي تلتزم التزاما بالقصص الدينية القديمة تنسرب إليها مفردات الحياة اليومية الإنكليزية. وإذا بامرأة النبي نوح تتعامل بالجنيه والبنس والشيلن. وتتصرف مع أفراد عائلتها وجيرانها كما تتصرف المرأة الإنكليزية الشرسة . وما لنا نذهب بعيداً وبين أيدينا نصوص كتاب المسرح العربي والسوري التي إن رجعنا إليها - تاريخيةَ الموضوع كانت أم معاصرته - تقوم جميعُ تصرفات شخصياتها على مفردات تصرف الحياة اليومية العربية والسورية. فهل نطق جابر في مغامرة رأسه إلا بما ينطق به (الفلهوي) المعاصر لنا؟ ومثل ذلك ثابت ومثبوت في (السجين 95). فإنهما من سياسيي الوطن العربي في مفردات كلامهما وتصرفاتهما. وهي مفردات نجدها في (رضا قيصر) التاريخية الموضوع للكاتب علي عقلة عرسان نفسه. وحاوِلْ أن لا تجد مثل هذه المفردات اليومية في (أنتيجون) رياض عصمت أو في (خدامة) ممدوح عدوان فلن تستطيع إلا أن تجدها مادة الشخصيات ولحمة الحكاية. ويمكن القول إن سطوة (الآنيَّة) هذه هي السبب النهائي وراء التغيرات المتوالية التي تطرأ علىأصول فن الكتابة المسرحية. وهي التي يلهث النقاد وراء التقاطها. وإذا بهم يضعونها تحت اسم مذاهب أو اتجاهات أو مدارس مسرحية. وهي الأصول التي يلتزم بها الكتاب في المرحلة التي كتبوا فيها مسرحياتهم.
وهذه الآنية لا تنـزلق إلى النص المسرحي من مفردات الحياة اليومية المعاصرة فحسب، بل تمتد إلى جانب أخطر وأخفى هو ثقافة الأمة التي ينتمي إليها الكاتب مضافاً إليها ثقافةُ عصره ومفرداتُ هذا العصر الفكرية والسياسية. ولنراجِعْ مسرحيات شكسبير. فسوف نجد في كلام الشخصيات كثيراً من حكايات الأساطير اليونانية والرومانية القديمة. وسوف نعجب كل العجب إذا تذكرنا أن شكسبير كان كاتباً شعبياً جداً يتوجه إلى الشرائح الدنيا من المجتمع كما يتوجه إلى شرائحه العليا. ولشدة شعبيته كان المسرحيون (الجامعيون) يتقززون منه وينتقصون من مكانته التي لم يعترف بها الإنكليز إلا بعد أكثر من قرن على وفاته. ومع ذلك امتلأت مسرحياته بتلك الإشارات التي لا يستطيع فهمَها جمهورُ اليوم إلا إذا كان عالي الثقافة والمعرفة بإلياذة وأوديسة هوميروس وما تبعهما من الملاحم والأساطير القديمة. فها هو "السير فيرنون" يصف محارباً في مسرحية (الملك هنري الرابع) فيقول عنه:
رأيت هاري الشاب وخوذته على رأسه
ودرعه الواقي يغطيه حتى الفخذين مدججاً بالسلاح
يهب من على الأرض كأنه "ميركوريوس" المجنح([1]).
و"ميركوروس" هذا من آلهة الرومان. وكان رسول الآلهة ورب المسافرين. وفي (تاجر البندقية) يحاول "سالارينو" أن يستدرج صديقه أنطونيو للحديث عن سبب حزنه فيقول له:
وتقول إنك مرح لأنك لست حزيناً.
قسماً بجانوس ذي الرأسين لقد صورت الطبيعة
من بدء الخليقة أشخاصاً غريبي الأطوار([2]).
و(جانوس) هذا حارس بابي السماء كما مثلته الأساطير برأسين أو بوجهين يواجه كل واحد منهما باباً. وكان أحد وجهيه باسماً والثاني حزيناً.
ولا يكاد "سالارينو" يمضي في الحديث قليلاً مع صديقه حتى يصنف الناس إلى نوعين. فمنهم من يضحك بسهولة لأي سبب. ومنهم:
آخرون مكتئبون
حتى ليستحيل على شفاههم أن تنفرج عن
أسنانهم في محاولة للابتسام لدى سماع نكتة
وإن أقسم "نسطور" إنها جد مضحكة([3]).

و"نسطور" هو ملك بيلوس الشديد التزمت. وكان مشهوراً عند الإغريق بحكمته وحصافته.
ثم لا تمضي المسرحية إلى نهايتها حتى تكون قد استوفت من الأساطير القديمة قسطاً وافراً استوفى الكاتب مثله في بقية مسرحياته.
إن المثقف العالي المعرفة اليوم،سيجد ضيقاً من كثرة الإشارات إلى أمثال هذه الشخصيات والآلهة في حين كان جمهور شكسبير البسيط العادي يفهمها ويقبلها ويتمتع بها. بل إنه كان يتدخل في العرض ويصحح للممثل لفظه أو معلومته إن وجد فيها نقصاً.
مثل هذه الثقافة المعاصرة نجدها في جميع ما كتبه المسرحيون العرب. فلن تستطيع الإيغال إلى مسرح توفيق الحكيم إلا إذا كنت على دراية بنظرة الثقافة الشمولية التي كانت تستمد مصادرها من الغرب الحديث حين كان المفكرون العرب يجدون الاستفادة الكاملة من الغرب طريقاً نحو النهوض. ولن تستطيع فهم مسرحيات علي أحمد باكثير إلا إذا كنتَ على معرفة بالتوجهات التجديدية التي بثها في مصر جمال الدين الأفغاني وتلامذته والتي دفع أحمد عرابي ومحمود سامي البارودي ثمناً باهظاً بسبب الدعوة إليها في الفكر والشعر والسياسة. أما المسرحيات العربية في النصف الثاني من القرن العشرين فقد كانت الوجودية والماركسية والفرويدية حشوها ومنطلقاً فكرياً واسعاً لشخصياتها. ولن تستطيع التوغل في هذه المسرحيات لإدراك مرامي الكتاب منها إلا إذا كنت مطلعاً على هذه الفلسفات.
لكن هذه الآنيَّة لا تتحقق للنص المسرحي إلا إذا وُضِعت ضمن بوتقة العواطف الإنسانية الخالدة التي تقوم على صراعات محددة لم يخرج تاريخ المسرح عنها أبداً. وملخصها هو الصراع بين الخير والشر بمعناهما الواسع الطيف الذي يضم كل النوازع البشرية. وحينما يستطيع الكاتب وضع آنيَّة عصره ضمن ديمومة صراع نزعات البشر، فإنه يحقق لنفسه الخلود. فكأن الآنيَّة التي هي آفة فناء المسرح هي في الوقت نفسه جوهرته ودرته الثمينة. فإن المتلقي في كل عصر سوف يجد نوازعه وآلامه وصراعاته مع نفسه ومع نفوس الآخرين متجسدة أمامه في لحظة الاندماج التي تجعله يعيش ما يجيش في نفسه وحياته من عواطف حارة تؤرقه إن كانت معاناة مؤلمة، وتفتنه إن كانت حلماً يسعى إليه. وتدفعه، في كل الأحوال، إلى التفكير العنيف في واقعه الذي يحياه، وتدفعه إلى فعلٍ ما يساهم به في تغيير واقعه وحياته. وهذا يعني أن النص المسرحي يحوي عنصرين متلازمين لا ينفصلان في أي نص مسرحي وصل إلينا منذ ما يزيد عن ألفي عام حتى الآن. وهذان الجانبان هما آنيَّة الحدث بما فيها من مشاكل العصر، وخلود النـزعات الإنسانية.
وبذلك تكون (الديمومة) ثالث سمات النص المسرحي. لكنها ديمومة ليست منفصلة أبداً عن الآنية. وتلازم هاتين الصفتين في النص المسرحي جعلت لـه خصوصية عجيبة في تكوينه وأساليب تأليفه.
إن الآنيَّة هي التي تؤدي إلى سرعة التغيرات في أصول الكتابة كما شرحناها. لكنها ليست وحدها التي تحكم قواعد التأليف المسرحي. فإن ديمومة النـزعات الإنسانية فرضت على فن التأليف قواعد ثابتة لم تتغير ولن تتغير لأنها الوعاء الذي يضع فيه الكاتب آنيَّة عصره في خلود بقاء الإنسان وبقاء نوازعه الأساسية. وتتجلى هذه القواعد في (الصراع - تصاعد الحكاية درامياً - دقة بناء الشخصيات في تطورها عمودياً وأفقياً). وهذه القواعد نجدها راسخة في جميع المذاهب والاتجاهات والمدارس المسرحية وفي جميع الأشكال الكثيرة التنوع التي دخلها التأليف المسرحي. فكأن هذا الفن بيت ذو جدران قائمة ثابتة لا يمكن زحزحتها أو الاستغناء عن واحد منها. لكن شاغلي البيت يجددون أثاثه ومطابخه وطلاءه وتزيينه باستمرار. فلا يكاد ينتهي واحد من تصميم شكل للتزيين والطلاء وإضافة الأثاث حتى يسارع آخر إلى إزالة ما فعله سابقه ليضع تزييناً وطلاء وأثاثاً تناسبه. وهذه القواعد الثابتة هي التي وقفنا عندها في القسم الأول من هذا الكتاب.
والآنية تترك أثراً مرعباً على النص المسرحي. وهي أنه يصبح متخلفاً عن عصره بمجرد الانتهاء من كتابته. فالمشكلة أو القضية التي عالجها الكاتب أو الطموحات التي سعى إلى تصويرها ووصفها اليوم، سيحل محلها مشاكل وقضايا وطموحات جديدة بعد مدة قد لا تزيد عن سنوات قليلة. ولأن الكاتب مضطر أن يكون ضارياً في التصوير، فإن المجتمع البشري لا يكون إلا ضارياً في التغيير. فلا يكون أمام النص المسرحي إلا أن يصاب بآفة التخلف عن عصره شاء أم أبى.
ويزيد من التعجيل في تخلف النص المسرحي عن عصره أن الحكاية فيه ليست مقصودة بذاتها فحسب، بل وبمراميها أيضاً. وذلك على عكس الرواية والشعر.
فالحكاية في الرواية هي القصد الرئيسي فيها. ومهما ساهمت الرواية في الصراعات الفكرية ، وقدمت صورة للمجتمع في عصرها فإن غاياتها هذه ليست الهدف الذي من أجلها يقرؤها القارئ. لأن القارئ لا يبحث في الرواية عن أهدافها الفكرية في الدرجة الأولى، بل يبحث عن متعة القص وتشويق توالي الأحداث وسرد الوقائع قبل كل شيء. وهذا هو السبب في شيوعها بين الناس. وكثيراً ما تكون الرواية نوعاً من الاستراحة ومن الخلوة مع الذات في متابعة حكايتها. ومن هنا كان منها أنواع كثيرة تلبي كلها هذه الحاجة فقط دون أي هدف فكري ليس مطلوباً في الأصل من الرواية. من ذلك القصص البوليسية وقصص المغامرات و قصص الحب العنيف أو الهادئ. ومثل ذلك الشعر الذي نقرؤه ونحن في حالة من الاسترواح النفسي. وإذا كانت الغايات الفكرية في الشعر أوضح منها في الرواية ودافعةً إلى قراءته إذا التهب بخوض السياسة فإن تلك حالة استثنائية للشعر لا تخرج به في جميع الأحوال عن حالة الاسترواح النفسي.
أما الحكاية في المسرحية فليست، رغم أهميتها وأهمية بنائها المحكم ، هي المقصودة من قراءتها - وما أندر قراءتها - أو من مشاهدتها. بل الغاياتُ الفكرية والأهداف الاجتماعية هي التي يجب أن تبرز وأن تُقدَّم إلى قارئها أو مشاهدها جليةً واضحة. وهي المرتكز الأساسي الذي يقصده الكاتب ويسعى إليه المتفرج. وهي التي تحكم في نهاية المطاف على نجاح العمل المسرحي أو فشله.
لهذا كان (الهدف الأعلى) واحداً من أخص خصائص التأليف والعرض في المسرح لأنه غاية الغايات في العملية المسرحية كلها. وليس الهدف الأعلى إلا (الفكرة التي أمسك الكاتب القلم لإبرازها) كما يقول ستانسلافسكي، والتي يجب على الممثل والمخرج وجميع عناصر العرض المسرحي أن يبحثوا عنها ويبرزوها وإلا كان مجموع ما عملوه إلى بوار. وهذا الهدف الأعلى هو جوهر المعايشة والآنيَّة اللتين يقصدهما الكاتب ويقصد إليهما القارئ أو المتفرج. ولولا هذا الهدف الأعلى بتجلّيه في المعايشة والآنية لما دخل صالاتِ المسرح أحد. فإن المتفرج لا يذهب إلى المسرح لكي يتمتع بالحكاية في الدرجة الأولى . ويكفيه لهذه المتعة أن يقرأ الرواية في خلوة مع نفسه في بيته. بل يذهب إلى المسرح ليشارك الآخرين في متابعة قضية من قضايا عصره المؤرقة لـه كي يكوِّن لنفسه رأياً مشتركاً بينه وبين أقرانه من أبناء عصره في الدرجة الأولى. وليست الحكاية إلا سلما ووسيلة لهذه المشاركة. وهذا الرأي المشترك الذي يوحي به العرض المسرحي يشكل قوة اجتماعية وسياسية ضاغطة كثيراً ما خاف الساسةُ وأصحابُ الحكم منها. ولهذا السبب نرى المسرح أكثر الفنون الإبداعية تأثيراً في الناس وأشدها تعرضاً للمراقبة الصارمة الخائفة المخيفة، وأكثرها تعرضاً للتحول إلى مطية خانعة لهؤلاء الساسة وأصحاب الحكم. وإذا كانت الرواية قابلة للمصادرة من أجل فكرتها أو من أجل وصفٍ فيها، فإن ذلك لا يحدث معها إلا في الأمور الفكرية أو الاجتماعية الخطيرة. وهذه المصادرة للرواية لا تترك أثرها إلا عند فئة محدودة من الناس. أما العرض المسرحي الذي يساهم في تكوين رأي مشترك فيكفيه أن يتعرض لبعض الأمور الصغيرة حتى يتعرض للمصادرة. ولنا ما يجري مع المسرح والتلفزيون من تعرُّضٍ لأوضاع اجتماعية خيرُ دليل على ما نقول. فكثيراً ما يعرض التلفزيون في مسلسلاته نقداً سياسياً واجتماعياً قلَّ أن يتعرض المسرحُ لمثله. لكن السلطات لا تحاسب هذه المسلسلات إلا بمقدارٍ مع أن الملايين يشاهدونها لأنهم يعرفون أنه لا خطر فيها، ويعرفون أنها سوف تُضحك المواطنَ وتُفرِغُ شحنته السياسية والاجتماعية من غضبها إن كانت هذه الشحنة غاضبة. ولن يتعدى تأثيرُها حالة الضحك الفردي والغضب الفردي. أما إذا تعرض المسرح لبعضٍ من هذه القضايا فالويلُ والثبور لـه رغم أن مشاهديه قليلون. وسبب الويل لـه أنه يساعد على تكوين رأي مشترك قد يتحول إلى فعل جماعي. وهنا الخطر كل الخطر. فإذا صودر العرض المسرحي الجامح كانت المصادرة أشد خطراً لأنها تترك أثرها عند جموع كثيرة من الناس من مختلف الشرائح والانتماءات. وبسبب خطر هذا الرأي المشترك الذي يكوِّنه المسرح فإن رجاله هم الأكثر تعرضاً للمراقبة والمضايقة، وهم الأكثر عرضة للمساومة والشراء من قبل الساسة وأصحاب الحكم. وقد عرف تاريخ المسرح حالات كثيرة من النوعين.
إن السعي إلى تكوين الرأي المشترك حاجة ملحة عند المتلقين. ولذلك ترى المتفرج بعد الانتهاء من مشاهدة العرض يناقش الحاضرين في فكرة المسرحية وأهدافها. فإذا تطرق في الحديث إلى جمال العرض وإتقانه كان ذلك مدخلاً إلى تقييم الهدف الأعلى وصحة وصوله وأسلوب وصوله، وإلى رفض هذا الهدف أو قبولـه. وكثيراً ما يحلُّ المتفرجُ محلَّ العرض المسرحي في تصويب الهدف الأعلى وفي اقتراح تعديله. وكثيراً ما يغضب المتفرج إذا لم يتطابق الهدف الأعلى الذي قاله العرض مع الهدف الأعلى الذي كان ينشده منه. وهذا الغضب نوع آخر من التأثير الجماعي للعرض في نفوس الناس. ولعل أمتع لحظات العرض المسرحي - وقد لمست ذلك طوال ما يقرب من أربعين عاماً في عروض مسرحية سورية وعربية وأجنبية - هي التي تكون بعد انتهاء العرض وقبل الخروج من المسرح. ففي هذه اللحظات يلتقي الحاضرون في مجموعات صغيرة أو كبيرة. ويستعيدون ويناقشون الهدف الأعلى وأسلوب وصوله وإيصاله. وكل واحد منهم يحاول - من خلال آراء الآخرين - أن يستكمل جوانب الهدف الأعلى التي غابت عنه، أو يحاول أن يتثبت من صحة رأيه حولها. وكلما كان الهدف الأعلى عميقاً حساساً خطيراً يلامس هموم المجتمع، كانت الرغبة في مناقشته أكبر مهما كان العرض بسيطاً مفتقراً لتقنيات المسرح. وكلما كان الهدف الأعلى بسيطاً ثانوياً أو هامشياً، كانت الرغبة في مناقشته أقل مهما كان العرض محشوداً فيه التقنياتُ والمرغِّباتُ والمفاتنُ الجمالية. ولعل أوضح دليل على قيمة العرض المسرحي هو هذه التجمعات الصغيرة أو الكبيرة . فإن حدثت بعد الانتهاء من العرض واحتد النقاش فيها وطال أمدها، كان العرض قد ترك أثره وساهم في تكوين الرأي المشترك. والعكس بالعكس. وإذا حُرِم المتفرجُ من هذه اللحظات لسبب من الأسباب، أبدى تحسره عليها في عبارات تدل على أن شيئاً أساسياً من العملية المسرحية قد نقص. أما أكبر الدلالات على العرض المسرحي فهي حين ينصرف الناس بعد نهايته خائفين من الالتقاء في هذه المجموعات الصغيرة. فكأنهم اتفقوا على أن ما في المسرحية أخطر من أن يتم الحديث عنه علناً. وفي ذلك ما فيه من تكوين رأي مشترك صامت هو الغضب بعينه أو هو البينة على أن شيئاً ما غير صحيح يحدث في الواقع.
4- تأثُّـرُ النص المسرحي بسماتـه

إن الآنيَّة والمعايشة والأهداف العليا التي تترك أثرها الحاسم على المتلقين، تترك تأثيرها الحاسم على النص المسرحي نفسه. فبمقدار ما هي ميزته هي آفته . وهذه الآفة هي أن النص المسرحي يفقد الكثير من قيمته الأدبية والفنية والفكرية بعد ما لا يزيد عن عشرين عاماً من كتابته. فيصبح بعدها غير قابل للحياة على خشبة المسرح. ويتحول، أو يكاد، إلى أثر متحفي يحتلُّ كتابـُه المطبوع ركناً قصياً في المكتبة. ويتحول، بالتأكيد، إلى حالة الكمون التي ذكرناها. فلا يُعاد إليه إلا على سبيل النقد والتأريخ لمعرفة جوانب العصر الذي كُتِب فيه. ويعاد إليه، في أحسن الأحوال، بمتعة القراءة وحدها.
هذا هو القانون الذي يحكم فن كتابة المسرح. وعلى من يكتب المسرحية أن يدرك صرامة وقسوة هذا القانون. وإذا بدا هذا القانون غريباً ومجافياً للحقيقة الظاهرية، فإن تاريخ المسرح نفسه يؤكد صحة هذا القانون الذي يحمل في طياته حكم الإعدام للنصوص المسرحية.
إن أعظم المسرحيات في تاريخ العالم لم تعش بكامل بهائها وألقها وتواصلها مع الناس أكثر من عشرين عاماً ثم انتهت إلى انطواء. لكنها تعيش هذه الأعوام العشرين في حالة من الشيوع البهي الذي يجعلها شهاباً لامعاً يترك في الناس وفي المجتمع أثراً لا يمكن لأي فن أدبي آخر أن يترك مثله. وكثير منها ساهم في تغيير مفاهيم العصر ودفع المجتمع إلى الانتقال من حال إلى حال. فكان كتاب المسرح يقومون بما يقوم به الأنبياء والمصلحون وكبار القادة في قضم أسس المفاهيم السائدة لإحلال مفاهيم جديدة مكانها.
إن المسرح اليوناني الذي نعتبره أول مسرح كلاسيكي وأول ما أرسى أصول هذا الفن والذي استمد منه أرسطو كتابه (فن الشعر)،كانت نصوصه مدار الاحتفالات الدينية والشعبية عند اليونان. وكان الناس يحتشدون لمشاهدة عروضه في الساحات العامة. وكانت مسرحياته تتناول شؤون حروب اليونان وقوانينهم وآلهتهم. وتتحول - وهي احتفالات - إلى حلبة مناقشات لا تنتهي وإن انتهى بعضُها إلى جعل محاكمة سقراط فاجعة تجرَّع الفيلسوفُ المشّاءُ السمَّ بأمرها. ولعل المسرحيات اليونانية من أول الآثار الأدبية التي وضعت للدول القديمة فلسفة أنظمة الحكم وقيود سلطة الحاكم.
فإذا انتقلنا إلى العصر الإليزابيثي وجدنا عروضه المسرحية موطناً للنـزعات العنيفة التي نسمي مثلَها اليوم باليسارية. فقد أعلنت الحرب للتخلص من سلطة الكنيسة في مسرحيات (توماس كيد) صاحب مسرحية (التراجيديا الإسبانية)، وفي مسرحيات (بن جونسون) التي اتهمت بالإلحاد واليسارية وهو يفضح طبقة الحرفيين الجديدة (البرجوازية) التي كانت عماد حكم إليزابيث الأولى وخلفائها. وكانت عروض هذين وأمثالهما وعروض شكسبير نبراس الفترة التي يسميها النقاد الإنكليز (الفترة اليعقوبية) في بداية القرن السابع عشر، والتي حملت إعلاناً لثورة اجتماعية سرعان ما سيأتي (كرومويل) بعد عدة عقود من السنين ليحققها. فإذا انقضى عصر الملكة إليزابيث الذي كانت فيه هذه المسرحيات تشكل مع جمهورها حالة من الغليان والتمرد - والمدة كلها لا تزيد عن عشرين أو ثلاثين عاماً - تراخت مسرحيات شكسبير وأقرانه عن متناول الأيدي. وصارت العودة إليها أشبه بالعودة إلى آثار المتاحف. وإذا ظلت البشرية تجد فيها لذة في القراءة والمشاهدة، فإنها لم تعد تترك الأثر الضاري الذي كان لها أول مرة.
فإذا انتقلنا إلى الكلاسيكية الجديدة وجدنا موليير يجر عربته في طول فرنسا وعرضها يثير الضحكَ على النبالة الإقطاعية القديمة والسخريةَ من النبالة البرجوازية الجديدة. فيغضب منه نصف فرنسا ويرضى منه النصف الآخر. وكان على رأس الغاضبين الملك والحاشية والكنيسة التي حرَّمَتْ دفنه في ساحتها. وكان على رأس الراضين المفكرون وعامة الشعب الذين لا يلبثون بعد أقل من مـئـة عام أن يقطعوا رأس الملك تحت شفرة المقصلة. وفي الوقت نفسه كانت أنوار الكوميدي فرانسيز تشع بتقديم نصوص راسين وكورني. وكان تمجيدهما يأتي من سدة الملك المتربع على عرش فرنسا، إلى أبسط فلاح لأنهما كانا يحفران قبر الإقطاعيات القديمة لخلق ما يسمى الأمة الفرنسية في كتلة قومية واحدة بعد أن كانت أشتاتَ أقوام وانتماءات. وهذه الأمة التي أبرز خلْقَها هذان المؤلفان سوف تشكل أول جيش وطني في أوروبا دفاعاً عن الثورة الفرنسية التي قلبت المفاهيم في أواخر القرن الثامن عشر في أوروبا. وانسحب أثرُها على العالم كله في ميدان حقوق الإنسان وقانون نابليون. لكن هذه المدة الزاهية التي فارت وعنفت بمسرحيات هؤلاء الثلاثة لم تزد عن عشرين عاماً. ثم انطوت إلى صمت طويل. ولا يغرنك أن مسرحيات موليير وشكسبير وأقرانهما ظلت الشعوب تقدمها دهوراً طويلة. فهذا شأن سوف نعود إليه.
فإذا انتقلنا إلى القرن العشرين وجدنا مسرحيات ستراندبيرغ وبريخت وبيرانديللو وآرثر ميللر وتنيسي ويليامز وبيكيت ويونيسكوويوجين أونيل وجان أنوي وحفنة أخرى من الكتاب تنتقل من بلد إلى بلد ومن قارة إلى قارة. وكلها تسطع بأنوارها. وكلها تتأثر بها. وكلها تخاف منها. وكلها تسقُطُ فيها أفكارٌ نخرتها هذه المسرحيات لتحل محلها أفكار دافعت عنها هذه المسرحيات. ولا يمكن لأحد أن ينكر أن كتاب أواسط القرن العشرين في أوروبا وأمريكا، كانوا وقود الثورات الاجتماعية والسياسية كما كانوا وقود الثورات على أساليب فن كتابة الدراما. فإذا انقضى أقل من الأعوام العشرين التي كتبت فيها هذه المسرحيات - وهي تقع بين أربعينات القرن العشرين وستيناته - انطفأت أنوارها بمثل السرعة التي أشرقت بها.
فإذا انتقلنا إلى وطننا العربي وجدنا القانون الصارم نفسه بما فيه من إدهاش الرفعة وحكم الإعدام معاً.
لقد ملأت مسرحيات أحمد شوقي - وخاصة "مصرع كليوباترة"
و"مجنون ليلى" - صالات الوطن العربي في الثلث الأول من القرن العشرين. وبالعودة إلى تاريخ المسرح في كل قطر عربي نجد مسرحياته قد أعيد عرضها مرة بعد مرة. ووجد فيها الناس ما يلبي حاجاتهم الوطنية والاجتماعية والفنية. ثم خرجت هذه المسرحيات من حياة أضواء المسرح إلى حلقات البحث في الجامعات. ومثل ذلك حدث مع مسرحيات توفيق الحكيم في المدة نفسها وبعدها بقليل. فقد اصطفقت بها جنبات المسرح ووجد فيها الناس حياة وحركة وفعالية اجتماعية. وإذا بها بعد أقل من عشرين عاماً تنسحب من الحياة وتصبح مادة للنقد المسرحي الذي وصفها بأنها "ذهنية" تصلح للقراءة ولا تصلح للعمل المسرحي. ومازلت أعجب من سذاجة وصفاقة هذا الوصف لأنه يناقض رأي الجمهور العريض في الوطن العربي الذي وجدها غير ذلك في الأعوام العشرين التي ازدهت فيها هذه المسرحيات. ولو أتيح لك أن تعود إلى تاريخ المسرح السوري بين ثلاثينات القرن العشرين وأربعيناته، لوجدت عدداً من المسرحيات، سورية أو مصرية، لا تكاد تغادر خشبة المسرح في زخم جماهيري واسع يدل على مدى تأثره بها. من هذه المسرحيات
"صلاح الدين الأيوبي" و "خالد بن الوليد". ثم لم يعد أحد يذكر هذه المسرحيات التي بلغ من قوتها أن مسرحية "خالد بن الوليد" جعلت أهل حمص مثلاً، يخرجون في اليوم التالي لعرضها في مظاهرة حاشدة ضد الانتداب الفرنسي الذي قابلهم بإطلاق الرصاص والاعتقالات.
فإذا انتقلنا إلى الفترة التي نسميها اليوم "فترة الازدهار" في المسرح العربي - وهي فترة ستينات وسبعينات القرن العشرين - لوجدنا القاعدة الصارمة التي لا رحمة فيها تحكم جميع المسرحيات. فمن حياة إلى موت ومن توهج إلى انطفاء. ألم تلتهب خشبات المسرح في مصر بمسرحيات نعمان عاشور وألفريد فرج ومحمود دياب وميخائيل رومان وغيرهم من كتاب المسرح المصري؟ ألم تسافر هذه المسرحيات من بلد عربي إلى آخر في ائتلاق جعلها كواكبَ لامعةً تَشعُّ فناً وفكراً في أرجاء الوطن العربي؟ ألم تأتلق صالات العرض بمسرحيات علي عقلة عرسان وسعد الله ونوس ورياض عصمت ووليد إخلاصي وممدوح عدوان وبضعة نفر آخرين من كتاب المسرح السوري؟ ألم يصبح هؤلاءُ الكتاب وبضعةُ النفر الآخرين نجوماً لوامع في سماء المسرح؟ ألم يحركوا الضمائر والعقول؟ ألم يساهموا في تكوين أفكار الجيل الذي عاصرهم؟ ألم يُرسوا دعائمَ في فن المسرح بمقدار ما زرعوا من آراء سياسية واجتماعية في العقول في حين كانت مسرحياتهم تدوي على خشبات المسارح في سورية وغيرها من الدول العربية ويعاد عرضها مرة بعد مرة؟
بلى. لقد حدث هذا. لكن هذا الالتماع الذي شعَّ سريعاً حتى استطار، خبا فجأة بعد أقل من عشرين عاماً على بدء اللمع واشتعال اللهب. والطريف في الأمر أن أكثر هؤلاء الكتاب مازالوا أحياء. ولعلهم في أعماق نفوسهم يتساءلون عن السر فيما جرى لمسرحياتهم . ولعلهم يجدون جواب تساؤلاتهم إذا تذكروا قانون المسرح الصارم القاتل في الآنية والمعايشة والهدف الأعلى. فقد ارتفعوا بالآنيَّة والمعايشة. ثم تراجعت مكانتهم بسبب ولادة آنيَّة جديدة لم تعد نصوصهم تلبيها، واحتاج المسرح إلى معايشة لأوضاع جديدة وجدها الناس في غير نصوصهم.
ومثل ذلك جرى لكتاب المسرح العربي في الأقطار التي عرفت نشاطاً في التأليف المسرحي كتونس ولبنان والمغرب والجزائر والعراق. نذكر منهم، على سبيل المثال، مروان محفوظ وعز الدين المدني وعبد الكريم برشيد والطيب العلج والطيب الصديقي. فقد انحسرت مسرحياتهم بعد ارتفاع والتماع وهم مايزالون أحياء يتمتعون بمكانة عالية اليوم بناء على مكانة عالية كانت لهم بالأمس. فلا يكون منهم إلا اجترارُ المكانة السابقة والألم الحالي.
وما يصيب المسرح في هذا المجال يصيب الموسيقى ولكن بصورة أقل قسوة وأقل انحساراً وبعد زمن أطول بقليل. وإن عودة سريعة إلى الموسيقى العربية في القرن العشرين تكفينا دليلاً على ذلك. فقد ظهر في ثلثه الأول أصوات وألحان هزت القلوب والأسماع التي احتشدت حولها. فلم تمض عليها أعوام عشرون أو تزيد قليلاً حتى لم يبق منها إلا أشرطة كاسيت لا تمتد إليها الأيدي إلا على سبيل التذكار مع اعتراف الجميع بعظمتها وأهميتها. ولعل أوضح مثل على ما يصيب الموسيقى هو ما جرى مع أم كلثوم فريدة العصور ومعجزة القرون. فقد تربعت على عرش الغناء العربي طوال ما يزيد عن ثلاثين عاماً لا ينازعها فيه منازع. وكان المواطنون العرب على امتدادهم في قارتي آسيا وأفريقيا يسهرون ليلة الجمعة من كل شهر قرب المذياع فلا يغادرونه إلا لأمر عصيّ على التأجيل. وهذه سابقة لم يعرفها أحد في تاريخ الموسيقى. وكانت في هذه الأعوام تلبي حاجة الآنية والمعايشة الموسيقية في أجلى مظاهرها بحيث كان الذوق الموسيقي المنبثق عن حالة اجتماعية يتطابق تطابقاً تاماً مع نوع الفن الذي تؤديه. فلما انقضت الأعوام الثلاثون بدأ الذوق الموسيقي يتغير بتغير الحالة الاجتماعية. فظهرت أصوات جديدة أخذت تنتزع الناس من حول أم كلثوم. وإذا كانت ماتزال تتمتع بمكانة عالية في ميدان الغناء، فإنها لم تعد الكوكب الذي كان. ومثل ذلك حدث مع محمد عبد الوهاب موسيقار القرن العشرين. وحدث مع عدد من كبار الموسيقيين العرب مطربين وملحنين.
إن هذا الائتلاق الذي يتلوه انطفاء وهبوط، والذي أصاب المسرح والموسيقى لم يُصِب الرواية أو الشعر. فالروايات والقصائد العربية التي كتبت في الفترات التي ذكرناها ظلت على حالها من الأهمية والمكانة في ثبات واستقرار في حين كانت المسرحيات تولد وتحيا وتموت. وكانت الألحان والأصوات تزغرد حيناً من الزمن ثم تنطفئ.
5- الآثار الفكرية والجمالية لسمات النص المسرحي

إن سمات النص المسرحي في الآنيَّة والمعايشة والهدف الأعلى التي تؤدي إلى هذه الآفة القاتلة لـه بعد التماع وارتفاع، تجعل لـه ميزة خاصة به هي أنه واحد من أضرى أسلحة تطور المسرح نفسه وتجديده، ومن أرهف مناحي تطوير النقد المسرحي، ومن أبرع عوامل الارتقاء بالذائقة الجمالية عند الناس.
فلكي يحافظ الكاتب على الآنية والمعايشة والهدف الأعلى، يجد نفسه مضطراً لأن يفترع أسلوباً جديداً في فن كتابة المسرح. ويكون هذا الأسلوب معادلاً فنياً للواقع الاجتماعي والذوق الجمالي السائد في عصره. ودليل ذلك أن كتاب كل جيل يتخذون أصولاً واحدة في الكتابة رغم التمايزات الكبيرة بينهم في تجليات هذه الأصول. وهم، رغم اختلاف موضوعاتهم، يدافعون عن أهداف عليا واحدة تشكِّل المطالبَ الأساسية لمجتمعهم في عصرهم ذاك.
فإذا انقضت الأعوام العشرون - وقد تزيد أو تنقص قليلاً - وتراكم نتاج الكتاب في هذه الأعوام، بدأ النقد المسرحي باكتشاف هذه الأصول الواحدة عبر تراكم الاختلافات، ليخرج منها بأساليب واتجاهات تشكل بمجموعها المسارب الأساسية التي تمت كتابة النصوص المسرحية من خلالها.
وفي هذا التآلف والتتابع بين النص المسرحي ونقده يتطور فن التأليف وفن النقد.
فإن افتراع الكتاب لأساليب الكتابة بغية التعبير عن الآنيَّة والمعايشة والهدف الأعلى في العصر والمرحلة والمطالب الاجتماعية فيهما، يولِّد كلَّ محاولات التجريب في المسرح. ولسرعة التغييرات الاجتماعية التي تستتبع تغييرات في وسائل تعبير المسرح عنها، كان التأليف المسرحي حقلاً دائماً للابتكار والتجديد. ومن هنا كثرت محاولات التجريب التي إن أحصينا فيها أعلاماً بارزين، فإننا نعجز عن ملاحقتها جيمعاً.
و هذه المحاولات الكثيرة المتتالية في التجريب والتجديد كانت تخضُّ النقد المسرحي باستمرار وتطور لـه أدواته. فالنقد الذي يلهث وراء الحركات الجديدة لا يكاد يضع لكل حركة منها قواعدها لتصبح أصولَ أسلوب ما من أساليب التأليف، حتى تعصف به ريحُ موجة جديدة من أصول الكتابة يخترعها الكتاب. وينتج عن هذه العلاقة بين التأليف المسرحي والنقد أن النقد المسرحي لم يكن عالمياً إلا بمقدار، ولم يكن عاماً إلا بمقدار أقل.
فالآنية والمعايشة والهدف الأعلى تجعل الكاتب المسرحي يكتب نصه لهذا الجيل المعاصر لـه. وهو يستنفر من هذا الجيل الاهتمامَ والتأييدَ والالتفافَ حولـه. ولذلك وجب أن تكون قواعد تأليفه مناسبة لهذا الجيل نفسه الذي سيختلف عنه الجيلُ التالي بالتأكيد. فإذا أضفنا إلى ذلك أن النص المسرحي سوف يوضع فوق الخشبة المتوفرة لـه في عصره، وسوف يؤديه ممثلون لهم أفعالهم وإيماءاتهم ذات الدلالة الاجتماعية الخاصة بعصرهم، أدركنا مدى عمق المحلية في التأليف المسرحي. بل يمكن القول إن النص المسرحي الذي يكتبه ابن هذه المدينة من ذاك البلد في ذلك العصر، يختلف اختلافاً طفيفاً
-وعميقاً في الوقت نفسه - عن النص الذي يكتبه معاصره في المدينة الثانية أو في الريف المجاور. ولو رجعنا إلى نصوص كتابنا المسرحيين في دمشق وحلب وحمص وغيرها من المدن السورية لوجدنا بينهم هذا الفرق الطفيف الحاسم. ومثلُ هذه الفروق نجدها بين ابن القاهرة وبين القادم إليها. أو بين ابن بيروت وابن طرابلس أو ابن الريف القادم إليهما.
إن هذه (المحلية) البارزة الخفية في التأليف المسرحي تلعب دوراً أساسياً في النقد المسرحي لأنه يستند إليها إذا أراد أن يكون نقداً نافذاً صحيحاً. فإن تجاهلها، ندَّ عن الصحة والعمق والقدرة على استخلاص القواعد العامة للتأليف المسرحي المعاصر لـه. وإذا بهذه المحلية في التأليف تجعل النقد محلياً خاصاً بما كتبه كتاب جيله. ولهذا قلنا إن النقد لم يكن يوماً عالمياً لأن قواعده العامة محكومة بخصوصية البلد والعصر على عكس الرواية التي تؤثِّر المحليةُ في موضوعها لكن قواعد تأليفها عامة عالمية يسير الروائيون على هديها في العالم كله. فإذا تغيـرت هذه القواعد كان التغييـر عالمياً أيضاً. ولنا من الروايات الأجنبية والعربية على مختلف انتماءاتها وبلدانها شواهدُ على قواعد السرد الروائي التي يسيـر عليها جميع الكتاب ضمن المدرسة الواحدة التي تجاور مدارس أخرى دون أن تخرج هذه القواعدُ عن عموميتها وعالميتها.
وهذه المحلية تجعل النقد المسرحي أيضاً مقتصراً على جيل من أجيال كل أمة على عكس نقد الشعر الذي تصلح قواعده لأجيال الأمة المتطاولة عبر العصور. ولعل أوضح مثال على ذلك نقدُ الشعر العربي الذي يظل يدور في فلك قواعد معينة حكمته طوال قرون رغم كل التجديدات فيه. فظلت، مثلاً، علوم البلاغة والعروض وفصاحة الديباجة ومناسبة الألفاظ للمعاني واكتمال المعنى مع اكتمال البيت تحكم الشعر العربي كله. وكان يتطور ويتغيـر من خلالها دون المساس بها. فلما جاء الشعر العربي الحديث نقض بعضَ هذه القواعد وأضاف قواعد جديدة فكوَّن لنفسه خصائص معينة. وإذا بهذه الخصائص تصبح عامة للشعر العربي الحديث في الوطن العربي كله. فلم تكن أبداً محلية خاصة بقطر عربي دون آخر. وبالأحرى لم تكن خاصة بشعراء مدينة دون مدينة أخرى.
هل يعني ذلك أن النقد المسرحي المأخوذ عن أمم الغرب عبـر عصورها لا ينفعنا ولا يمكن به تطوير مسرحنا وأصول تأليفه؟ وهل يعني ذلك أن نقد المسرح السوري أو المصري أو اللبناني في جيل من الأجيال لا تنتفع به الأجيال الأخرى إلا على سبيل التأريخ لمرحلة أو بلد؟
الجواب لا. ومن يقول بهذا فقد جحد التأليفَ المسرحيَّ ونقدَه إرثَهما الثمين وحرمهما القدرة على التفاعل فيما بينهما وحرَّم عليهما الأصالة والتأصيل. فالنقد عالمي بقدر ما فيه من قواعد وقوانين عامة. وهو محلي بقدر ما فيه من خصوصية. ونحن العرب بنينا مسرحنا ونقده على ما نقلناه من تراث الغرب الأوروبي ونقده كما استفدنا من تراث الأدب الأجنبي ونقده وتأثرنا به لا في الرواية التي هي فن غربي في شكلها النهائي فحسب، بل وفي شعرنا العربي الذي يعده العرب ديوانهم العريق بنتاجه ونقده. وهذا الكتاب الذي بين يديك أيها القارئ الكريم يستند في مجمله إلى موروث النقد المسرحي العالمي والعربي. لكن الخصوصية في النقد تدعونا إلى أن نتناول التراث النقدي الأجنبي والعربي بحذر شديد يشبه حذرنا حينما نتعامل مع عبوة ناسفة. وعلينا أن نتعلم منه الأصول والقواعد الأساسية لفن التأليف. وأن نعرف كيف كتب المسرحيون الكبار مسرحياتهم في الشرق والغرب. لكن شرط ذلك أن لا نحكم على مسرحيات عصرنا من خلال القواعد والأصول التي وضعها غيرنا. وأن يكتشف نقدُنا لنفسه في كل مرحلة وسائل نقدية تخصه هو وتخص المسرحيات التي يدور حولها. وكم ترك تجاهلُ هذه القاعدة الصارمة من جهالاتٍ في النقد العربي ومن ضعفٍ وهزالٍ فيه. وغاية هذا الكتاب أن نُخضِع النقد المسرحي العربي لخصوصية التأليف المسرحي العربي في كل مرحلة من مراحله حتى نتجنب تلك الجهالات وذاك الضعف.
وهذه المحلية في التأليف المسرحي تلعب دوراً هاماً في تنمية الذائقة الجمالية عند الناس وفي الارتقاء بها في كل عصر. ودور المسرح في هذا المجال أكبر بكثير من دور بقية الفنون الإبداعية. ومفتاح ذلك هو النص المسرحي الذي يكتبه مؤلفُه واضعاً في اعتباره أنه سيتحول إلى فن مسموع منظور متحرك فيكون صورة جمالية مكتملة العناصر. الكلمة تقوم فيه بدور الأدب الجميل المهذِّب للنفوس والعقول. والتمثيل يقدم الأمثولةَ الأخلاقية والفكرية ووجهي الخير والشر في إطار جميل من الإتقان الفني. وتحتشد وراء الكلمة والحركة موسيقى نُطْقِ الكلام وعزفِ الآلات الموسيقية التي توغل في النفس لتشحذ جانبها العاطفي وارتعاشها الداخلي. وتتواشج في العرض ألوانٌ محوَّلةٌ إلى رسوم متحركٍ منها قسمٌ وثابتٍ منها قسمٌ. وتتعلق بالقسمين عينُ الناظر مدة ساعة أو تزيد. وهي مدة زمنية لا تحظى بمثلها أعظم لوحة أو منحوتة. وجميع هذه العناصر تتآلف لتشكل عند المتلقي منظوراً جمالياً ينغرس في نفوس أرتال من الناس قد لايكون أكثرهم من عشاق الأدب أو الفن التشكيلي. وتلك هي تربية الذائقة الجمالية. وذلك هو دور المسرح في حياة الشعوب. وهذه هي المكانة التي يحتلها المسرح في سلم عوامل التثقيف والتطوير. وذاك مقياس الحضارة عند أمة من الأمم. أكثيرٌ بعد ذلك أن يقال : أعطني مسرحاً أعطك شعباً عظيماً؟
ولا يمكن للنص المسرحي وما معه من عوامل العرض المسرحي أن يرتفع بالذائقة الجمالية عند الناس إلا إذا كان واعياً تماماً للجماليات الفنية السائدة في عصره في الفن التشكيلي وفي الموسيقى وفي الأدب عموماً وفي الشعر على الخصوص. ومن جماليات هذه الفنون جميعاً ينطلق الكاتب في بناء حكايته وتشييد حبكته ورسم شخصياته. فعليه أن يعرف قواعد الفصاحة العربية وأصولَ البيان الذي يشبه السحر أو هو السحر. وعليه أن يركب هذه القواعد الأدبية كما انتهت إليه في عصره. ألا ترى المؤلفين المسرحيين كانوا سجّاعين في القرن الماضي حين كان السجع مظهر الجمال في الأدب العربي؟ أ لم يسرفوا في إدخال الغناء حين كان الغناء سيد الفنون العربية جميعاً حتى يطوِّعوه لفنهم ويجعلوه جزءاً منه؟ أ لم يساهموا في طرد السجع والغناء من التأليف المسرحي إلا بمقدار ما يكون حلية تخضع لسيطرتهم؟ أ لم يتحولوا إلى اللغة السهلة البسيطة مع انتشار الصحافة ثم مع انتشار وسائل الاتصال الأخرى وإذا بهم يتحولون إلى سادة في فن الكلام؟
إن فن المسرح جماع الفنون. فإذا جمعها في يده بقبضة محكمة استطاع أن يرتقي بها كلها. فيترك على الشعر بصماته في أسلوب توجهه إلى الناس. ويوحي إلى الفن التشكيلي بطرائق في الرسم والنحت تقترب من ذائقة الناس الجمالية حتى يصبح فناً أصيلاً في الثقافة العربية. وهو أمر لم يتحقق لـه حتى الآن.
لكن المسرح يمكن أن يلعب دوراً مناقضاً لهذا الدور فيهبط بالأمم ويتدنى بذوقها الجمالي إن لم تكن نصوصه محكومة بقواعد التأليف المسرحي التي تستدعي الرقي بالتشكيل الفني للعرض المسرحي. فإذا تفلَّتت نصوصه من هذه القواعد تحولت بقية عناصر العرض المسرحي إلى لعبة شكلية تفلت منها مخاطبةُ القلب والعقل والإحساس، وبدت بقية الجماليات الأدبية والموسيقية والتشكيلية باهتة مهما أسرفت في تجميل نفسها. فكأنها الفتاة القبيحة التي تسرف في تزيين نفسها فما يزداد قبحُها إلا افتضاحاً.
ولا يقترب من المسرح في هذا الارتقاء بالذائقة الجمالية عند الناس إلا الشعر والموسيقى. فالشعر - وليس المقصود الشعر المسرحي - كان دائماً نشيدَ الشعوب وموطنَ جمالها ومصدرَ ثقافتها وعنوان رفعتها. وكل أمة كانت تحوطه بالتبجيل والتقدير. والعرب يعتبرون الشعر صنّاجتهم وديوانهم ومفتاح ارتقائهم حتى قال بعضهم (أدِّبوا أولادَكم يَـنْـبُلوا). والتأديب هنا هو التأدب بالشعر. والنُّبلُ هنا هو الجمع لفضائل الذوق والجمال والأخلاق. وقد كان الشعر يلعب أوسع الأدوار في هذا المجال حين كان يُنشَد في الساحات والمجامع الحافلة. فكأنه حالة مسرحية يجتمع فيها الناس ليستمعوا إلى الكلمة التي تحمل جماليات الكلام وتمنح الإنسان القدرة على تخيل الألوان والأشكال والأنغام.
وكذلك الموسيقى حين تكون حفلاً جمعياً مسرحياً يخاطب النصف الأعلى من الإنسان. فتسمو به بالشكل نفسه الذي يحققه العرض المسرحي المؤتلق ببراعة الأداء وعمق الكلمة. فإذا انحدر الشعر إلى التملق أو السخف أهمله تاريخ الأمم. وإذا انحدرت الموسيقى إلى مخاطبة النصف الأسفل من الجسد البشري، فقد صارت أمراً مخجلاً، ثم سرعان ما تغيب في زوايا النسيان.
6- موت النص المسرحي وحياته على الخشبة

هل نستنتج من كل ما سبق أن النص المسرحي يعيش كامل قدرته وتأثيره الطاغي في فترة كتابته وبين الجيل الذي كُتب لـه، فإذا انقضى عشرون أو ثلاثون عاماً على كتابته مات وانزوى إلى النسيان؟
الجواب : نعم ولا. وتاريخ المسرح يؤكد هذا الجواب.
لقد توصلنا إلى أن سمات النص المسرحي من المعايشة والآنية والهدف الأعلى تمنحه المحليةَ الحية الصاعقة التي تجعله يلتمع ويشعُّ في هذه المدة المحدودة. وهي التي تقضي عليه في نهايتها لحلول آنيَّةٍ جديدة في المجتمعات تحتاج إلى معايشة مغايرة بأهداف مغايرة.
وتأكد لدينا أن النص المسرحي وهو يغوص في محليته القاتلة لـه لا يعتمد إلا على النوازع والعواطف الإنسانية وهي تشتبك في صراعاتها

المخيفة التي كانت وماتزال وستبقى المحركَ الأساسي لهذه الدبّابة النشيطة التي تسمى الإنسان. وتلبس هذه العواطف حكاياتٍ شتى تُروى أمامه فيستكين لها بإصغاء متلهف حين يجدها أمثولاتٍ لحياته ونماذجَ من المآسي والأحزان والأفراح والآلام التي يعيشها ويحس بها بين أهله وجيرانه وقومه. فإذا سمع حكاية (الملك لير) الذي وزع مُلكه في قسمة ضيزى، فقد يتذكَّر كل مآسي وجرائم إرث الأموال والعقارات التي عرفها بين الإخوة الأشقاء الذين تعادوا حتى الاحتراب السافر من أجل ما ورثوه. وإذا شاهد سخرية موليير من برجوازيِّه النبيل أو من بخيله، فسوف يضحك وهو يتذكر كل محدثي النعمة و البخلاء الذين يراهم أنى التفت. وإذا شاهد (نورا) إبسن وهي تصفق الباب في وجه زوجها في بيتها الذي حولها إلى دمية، فسيجد حالة عنيفة من حالات الدفاع عن حقوق المواطنية. وكلُّ مجتمع ينخر فيه الفسادُ ويسعى إلى التخلص منه سوف يجد في (الأستاذ منتصر) نموذجا عن الفاسدين الصاعدين فيه دون أن يهبطوا كما صوره وليد إخلاصي في مسرحيته (كيف تصعد دون أن تهبط). وكل شعب محكوم بالاستبداد سوف يجد في (ملك) سعد الله ونوس نموذجا عن الاستبداد الواقع عليه. وكل الشعوب تحلم بالقضاء على الظلم كما حلُم (سندباد) رياض عصمت. ولا شك أن كل مجتمع يخاف مثقفوه وأدباؤه من السلطات وبطش الحكام كما خاف (بلاوتوس) علي عقلة عرسان وهو يطلب رضا قيصره في بلده.
إن جميع المسرحيات التي عرفها العالم تصلح حكاياتها لأن تكون أمثولات ونماذج عن الناس في عواطفهم وصراعاتهم في كل زمان ومكان. ولهذا كانت النصوص المسرحية قادرة على الوقوف فوق خشبة المسرح. فهي، بعد انتهاء مرحلتها، تأوي إلى المكتبة في كمون يشبه الموت فكأنها تموت وهي حية. ولهذا تحتاج لإبقائها فوق الخشبة إلى (إحياء).
وهذا (الإحياء) هو الفرق النهائي الكبير بين فن المسرح وفن الشعر والرواية. فهما يبقيان على قيد الحياة ولا يحتاجان إلا إلى قراءتهما ليعودا ناصعين نابضين بكامل قدراتهما الذاتية. أما النص المسرحي فيحتاج إلى إحياء لأنه كمن فمات.
وإحياؤه هو أن لا يعاد بالشكل الذي كُتب فيه بل يعاد بعد تعديله ونفخ روح العصر فيه. ونحب أن نؤكد هنا أن أي نص مسرحي لن يستطيع الوقوف على الخشبة مرة ثانية بالشكل الذي كتبه به كاتبه بعد انقضاء الأعوام العشرين التي قد تزيد قليلاً أو تنقص قليلاً. وكل محاولة لتقديمه بشكله الأصلي محكوم عليها بالفشل لأنه نص ميت. ولن تؤدي إلا إلى تقديم عمل مُتحفي لا حياة فيه. وقد تحرص بعض الشعوب على تقديم نصوص كتابها كما كتبوها أول مرة على سبيل تكريم ذكراهم أو للمحافظة على أبهتهم. لكن المحافظة على النص كما هو لن تخلق حالة التماهي والاندماج. لأن المحلية والآنية اللتين انقضى عصرهما ستقضيان علىالمعايشة التي تجعل المتفرج يتمثل نفسه وحياته معروضين أمامه عل
NoUr kasem
NoUr kasem
مساعد المدير
مساعد المدير

عدد المساهمات : 1954
تاريخ التسجيل : 08/09/2009
العمر : 37
الموقع : دمشق . . فلسطينية الأصل

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى