الفنون المسرحية و الموسيقى kHaLeD aHmad aLsAyEd
نتمنى لكم المتعة والفائدة

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

الفنون المسرحية و الموسيقى kHaLeD aHmad aLsAyEd
نتمنى لكم المتعة والفائدة
الفنون المسرحية و الموسيقى kHaLeD aHmad aLsAyEd
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
بحـث
 
 

نتائج البحث
 


Rechercher بحث متقدم

المواضيع الأخيرة
» لمحبي فن المسرح الجميل صدر اخيرا مسرحية " انا ارهابي "
قصص قصيرة لكتاب كبار  Emptyالسبت نوفمبر 30, 2013 5:57 am من طرف ايمن حسانين

» لقاء تليفزيونى للكاتب المسرحى / ايمن حسانين
قصص قصيرة لكتاب كبار  Emptyالإثنين نوفمبر 04, 2013 3:20 am من طرف ايمن حسانين

» أحلى عيد لأغلى مموشة
قصص قصيرة لكتاب كبار  Emptyالأحد ديسمبر 09, 2012 8:30 am من طرف FOX

» احترت في هذا العيد هل أعلن فرحي للمعايدة أم أعلن الحداد ؟!
قصص قصيرة لكتاب كبار  Emptyالإثنين نوفمبر 07, 2011 10:15 am من طرف NoUr kasem

» محمود درويش . . تكبر تكبر
قصص قصيرة لكتاب كبار  Emptyالخميس أكتوبر 27, 2011 8:56 am من طرف NoUr kasem

» المخلـــــــــــــــــــــص
قصص قصيرة لكتاب كبار  Emptyالأحد أكتوبر 23, 2011 7:11 am من طرف NoUr kasem

» عيوني هي التي قالت : وما دخلي أنا
قصص قصيرة لكتاب كبار  Emptyالجمعة أكتوبر 21, 2011 1:37 pm من طرف sanshi

» سيمفونية سقوط المطر
قصص قصيرة لكتاب كبار  Emptyالجمعة أكتوبر 21, 2011 8:42 am من طرف NoUr kasem

» مسلسل "أوراق مدير مدرسة" يعرض مشاكل الطلاب والأساتذة وصعوبات التدريس الحديث
قصص قصيرة لكتاب كبار  Emptyالجمعة أكتوبر 21, 2011 7:46 am من طرف NoUr kasem

التبادل الاعلاني
احداث منتدى مجاني

قصص قصيرة لكتاب كبار

4 مشترك

صفحة 1 من اصل 2 1, 2  الصفحة التالية

اذهب الى الأسفل

قصص قصيرة لكتاب كبار  Empty قصص قصيرة لكتاب كبار

مُساهمة  NoUr kasem الأربعاء يونيو 23, 2010 9:46 pm

لكل أحبائي الأعضاء والزوار الكرام بهالصفحة حبيت اني خصصها لمجموعة من قصص قصيرة لكبار الكتاب يلي كان في الن بصمة كتير مهمة بالتاريخ من خلال كتاباتن الرائعة .
وأكيد اذا أي حدى بحب انو يشاركني ويضيف معي مجموعة من القصص بهالصفحة اكيد ماعندي مانع أبدا

وبتمنى انو تنال هالقصص اعجابكم


NoUr kasem
NoUr kasem
مساعد المدير
مساعد المدير

عدد المساهمات : 1954
تاريخ التسجيل : 08/09/2009
العمر : 36
الموقع : دمشق . . فلسطينية الأصل

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصص قصيرة لكتاب كبار  Empty رد: قصص قصيرة لكتاب كبار

مُساهمة  NoUr kasem الأربعاء يونيو 23, 2010 9:48 pm

خورخي لويس بورخيوس



ترجمة / وليد سليمان ##


أنا حطاب، ولا يهم ما اسمي. يقع الكوخ الذي ولدت وسأموت فيه قريبا على تخوم الغابة. ويبدوا أن هذه الغابة تمتد حتى البحر الذي يحيط بالأرض التي توجد عليها بيوت خشبية مثل بيتي. لا أدري، فأنا لم أشاهد ذلك أبدا. كما لم أر أبد الطرف الآخر من الغابة. وقد جعلني أخي الأكبر أقسم معه، عندما كنا صغارا، على أن نقطع نحن الاثنين كل أشجار الغابة بحيث لا تبقى شجرة واحدة. ولكن أخي مات، وما أبحث عنه الآن وسأبحث عنه في المستقبل هو شيء آخر. باتجاه الغرب يسيل جدول أحسن الصيد فيه بيدي. وفي الغاب يوجد ذئاب، ولكنها لا تخيفني وفأسي لم تخني أبدا. لم أحص سنوات عمري، ولكني متيقن أنها كثيرة. الآن لا أكاد أرى شيئا بعيني. وفي القرية – التي لا شك أني سأضل الطريق اذا ما حاولت الذهاب إليها- اشتهرت بأني بخيل. ولكن أي ثروة يمكن أن يجمعها حطاب من الغاب؟
لقد تعودت أن أغلق باب بيتي بصخرة حتى لا تدخل الثلوج. وذات ظهيرة، سمعت خطوات متثاقلة تلاها طرق على الباب. ففتحته وسمحت لمجهول بالدخول. كان شيخا، طويل القامة، وملتفا في دثار بال. وعلى وجهه ارتسمت ندبة. كان يبدو أن تقدمه في السن قد منحه من السطوة أكثر مما أخذ منه من القوة. غير أني لاحظت أنه لا يستطيع المشي دون أن يستند إلى عكاز. وتبادلنا كلمات قليلة لم أعد أذكرها. ثم قال في نهاية الأمر:
“لا املك مسكنا وأنام حيثما استطعت. وإني قد ذرعت سكسونيا بأسرها”.
كانت هذه الكلمات تتناسب مع سنه، لقد كان أبي يتحدث دائما عن سكسونيا، والآن صار الناس يسمونها “انجلترا”.
كان لدي بعض الخبز والسمك. تغذينا في صمت، ثم بدأ المطر يهطل. فأعددت له سريرا من جلود الحيوانات على الأرض نفسها التي مات عليها أخي. وعند حلول الظلام نمنا.
كان النهار قد لاح عندما خرجنا من المنزل. لقد توقف المطر، وكانت الأرض مغطاة بثلوج جديدة. ترك الضيف عكازه يسقط وأمرني أن أحمله له.
قلت له: “لماذا علي أن أطيعك؟”
فأجاب: “لأني ملك.”
ظننته مجنونا. فالتقطت العصا وأعطيتها له. كان يتكلم بنبرة مختلفة.
- أنا ملك السكسونيين. لقد انتصروا مرات عديدة بفضلي في حروب طاحنة، ولكن شاءت الأقدار أن أفقد مملكتي. اسمي “ايسرن” وأنحدر من سلالة “أودين” .
أجبته:
- أنا لا أؤمن بأودين. إني أعبد المسيح. وتابع كما لو أنه لم يسمعني:
- إني أتسكع في المنافي ولكني مازلت الملك لأن القرص بحوزتي. أتريد ان تراه؟
وبسط كفه النحيلة. كانت يده فارغة ولا تحمل شيئا. ولم أتفطن إلا في تلك اللحظة إلى أنها كانت مضمومة دائما.
قال محدقا في:
- بإمكانك أن تلمسه.
لمست كفه بأطراف أصابعي مرتابا. فأحسست بشيء بارد، ولمحت بريقا. ثم انضمت اليد فجأة. لم أقل شيئا. وتابع هو حديثه بأناة وكأنه يكلم طفلا:
- إنه قرص “أودين”. وليس له إلا وجه واحد. ومادام موجودا في يدي سأبقى الملك.
سألته: هل هو من ذهب؟
- لا أدري. إنه قرص “أودين” وليس له إلا وجه واحد.
حينئذ زين لي الطمع امتلاك القرص. لو كان ملكا لي لاستطعت بيعه وشراء سبيكة من الذهب وصرت ملكا.
قلت للمتشرد الذي صرت أحقد عليه:
- في كوخي أخبئ صندوقا مليئا بالنقود الذهبية البراقة كالمشعل. فإذا اعطيتني قرص “أودين” منحتك الصندوق.
قال بعناد: لا اريد.
قلت: إذن، تستطيع أن تواصل طريقك. واستدار لي بظهره، فكانت ضربة فأس على رقبته أكثر من كافية لكي يترنح ويسقط. ولكن عند سقوطه فتح يده، ورأيت البريق يلتمع في الهواء. حينئذ، رسمت علامة دقيقة على المكان بفأسي. وسحبت الميت حتى الجدول الذي كان في حالة فيضان، ورميته فيه.


يتبع .....
NoUr kasem
NoUr kasem
مساعد المدير
مساعد المدير

عدد المساهمات : 1954
تاريخ التسجيل : 08/09/2009
العمر : 36
الموقع : دمشق . . فلسطينية الأصل

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصص قصيرة لكتاب كبار  Empty رد: قصص قصيرة لكتاب كبار

مُساهمة  NoUr kasem الجمعة يونيو 25, 2010 3:32 am

العودة


قصة لفرانز كافكا


ترجمة / طالب مصطفى ابراهيم


لقد عدت، وسرت داخل الممشى ونظرت من حولي. انه فناء ابي القديم. بركة الماء في الوسط. وجهاز قديم لا يصلح للاستعمال يعيق الطريق نحو السلالم. والقطه تموء بحنين في الخارج. وقطعة قماش ممزقه، تهزهزت ذات مرة على سارية في لعبة ما، ترتفع طائرتا في الريح.
لقد وصلت فمن سيستقبلني؟ من ينتظر خلف باب المطبخ؟ دخان ينبعث من المدخنه، والقهوة اعدت للعشاء. هل هو وطنك، وهل تشعر بانك في البيت؟ انا لا اعلم، انا غير متأكد. انه بيت ابي الا انه يشخص باهتا حجر جنب حجر، وكأن كل واحد مشغول بشؤونه الخاصه، التي نسيت اجزاءا منها، اجزاء لم اعرفها قط. بماذا استطيع مساعدتهم، ماذا اكون بالنسبة لهم او بالنسبة لابي ابن الريف القديم. ليست لدي الشجاعه لااطرق باب المطبخ. انا اصغي عن بعد فقط، فقط عن بعد اصغي واقفا، ليس هكذا، لا اريد ان اباغت كمتلصص. ولاني اصغي عن بعد، فاني لا اسمع شيئا، فقط اسمع دقة ساعه خفيفه او اني ربما سمعتها من ايام الطفوله. ماذا حدث في المطبخ عدا ذلك، هل هو سر الجالسين هناك، الذي يخفونه عني. كلما اطال المرء الوقوف امام الباب يصبح غريبا اكثر. ماذا سيكون لو فتح احدهم الباب الان وسألني. فاني سأبدو وكأني ليس بالشخص الذي يريد ان يحمي سره.
NoUr kasem
NoUr kasem
مساعد المدير
مساعد المدير

عدد المساهمات : 1954
تاريخ التسجيل : 08/09/2009
العمر : 36
الموقع : دمشق . . فلسطينية الأصل

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصص قصيرة لكتاب كبار  Empty رد: قصص قصيرة لكتاب كبار

مُساهمة  NoUr kasem الإثنين يونيو 28, 2010 1:58 am

الاثنين أو الثلاثاء


فرجينيا وولف

ترجمة / رقية كنعان #


بكسل ولا مبالاة، يهز الفضاء بسهولة من جناحيه، مدرك لطريقه، يعبر مالك الحزين فوق الكنيسة وتحت السماء، بيضاء وممتدة، متداخلة في ذاتها،إلى ما لانهاية، السماء تغطي وتكشف، تحرك وتبقي. بحيرة ؟ احذف منها الشواطئ بعيداً!
جبل؟ أوه، إن هذا مثالي – الشمس الذهبية على منحدراته، دون تلك الشلالات، نباتات السرخس أو الريش الأبيض إلى الأبد والأبد.
متطلع إلى الحقيقة، منتظر لها، بصعوبة بالغة تقطر منه بعض الكلمات، إلى الأبد تواق-(صرخة تبدأ إلى اليسار وأخرى إلى اليمين، الدواليب تطرق بانحراف، مجاميع السيارات تتكتل بتناقض) –إلى الأبد تواق– (ساعة الجدار تؤكد بحزم وباثنتي عشرة ضربة أنه منتصف النهار، الضوء عزل الموازين الذهبية، والأطفال احتشدوا)- إلى الأبد يتوق للحقيقة.
حمراء هي القبة، قطع النقود معلقة على الأشجار، الدخان يمتد كذيل من المداخن، نباح..صراخ.. وضجيج، "حديد للبيع " والحقيقة؟ تشع نحو نقطة أقدام الرجال والنساء، سوداء أو مغلفة بالذهب -(هذا الطقس الضبابي- سكر؟ لا ، شكرا لك – كومنولث المستقبل)- ضوء النار يندفع ويحيل الغرفة حمراء باستثناء الهيئات السود وعيونها المشرقة، بينما في الخارج وقفت سيارة فان تفرغ حمولتها، الآنسة ثنغمي تتناول الشاي جالسة إلى طاولتها وألواح الزجاج تصون معاطف الفراء
مختالاً كطاووس، ضوء أوراق الشجر ينحرف باتجاه الزوايا ينفخ عبر الدواليب مرشوشاً بالفضة، في البيت أو خارجه، متجمع، منقط، مبدد بمقاييس منفصلة، مقلوب إلى أعلى، أسفل، ممزق، غارق، مجمّع– والحقيقة ؟
الآن لإعادة التجمع بواسطة جانب النار على المربع الرخامي الأبيض. من الأعماق العاجية تنهض الكلمات ناثرة سوادها ، برعمها و نفاذها.
واقع الكتاب، في اللهب، في الدخان، في الشرارات اللحظية– أو الآن يسافر المربع الرخامي المتدل، المنارات في الأسفل والبحور الهندية، بينما الفضاء ينطلق أزرقاً والنجوم تتلألأ- حقيقة ؟ أو الآن راضية بالقرب؟

بكسل ولا مبالاة يعود مالك الحزين، السماء تخبئ نجومها ثم تعود وتكشفها.
NoUr kasem
NoUr kasem
مساعد المدير
مساعد المدير

عدد المساهمات : 1954
تاريخ التسجيل : 08/09/2009
العمر : 36
الموقع : دمشق . . فلسطينية الأصل

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصص قصيرة لكتاب كبار  Empty رد: قصص قصيرة لكتاب كبار

مُساهمة  NoUr kasem الخميس يوليو 01, 2010 11:40 am

أمام القانون
قصة: لكافكا



ترجمة:يوسف إسماعيل شغري #

أمام القانون, يقف بواب. جاء رجل من الريف إلى هذا البواب, و رجاه السماح له بالدخول إلىالقانون. لكن البواب قال: إنه لا يستطيع أن يمنحه السماح في هذه اللحظة. قلّب الرجل الأمر في نفسه, و سأل إذا يُسمَح لهُ بالدخول فيما بعد. "ذلك ممكن" قال البواب " ولكن ليس في هذه اللحظة" .‏
و لأن البوابة تنتصب مفتوحة كالعادة, و البواب خطا إلى جهة واحدة, زحف الرجل ليتلصص عبرالبوابة إلى الداخل. ضحك البواب الذي لحظهُ, و قال: " إذا كنت منجذباً إليه جداً, فقط حاول أن تدخل رغم " الفيتو " مني. لكن انتبه: أنا قوي. و أنا فقط الأقل قوة بين البوابين! فمن قاعة إلى قاعة هناك بواب بعد آخر. و كل واحد أكثر قوة من الذي قبله. فالبواب رهيب جداً لدرجة أنني لا أستطيع أن أتحمل النظر إليه !!".‏
هذه الصعوبات لم يتوقعها الرجل القادم من الريف. فالقانون, كما يعتقد ينبغي أن يكون بالتأكيد متاحاً في كل الأوقات لكل إنسان. و لكنه الآن بعد أن أخذ نظرة أقرب للبواب و لمعطفه ذي الفراء, بأنفه الكبير الحاد ّو لحيته التترية الطويلة السوداء الخفيفة, قرر أنه من الأفضل له أن ينتظر حتى يحصل على الإذن له بالدخول. أعطاه البواب كرسياً و تركهُ يجلس عند جانب واحد من الباب. و هناك جلس لأيام و سنوات!‏
و قد قام بمحاولات عديدة ليسمح له بالدخول حتى أقلق البواب بإلحاحه. كان البواب يقابله لفترة قصيرة مراراً و تكراراً فيسألهُ أسئلة عن بيته و أمور أخرى كثيرة. لكن الأسئلة كانت موضوعة بلا مبالاة, كما وضعها السادة العظماء, والتي كانت تنتهي بعبارة تقول: إنه " لا يستطيع الدخول بعد " و قد ضحّى الرجل الذي كان قد زود نفسه بأشياء عديدة لرحلته بكل ما يملك حتى الغالي منها ليرشو البواب. و قد قبل منه البواب كل شئ و لكن دائماً مع ملاحظة‏
" إنني آخذها فقط لأمنعك من التفكير أنك تجاوزت أي شئ!!"‏
وخلال السنوات العديدة, ثبّت الرجل انتباهه تقريباً باستمرار على البواب. لقد نسي البوابين الآخرين, و هذا البواب يبدو له العقبة الوحيدة التي تمنعه من الدخول إلىالقانون. فلعن حظهُ السيئ بجرأة و بصوت قوي في سنواته الأولى . ومع تقدمه في السن, صار يشكو لنفسه فقط . لقد أصبح صبيانياً بسبب تفكره وتأمله الطويل في أمر البواب حتى توصل أن يحصي حتى القمل في فراء قبة معطفه! صار يتوسل للقمل كذلك أن يساعده ليستطيع تغيير موقف البواب!‏
و بعد مدة طويلة بدأ بصره يخبو. و صار لا يعرف أن العالم صار فعلاً أكثر ظلاماً أو أنَّ عينيه كانت تخدعانه فقط !‏
و مع كل ذلك , و ضمن ظلامه, يهتمّ الآن بإشعاع يتدفق قوياً بحيث لا يمكن محوه من بوابة القانون. الآن, لم يبقَ له أن يعيش لمدة طويلة. و قبل أن يموت, راحت كل تجاربه وخبراته خلال هذه السنوات الطويلة تتجمع في رأسه كنقطة واحدة على شكل سؤال لم يسأله للبواب. لوّح للبواب أن يقترب منه أكثر لأنه لم يعد قادراً على رفع جسده الواهن المتألم. كان على البواب أن ينحني للأسفل تجاهه نظراً للفرق بالطول بينهما فقد تغيرالفرق كثيراً ليس لصالح الرجل. سأل البواب: " ماذا تريد أن تعرف؟"‏
قال الرجل: " أنت لا يمكن إرضاؤك فكل إنسان يجاهد للوصول للقانون. إذن كيف حدث أنه لكل هذه السنوات الطويلة الكثيرة لا أحد سواي أبداً قد رجا أن يسمح له بالدخول؟"‏
لاحظ البواب أن الرجل وصل لنهايته, وليترك حواسه المنهارة تلتقط الكلمات, زأر في أذنه:‏
" لاأحد يسمح له بالدخول هنا لأن البوابة كانت مبنية خصيصاً لكَ ! و الآن سوف أقوم ُ‏
بإغلاقها."‏

NoUr kasem
NoUr kasem
مساعد المدير
مساعد المدير

عدد المساهمات : 1954
تاريخ التسجيل : 08/09/2009
العمر : 36
الموقع : دمشق . . فلسطينية الأصل

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصص قصيرة لكتاب كبار  Empty رد: قصص قصيرة لكتاب كبار

مُساهمة  NoUr kasem الجمعة يوليو 02, 2010 11:13 am

بوليسلوف - قصة قصيرة
بقلم / مكسيم غوركي

ترجمة : زيد الشهيد

يوما ما حدثني صديق لي قال : كنت أواصل دراستي في موسكو ؛ متًخذا مسكناً صغيراً حيث كانت جارتي البولندية التي أسمها " تيريزا " فتاةً غربيةَ الأطوار . يمكنني وصفها بأنها طويلة القامة , قوية البنية . لها بشرة داكنة , وحواجب ثخينة , وملامح فضًة كما لو أن فأساً أحدث كل هذه الشروخ البارزة في وجهها .. عيناها غائمتان ؛ وصوتُها خشنٌ وعميق ؛ فيما تصرفاتُها تشبه سلوكيات رجلٍ صرفَ حياته في الشجارات والعراك الدائم . كانت ثقيلة الجسد ، ومظهرُها الخارجي يعرض قبحاً مخيفاً . تسكن غرفةً تقابل غرفتي في الطابق العلوي من البناية التي نسكنها ، لذلك غالباً ما ألتقيها عند السلَّم أو في الفناء . ترميني بابتسامةٍ تغلّفها السخرية ، وغالباً ما أبصرُها عائدةً إلى البيت بعينين حمراوين وشعرٍ يتخلّى عن انتظامه . وقد نتواجه فتروح تحدّق بي ثم تهتف : " مُرحِباً : أيها الطالب ! " .

ضحكتُها تبعثُ على الاشمئزاز ، لذلك قررتُ تغيير غرفتي تجنباً لرؤيتِها .. وفعلاً حظيت بمكانٍ أشعرني بالارتياح خصوصاً وثمَّةَ نافذةٌ أستطيعُ من خلالِها ملاحظة المدينةِ بشوارعِها المنفتحة الهادئة . وكثيراً ما جلستُ طويلاً أتشبّعُ بالمشاهدة وأنهلُ من الهدوء .في أحدى الصباحات : وبعد أن انتهيت من ارتداءِ ملابسي وارتميتُ على السرير فُتحت الباب فجأةً فإذا بـ تيريزا " تقف عند العتبة :
- مرحباً أيها الطالب !.. قالتها بنبرتها الخشنة المعهودة .
- ماذا تريدين ؟! . سألتها مستغرباً .
حين أمعنتُ النظر رأيتها بوجهٍ اكتسى تعابيرَ مرتبكة وخجولة لم أبصرها فيه من قبل .
- أيها الطالب !.. قالت وأكملت : " أريد أن أسألك معروفاً وأرجو أن لا ترفضه " .
لم أقل شيئاً إنَّما هي التي استمرت : " أريدك أن تكتب لي رسالة إلى أهلي !" .
" ماذا تبغي هذه الفتاة برب السماء ؟!.. قلتُ مع نفسي . قفزتُ من على السرير متخذاً مجلسي عند المنضدة ساحباً ورقةً ومقرّباً قنينة الحبر .قلتُ :
- تعالي : اجلسي وأملي عليّ ما تودّين .
دخلت جالسةً باحتراس ، ُمطلِقةً نظرةً حادّة باتجاه عيني .
- حسناً .. لمن أوجّه الكلام ؟
- إلى " بوليسلوف كاشبوت " الذي يقطن في سوينزياني " قريباً من محطة قطارات وارشو .
- وماذا تطلبين أن أكتب له ؟ .. هيّا ! قولي .
- عزيزي بولص .. حبيب قلبي .. حبّي .. روحي . إلهي يحفظك من كلِّ مكروه ... عزيزي لماذا لم تكتب لحمامِتكَ الصغيرة الوديعة منذ زمن بعيد ؟ . لماذا لا تكتب لتيريزا التي تشعر بحزن عميق ؟! بصعوبة بالغة تمالكتُ نفسي من الضَّحك .. " أهذه حمامة ؟! .. أهذه التي طولها ستة أقدام ، ذات القبضة القوية والوجه الحاد والعافية الكاملة والتي تشبه مخلوقة صرفت عمرَها تكنس سخام المواقد الشتوية يمكن اعتبارها حمامة وديعة وصغيرة ؟! " ..
ضبطتُ نفسي ، واحتفظتُ برباطة جأشي . ورحتُ أسألها :
- من هو بوليسلوف ؟
- بولص : يا سيدي !" .. رددّت الاسم بإعجابٍ كما لو كان من المستحيل نكران مَن يكون بوليسلوف هذا .
- سأتزوج بولص .
- تتزوّجيه ؟!
- ولماذا أنت مندهش ! أيها الطالب ؟ ألا يمكن لشابة مثلي امتلاك حبيب ؟
- شابة ؟! .. أيةُ نكتة ! .. ولكن ربّما .. قد يحدث ذلك . كل شيْ جائز .. منذ متى وأنتما مخطوبان ؟ .
- منذ عشرة أعوام .
نعم .. كتبتُ الرسالة مليئة بعبارات الحب والوله واللطف كما لو كنت أتمنى أن أكون أنا بوليسلوف ، ومن أية فتاة تردني هذه العبارات ، إلاّ تيريزا .
- شكراً لك من قلبي أيها الطالب .
كانت بالغة التأثر ، فسألتني ردّاً للجميل :
- هل تطلب مني خدمة أؤديها لك ؟
- لا : شكراً .
- أستطيع إصلاح قميصك أو أي من ملابسك أيها الطالب . كان هذا ما يزعجني أحياناً . ومع ذلك شكرتها قائلاً : لا أحتاج .
في إحدى المساءات وكان قد مرّ أسبوعان على كتابة الرسالة كنتُ جالساً عند النافذة أصفِّرُ وأتركُ لعيني التجوال تسليةً ، مفضلاً عدم الخروج بسبب رداءة الجو عندما فُتحت الباب بغتةً .لقد كانت تيريزا !

- أيها الطالب . أرجو أن لا تكون منشغلاً .. حسناً :لا أرى أحداً عندك.
- لماذا ؟
- أريدك أن تكتب لي رسالة .
- إلى بولص ؟
- كلا .. أريدك أن تكتب ردّهُ .
- ماذا ؟ . . صرختُ مندهشاً .
- اعذرني ، أيها الطالب . أنا غبية . لم أعبر عن نفسي بصورة واضحة . رسالة ليست لي بل لواحدة من صديقاتي .. فهي لا تعرف الكتابة ، ولها حبيب مثلي .
- أتطلعُ فيها فأحصد خجلاً يغمر وجهها ، وارتعاش كفّيها يفضحان كذبة لم تُصدق .
- اسمعي أيتها الفتاة . كل ما قلتيه عنك وعن بوليسلوف كان خيالاً مَحظاً .، وأنت تكذبين . إنهُ ليس إلا عذراً للحضور إلى هنا . لا أريدك أن تلعبي مثل هذه الأفعال مرّة أخرى ... أفهمت ؟

رأيتُ الخوفَ يكتسحها .. إحمرّت خجلاً . أرادت أن تقول شيئاً لكنها عجزت ، حتّى أنني شعرتُ باضطهادها . لا بدّ أنْ ما دفعها لفعلِ ذلك ! ولكن ما هو ؟!

- " أيها الطالب .. " توقفت لتقول شيئاً ، لكنّها بلمحةٍ مباغتة استدارت خارجةً من الغرفة .
مكثتُ مكاني وفي قلبي مشاعر واحتدامات ضاغطة . سمعتها تغلق الباب بعنف ما أشعرني بأنها خرجت غاضبة . لذلك صممّت على دعوتها للعودة شاعراً بالأسف ومقرراً كتابة الرسالة ,خطوت صوب غرفتها . لمحتها جالسة عند منضدتها وقد رمت بوجهها بين كفّيها .
- يا فتاتي ، أنتِ ..
عندما أصل إلى هذا القدرِ من القص أشعرُ دائماً بأسىً عميق .قفزَت من مكانها ؛ ومباشرةً توجَّهت إليَّ بعينين مشرقتين ، واضعةً ذراعيها على كتفي . ثم شرعت تنشج باكية كما لو أنَّ قلبها يتفطَّر .
- ما الاختلاف إن ... إن كتبتَ .. أسطر .. قليلة ؟ آ .. أنتَ تبدو شاباً مرغوباً فيه !.. نعم ، لا يوجد ثمّة بوليسلوف ... وليست هناك تيريزا ! هنالك أنا فقط .. أنا وحيدة .
- ماذا ؟! هتفتُ مصعوقاً بكلماتها : " لا يوجد بولص مطلقاً " .
- لا ..
- ولا تيريزا ؟! .
- لا .. أنا هي تيريزا .
تطلعتُ إليها مذهولاً " أحدنا هو المجنون " ..
عادت إلى منضدتها . استخرجَت قطعة ورق : هنا ! " قالت " هذا ما وردني .. هنا ! .. خذ هذه الرسالة التي كتبتها لي . الناس الآخرون ذوو القلوب الرحيمة ستكتب لي بدَلك ." أمسكتُ الرسالة التي كتبتها لبوليسلوف المُتخيّل :
- اسمعي تيريزا . لماذا كل هذا ؟ لماذا تريدين الناس أن يكتبوا لكِ بينما أنتِ لم تبعثي الرسالةَ هذه ؟
- لمَن سأبعثها ؟
لم أدري ما أقول .. كل ما فعلته هو أنّي تحركتُ خارجاً . لكنَّها انطلقت تفوه :
- لا يوجد بوليسلوف . أنا خلقته وأردته أن يعيش . أدري أنني ليست كمثل الآخرين . أعرف أنني لا أتسبب بأذى أحد لو أنا كتبتُ إليه .
- ماذا تقصدين بقولكِ " إليه " ؟ .
- إلى بوليسلوف طبعاً ؟
- لكنكِ تقولين لا يوجد شخصٌ بهذا الاسم !
- نعم .. وما الضرر في عدم وجوده .. أكتب إليه كأنَّه رجلّ حقيقي . وهو أيضاً يردُّ عليَّ . أكتب له مرة أخرى ، ومّرة أخرى هو يرد .

وأخيراً فهمتُ . لقد أحسستُ بالذنبِ والخجلِ وبصدمةٍ مثلَ طعنةِ ألمٍٍٍ . آآ .. إلى جانبي تسكنُ إنسانةٌ فقيرة ليس لها ما يقابلُها من روح تبثُّه العواطفَ وتُظهِر له الخلجات .. لا أبوان لها ، لا أصدقاء . لذلك اخترعت لنفسها رجلاً تبثه خلجاتها .

استمرَّت تخاطبني بأسىً عميق : " الرسالةُ هذهِ التي كتبتها لي لتصل إلى بوليسلوف طلبت ُ من شخصٍ آخر يقرأها لي وبصوت عالِ . استمعتُ وتخيلتُ أن بوليسلوف رجلٌ يحيا في هذا العالم . ثم طلبتُ إجابةً من بولص إلى حبيبته تيريزا .. إلي . هكذا أشعرُ أن ثمة بوليسلوف يحيا في مكان ما . لا أعرف أين . وهكذا أستطيع التواصل في الحياة فتصبح عندي أقلَّ صعوبةٍ ، أقلَّ فضاعةٍ . وأقلَّ حدّة " .منذ ذلك اليوم وأنا أكتب الرسائل . اكتبها مرتين في الأسبوع . رسائل مرسلة من تيريزا إلى بوليسلوف ؛ وأخرى من بوليسلوف إلى تيريزا .

أقول كلماتي المليئة بالعاطفة ؛ وبالأخص الردود ، وهي تصغي إلى القراءة باكية ، ضاحكة ؛ ولكن سعيدة . وفي المقابل صارت تعتني بملابسي . ترتِّق قمصاني وجواربي ، وتنظف حذائي ، وتمسح قبعتي وتفرّشها .بعد ثلاثة أشهر ألقي القبض عليها بشبهةٍ فأودعت السجن . ولم أرها بعد ذلك .لا بدَّ أنها ماتت .
NoUr kasem
NoUr kasem
مساعد المدير
مساعد المدير

عدد المساهمات : 1954
تاريخ التسجيل : 08/09/2009
العمر : 36
الموقع : دمشق . . فلسطينية الأصل

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصص قصيرة لكتاب كبار  Empty رد: قصص قصيرة لكتاب كبار

مُساهمة  NoUr kasem الأحد يوليو 04, 2010 11:34 am

النحات والأطفال


إدواردو غاليانو



ترجمة / وليد سليمان



أتناول العشاء مع نيكول وأدوم. تتحدث نيكول عن نحات من معارفها، موهوب جدا ومشهور. يشتغل النحات في مرسم شاسع، ويحيط به أطفال. فكل أطفال الحي أصدقاء له.
في أحد الأيام كلفته المحافظة بنحت حصان كبير ليوضع في إحدى ساحات المدينة. وأحضرت شاحنة كتلة الغرانيت الضخمة إلى المرسم وشرع النحات في نحته بالمطرقة والأزميل، معتليا سلما. وكان الأطفال ينظرون إليه وهو يعمل.
ثم ذهب الأطفال في عطلة، بعضهم إلى الجبال، وبعضهم إلى البحر. وعند عودتهم، أراهم النحات الحصان الذي انتهى من نحته. فسأله أحد الأطفال بعينين مفتوحتين على أشدهما:
- لكن.. كيف عرفت أن داخل تلك الصخرة كان يوجد حصان؟
NoUr kasem
NoUr kasem
مساعد المدير
مساعد المدير

عدد المساهمات : 1954
تاريخ التسجيل : 08/09/2009
العمر : 36
الموقع : دمشق . . فلسطينية الأصل

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصص قصيرة لكتاب كبار  Empty رد: قصص قصيرة لكتاب كبار

مُساهمة  NoUr kasem الثلاثاء يوليو 06, 2010 8:57 am

أفْيلين

قصة لجيمس جويس
#

ترجمة / ناظم مزهر ##

جلَسَتْ عِنْدَ النافذة تراقب المساء وهو يغمر الشارع ، تميل رأسها على الستائر وتتنافذ إلى أنفها رائحة قماش مُغْبَر . كانت مُتْعَبَة .قليلون هُم المارَّة الذين اجتازوا الشارع ، والرَجُل الذي خرج من آخر منزل قَدْ مرَّ هو الآخر في طريق عودته وهي تسمع وقعَ خُطاه تطب على إسمنت الرصيف مبتعداً ، ثُمَّ وهو ينعطف مستديراً نحو الممشى الحجري أمام تلك البيوت الحمر حديثة البناء حيث الساحة التي اعتادوا اللعب فيها مساءً مع بقية الأطفال . حَتَّى جاء ذات يوم رَجُلٌ من بلفاست ليشتري الأرض وينشيء عليها تلك البيوت التي بزهو ألوانها وسقوفها المتناسقة لَمْ تَكُنْ تشبه بيوتهم الصغيرة باهتة الألوان . اعتاد جميع الصبيّة أن يلعبوا في تلك الساحة منهم أولاد "آل ديفن " وبنات " " آل ويتر " و" آل دون " وكذلك الولد الأعرج " كيو " الصغير وهي مع أخوتها وأخواتها ما عدا شقيقها الأكبر " إيرنست " لم يشاركهم اللعب أبداً و غالباً ما كان والدها يطاردهم بعصاه حين يجدهم في تلك الساحة ، وكان " كيو" الأعرج الصغير يقوم بدور الراصد الذي يعلِمَهَم حال رؤيته لوالدها مقبلاً . أيام كانوا سعداء فيها إذ لَمْ يَكُنْ الوالد فظَّاً عِنْدَما كانت أمها على قيد الحياة . تلك أيام مضت وكَبُرَ الجميع ، تُوفِيَّت الأم وكذلك "تايزي دون" جَارهم العَتيد وانْتقل "آل ويتر "عائدين إلى إنكلترا هكذا تَشتَّت الشَمل وهاهي أفيلين هي الأُخرى تروم الرحيل كالآخرين لتودِّعَ هذا البيت رُبَّما إلى الأبَد .
" البيت ! " وطفقت أنظارها تجول بَيْنَ آثاث الغرفة التي واكبت حياتها ونفَضَت عنها الغبار طيلة سنين ، ربَّما لَنْ ترى بعد اليوم كل هذه الأشياء التي تآلفت معها ولم يخطر على بالها يوماً أنها ستفارقها ، هذه صورة القِس باهتة اللون على الجدار ، هو ذا الأرغن المكسور مُعلَّقٌ هو الآخر إلى جانب صورة ملونة للقديسة " مارغريت ماري " . ذلك القِس الذي لَم تعرف إسمه إلى الآن كان صديقاً لوالدها أيام الدراسة إذ مافتيء والدها ، كُلَّما ، زارهم ضيف ، يشير إلى الصورة ويقول دون أن يسأله أحد :
" إنه في ملبورن الآن ".
لقد رَضيت بنصيبها و بتوديع هذا البيت فَهَلْ مِن الحكمة أن ترضى بذلك ؟ حاولت أن تزن في عقلها هذه المسألة بوضوح ، مهما يَكُنْ الحال ففي هذا البيت سترها ومعيلها ومن حوله كل معارفها وأصدقائها ، وليس ما تواجهه مِن مشقة العمل في البيت أو في الوظيفة لهو أمر عادي . ما الذي سيقوله زملاء عملها في المتجر لو عرفوا بمسالة هروبها مع صديق عابر ؟ ربما يصفها البعض بالطيش ، حينذاك ستحل محلها فتاة أُخرى عن طريق إعلان الوظائف الشاغرة ، وستفرح الآنسة " كافان " بهذا كثيراً فهي تستفزها دائماً خصوصاً عِنْدَما يصادف تواجد بعض الزبائن الذين يسترقون السمع :
" أفيلين ألا ترين أن السيدات قد طال انتظارهن؟ "
" أفيلين أسرعي مِن فضلك ! "
لا ، لَنْ تذرف غزير الدموع على تركها العمل في المتجر ، سيختلف الأمر كثيراً لو استقر بها المقام في بيتٍ جديد وفي بلدٍ آخر . ستتزوج وينظر إليها الناس حينذاك باحترام ، لَنْ يحصل لها ما حصلَ لأمها مِن قبل ن لكنها الآن بالرغم مِن تجاوزها سن التاسعة عشر لم تزل تشعر بالخوف مِن غضب والدها وهي تعرف جيداً أن شعوراً كهذا يسبب لها خفقاناً ، ولكونها فتاة فإن والدها لم يَكُنْ قاسياً معها مثلما هو مع هاري و إيرنست ، إلاّ أنه في الأيام الأخيرة بدأ ينذرها وكأنَّ كُلَّ ذلك اللطف معها كان مِن أجل المرحومة أمها . أمَّا الآن فهي تشعر بالوحدة ، ليس هناك مَنْ يهتم بأمرها ، أخوها إيرنست كالميت لا شأن له وأخوها الثاني هاري الذي يعمل في نقش الكنائس فهو كثير الترحال و قلَّما يتواجد في البيت، إضافة إلى ذلك ومما لاشك فيه أن النكد المتواصل على المال نهاية كل أسبوع قد بدأ يثقل كاهلها . كانت تسلمه كل إجرتها الأسبوعية البالغة سبعة شلنات إضافة على ما كان يرسله " هاري ". كان يصعُبُ عليها أن تطلب مِن والدها مبلغاً ما فهو دائماً يتهمها بالتبذير وسوء التدبير وقال إنَّه لَنْ يعطيها مما يكسبه بعرق الجبين لتبدده هنا وهناك ، والأكثر مِن هذا أنَّه اعتاد أن يكون رجلاً لا يُطاق ليلة كُل أحد ، لكنه في النهاية يعطف عليها ويعطيها بعض النقود ثم يسألها ملاطفاً ما إذا كانت تريد أن تشتري شيئاً لعشاء يوم الأحد . هكذا كانت تهرع ممسكة بجزدانها الأسوَّد وتشق طريقها في زحام السوق ثم وهي تعود متأخرة تحمل الأكياس الثقيلة.
لقد كان مِن نصيبها أن تكدح دون كلل في تدبير شئون البيت ورعاية أخويّها وتحمل مسئولية ذهابهما إلى المدرسة وانتظام طعامهما . كان عملاً شاقاً وحياة قاسية ، لكنها الآن وهي على أهبة الرحيل لم تشعر أنَّ تلكم الأيام بهذا القدر مِن القسوة .
هي الآن على أبواب حياة جديدة مع فرانك . فرانك الطيب القلب اللطيف المعشر والشهم ، سترافقه بعيداً على ظهر زورق في الليل لتصبح شريكة حياته ويستقران في بوينس آيرس حيث سيكون المنزل الجديد بانتظارها . إنَّها لتتذكر جيداً أول يوم التقيا فيه عِنْدَما كان فرانك يسكن في الشارع الرئيس حيث اعتادت الذهاب ، تتذكر ذلك كما لو أن الأمر حدث قبل أيام ، تذكرت كيف كان فرانك يقف عِنْدَ الباب دافعاً طاقية رأسه إلى الوراء فتهدلت خصلات شعره مُسدلةً على جبينه برونزي اللون . هكذا تعرفت عَليه وراح ينتظرها كل مساء عِنْدَ خروجها مِن عملها في المتاجِر ويصرّ على مرافقتها حَتَّى باب منزلها ، تتذكر جيدا كيف أنه اصطحبها ذات مساء لمشاهدة المسرحية الغنائية " الفتاة الغجرية " إذ شعرت بالزهو وهي تجلس إلى جانبه في ركن قصي مِن المسرح . كان فرانك شغوفاً بالموسيقى إلى حدٍّ ما وكثيراً ما كان يغني ، وحين يرفع عقيرته مغنياً أغنية البحار الذي أحب يتملك أفيلين شعورٌ بالبهجة والارتباك معاً . كان فرانك يمازحها ملاطفاً ويدلعها بإسم " بوبينز " والجميع يعرف بعلاقتهما وقد بدا الأمر في الوهلة الأولى مسلياً بالنسبة إليها كفتاة تحظى بصديق مثل فرانك ثم وجدت نفسها تميل إليه بشدة . لقد قص لها فرانك كثيراً عن بلاد ما وراء البحار وكيف أنه بدأ عمله مذ كان صبياً على ظهر السفينة " ألين لاين " وهي في طريقها إلى كندا إذ كان يتقاضى جنيهاً واحداً في الشهر وعدد لها الكثير مِن أسماء السفن التي عمل عليها وجاب بها عباب البحار حَتَّى وَصَل غلى مضيق ماجلان .
كان يروي لها قصصاً مِن غرائب العادات في أمريكا الجنوبية ، ولمَّا استقر المقام به في بوينس آيرس جاء لقضاء أجازته في بلدهِ ، ولمَّا عرف والدها سِرَّ علاقتها فرضَ عليها مقاطعته وراح يكرر على مسامعها قائلاً :
" يا ابنتي ، أنا أعرف بهذا النوع مِن البحارة المراهقين ."
وهكذا كان عليها أن تقابل " فرانك " سِرّاً .
هي ذي عَتمة المساء تغمر الشارع تماماً ، لم تعد ترى بياض الورقتين في يدها ، هما رسالتان ، الأولى منها إلى أخيها هاري والأخرى لأبيها أمّا أخوها أَرنست فهو نعم الأخ بالتأكيد لكن منزلة هاري لديها أكبر . لقد بدا على والدها في الفترة الأخيرة تقدمٌ في السن بأكثر مِن ذي قَبْل ، وتصورت كم يفتقدها حين ترحل ، فهو في أحيان كثيرة يبدو في غاية اللطف ، لَنْ تنسى أبداً يوم مَرَضت وجلس عِنْدَ سريرها يقص لها قصصاً مِن الخيال ويحمص لها خبزاً على نار الموقد . وتتذكر أيضاً أنهم خرجوا جميعاً في نزهة إلى تلال " هاوث " وهناك أقدمَ والدها على ارتداء قبعة أمها ليثير الضحك في قلوبهم .
كان المساء يمضي قُدُماً ولم تزل تجلس عِنْدَ النافذة ، تميل برأسها على الستارة تشم فيها رائحة الغبار ومن هناك في الأسفل تهادى إلى مسامعها في الشارع عزف أرغن لشحَّاذ جوَّال سبقَ وأن سمعت مثل لحنه ومن الغريب أن تسمعه مرة أخرى في هذا المساء بالذات ليذَكِّرها بالعهد الذي قطعته على نفسها أمام أمها ، على أن تحيط هذا البيت بأقصى ما تستطيع مِن رعاية ، وتذَكَّرَت ليلة وفاة والدتها التي كانت مستلقية هنا في هذه الغرفة بالذات ، الغرفة المعتمة بجوها الخانق حين سمعوا جميعاً اللحن الحزين للعازف الشَحَّاذ ، تذكرت كيف عاد والدها إلى الغرفة متبختراً بعد أن أعطى لعازف الأرغن ستة بنسات وهو يقول :
" اللعنة على الإيطاليين ! وصلوا إلى هنا ؟! "
بينما هي غارقة في تأملاتها الحزينة ، دهمتها قشعريرة وهي تسمع صدى راح يتردد لصوت أمها وهي تنادي بحزمٍ وإصرار : وداعاً .
غمرت الأحزان حياتها في وقت مبكر ولم تجنِ مِن تضحياتها شيئاً غير هذا الشعور بالضياع . وفجأةً انتصبت واقفة كالمصعوقة ، أتهرب ؟ نعم يجب أن تهرب ! سينقذها فرانك ويمنحها أملاً جديداً في الحياة والحب ، سيأخذها بالأحضان وينتشلها مما هي فيه وتعيش حياتها كما تريد .
وعلى رصيف ميناء " نورث وول " وقفت وسط الزحام المتلاطم كالموج ، كان فرانك يمسك بيدها وهي تعلم أنه يحدثها عن الرحلة ويعيد عليها ما قال بينما كان الرصيف يعج بالجنود وهم يحملون تجهيزاتهم داكنة اللون ، ومن خلال الأبواب الواسعة لحواجز الانتظار لمحت أفيلين لأول مرّة ، الكتلة الهائلة السوداء لهيكل الباخرة حين أُضيئت النوافذ في مقصوراتها وهي قابعة ، بمحاذاة الرصيف ، في الظلام.
لَمْ ترد على كلامه بل شَعَرَت بالبرودة في وجهها الشاحب واعتصر الألم والحيرة قلبها وهي تدعو ربها أن يهديها إلى طريق النجاة . وإذا بالباخرة تطلق صفيراً تردد صداه بعيداً في الضباب مثل نواح حزين . لو تحققت أمنيتها ، ستكون غداً في أعالي البحار مع فرانك نحو بوينس آيرس . لقد قطعا تذكرتين فهل بالإمكان التراجع والانسحاب بعد كل الذي فعله فرانك . سبّب لها القنوط شعوراً بالغثيان وهي تدعو ربَّها وتتضرع إليه بصمت ، و لَمّا جَلجلَ أحد الأجراس مُدَوِّياً ، إنتفض قلبها هلعاً وشعرت بفرانك يمسك يدها قائلاً :
" هيّا ... ! "
كأنَّ كُلَّ بحار الدنيا هاجت في نفسها وكأن فرانك يدفع بها نحو الأعماق ليغرقها ، فتشبَّثَت بالحاجز الحديدي وهو يقول لها :
" هَيّا ...! "
كلا ! كلا ! إنّه لأَمر مستحيل ، وعادت تتشبث بالقضبان بكل قوتها . خُيَّلَ إليها أنه تسمع ثَمّة نداء يصل إليها مِن أعماق البحر :
" أفيلين ، أفيلـ ... ! "
راح فرانك ينادي ويشير إليها أن تعبر الحاجز و تلحق بهِ . طلبَ منه بعض المسافرين أن يمضي في سبيلهِ لكنه وقف في مكانهِ ينادي عليها وهي تتطلع إليه بوجه شاحب لا حوَلَ لها ، لا تفصح عينيّها الجامدتان بنظرة حب أو وداع وليس فيهما أي نوع مِن الرغبة بشيء
.
NoUr kasem
NoUr kasem
مساعد المدير
مساعد المدير

عدد المساهمات : 1954
تاريخ التسجيل : 08/09/2009
العمر : 36
الموقع : دمشق . . فلسطينية الأصل

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصص قصيرة لكتاب كبار  Empty رد: قصص قصيرة لكتاب كبار

مُساهمة  NoUr kasem الثلاثاء يوليو 13, 2010 2:33 am


موت كاتب حكومي

تشيخوف


ترجمها عن الانجليزية عبدالواحد اليحيائي

كان مساءً جميلا، في الصف الثاني من القاعة جلس إيفان ديميتريش تشيرفياكوف الموظف الحكومي الصغير متابعا العمل المسرحي من خلال نظارته الصغيرة، كان في قمة سعادته، لكن فجأة .. (المؤلفون على صواب، في القصص كثيرا ما يجد أحدنا – فجأة – هذه، الحياة حافلة بالأحداث غير المتوقعة) فجأة تغيرت ملامحه، تضاءلت عيناه، توقف نفَسَه، خلع نظارته، انحنى للإمام …ها..تشو.. عطس، كما ترون.
العطس ليس محرما على أي أحد وفي أي مكان، الفلاحون يعطسون، رؤساء الشرطة يعطسون، وأحيانا حتى المستشارون الخصوصيون يعطسون، لم يرتبك تشيرفياكوف كثيرا، مسح أنفه بمنديله، ثم وكأي رجل مؤدب ألقى نظرة سريعة على من حوله ليتأكد أنه لم يزعج أحدا بعطاسه، حينها فقط ارتاع لأنه رأى سيدا عجوزا يجلس أمامه في الصف الأول، كان يمسح صلعته ومؤخرة رقبته بقفازه، وبضيق كان يتمتم ببعض الأشياء لنفسه، عرف تشيرفياكوف الرجل، إنه الجنرال المدني بريزجالوف رئيس دائرة النقل في المدينة.
"لقد عطست عليه" فكر تشيرفياكوف "ليس رئيسي، لكنه مازال عملا أخرق، يجب أن أعتذر له".
كح بهدوء، انحنى للأمام، وهمس في إذن الجنرال:
- آسف يا سيدي، أعتذر لمعاليكم، أنا بالصدفة…
- لا يهم..لا يهم.
- بحق الله سامحني، لم أكن أقصد أن…
- اوه .. أرجوك، ارجع إلى مكانك..دعني أسمع.
اضطرب تشيرفياكوف، ابتسم ببلاهة، حول بصره باتجاه خشبة المسرح، نظر، لم يعد يشعر برغبة في المتابعة، بدأ القلق يعذبه، في نهاية العرض وأثناء الخروج توجه إلى الجنرال، مشى بجانبه، وغالب حياؤه وهو يتمتم:
- لقد عطست على معاليكم، سامحني سيدي، تعلم معاليكم...لم أفعل ذلك لـ….
- هذا يكفي، لقد نسيت الموضوع، أما زلت تردده ؟!! قال له الجنرال بنفاذ صبر فيما كانت شفته السفلى تنتفض.
"يقول أنه نسي الموضوع، لكن هناك نظرة حقد في عينيه" ردد تشيرفياكوف، ثم تابع وهو ينظرُ إلى الجنرال بارتياب، "إنه حتى لم يتكلم، يجب أن أشرح له أني لم أكن أقصد، العطاس من قوانين الطبيعة يجب أن يفهم ذلك وإلا سيعتقد أني تعمدت أن..أن أبصق عليه قد لا يعتقد ذلك الآن، لكنه سيعتقده لاحقا".
عندما وصل إلى البيت أخبر زوجته بما كان..أخبرها عن خرقه للسلوكيات الحسنة ، ضايقه أنها لم تعط الموضوع أية أهمية ، اهتمت بالموضوع بداية ثم اطمأنت لمّا عرفت أن بريزجالوف يعمل في دائرة أخرى، "لكن يجب أن تذهب وتعتذر له.." ثم أضافت.."قد يعتقد أنك غير مهذب…"
- هذا ما فعلته، لقد اعتذرت لكنه تصرف بغرابة شديدة…لم يقل كلمة مفهومة… ثم لم تتح لي فرصة لمحادثته…
في اليوم التالي حلق.. لبس زيا رسميا جديدا، وذهب ليشرح الأمر لبريزجالوف، عندما دخل مكتب الاستقبال الخاص بالجنرال وقعت عيناه على مجموعة من المراجعين وقد اصطفوا واقفين وقد توسطهم الجنرال الذي كان قد بدأ باستقبال طلباتهم والشرح على عرائضهم، وأثناء استفهامه عما جاء في بعض هذه العرائض رفع عيناه إلى تشيرفياكوف. - مساء أمس..في المسرح..إن كنتم تتذكرون معاليكم.. - بدأ الموظف الحكومي الصغير كلماته مضطربا -وبالصدفة..عطست وتطرطش لعابي عليكم..آســـ....
- أي هراء هذا..هذا يفوق الإحتمال…عفوا….هل من خدمة أقدمها لك؟!!
"لا يرغب في أن يتحدث عن الموضوع.." تغيرت ملامح وجه تشيرفياكوف.."هذا يعني إنه غاضب..يجب أن أشرح له الموضوع، لا يجب أن أترك الموضوع هكذا.." ..عندما انتهى الجنرال من مقابلة آخر مراجع، وأثناء توجهه إلى الغرف الداخلية وقف تشيرفياكوف أمامه متمتما:
- صاحب المعالي..آسف لأني كنت قد تجرأت على إزعاج معاليكم..أؤكد لكم شعوري بالندم الشديد لما سببته لكم من إزعاج..صدقني معاليكم أني لم أخطط كي أعطس بحضرة معاليكم..يجب أن تعلم معاليكم أني…"
ظهر الضيق على وجه الجنرال وهو يلوح بيده..قال: لعلك تمزح يا سيد.. ثم اختفى في الغرفة الداخلية. .. "أمزح!! لم أكن أمزح..الجنرال ..يجب أن يعرف أني لم أكن أمزح.. سأكتب له رسالة اعتذار.. لن أحضر إلى هنا ثانية..سوف يشنقني إن حضرت.." ..هكذا عاد تشيرفياكوف إلى بيته ثانية، لم يكتب رسالة إلى الجنرال، فكر وفكر وفكر لكنه لم يعرف ما الذي يجب عليه أن يكتبه..لا فائدة..يجب أن يذهب إلى الجنرال غدا ويشرح له الموضوع….
"بالأمس حضرت إلى هنا وأزعجت معاليكم" تمتم في حين اتجهت إليه نظرات الجنرال مستفهما..
"لكن صدقني معاليكم..لم أكن أمزح..كما فهمتم معاليكم..لقد حضرت كي أسترضي معاليكم لأني عطست بحضرتكم..أنا..أنا..لم أكن أمزح ..معاليكم…كيف أجرؤ على المزاح مع معاليكم..المزاح يعني عدم احترامي لمعاليكم..يعني عدم احترامي للأشخاص المحترمين..وذلك يعنـــ…"
-أغرب عن وجهي حالا.. صرخ الجنرال..وقد بدت ملامح الغضب والضيق على وجهه..
- مـ..مـ.. ماذا.. همس تشيرفياكوف وهو ينتفض من الرعب…
- أغرب عن وجهي.. أعاد الجنرال كلماته وهو يضرب الأرض بقدمه غاضبا.
بدا أن شيئا ما قد انكسر في نفس تشيرفياكوف..
تعثر باتجاه الباب..وخرج للشارع..
لم ير ولم يسمع شيئا..مشى بجانب الجدران..
وبلا شعور وجد نفسه في بيته..
تمدد على أريكته دون أن يخلع لباسه الرسمي ..
و……..مات.
NoUr kasem
NoUr kasem
مساعد المدير
مساعد المدير

عدد المساهمات : 1954
تاريخ التسجيل : 08/09/2009
العمر : 36
الموقع : دمشق . . فلسطينية الأصل

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصص قصيرة لكتاب كبار  Empty رد: قصص قصيرة لكتاب كبار

مُساهمة  NoUr kasem السبت يوليو 17, 2010 8:42 pm

قصة ماسوشية


المدلك الأسود


تينسي وليامز*

منذ إطلالته على الحياة أظهر أنطوني بيرنز الشخص ميلا غريزيا للدخول في أحوال ومتاهات تبتلعه وتستحوذ عليه كليا. عائلته مثلا خمسة عشر ابنا حظي بينهم بأقل نصيب من الاهتمام. والصف الذي أنهى فيه المرحلة الثانوية كان الأضخم من حيث العدد على سجلات مدرسته. وحينما نزل إلى سوق العمل بعد الدراسة الثانوية مباشرة تدبر وظيفة في أكبر شركة للبيع بالجملة في المدينة.
كل شيء شد بيرنز واستحوذ عليه ولم يشعر بالأمان الذي يبحث عنه، وقاعات السينما هي المكان الذي أحس فيه بالطمأنينة أكثر من غيره. أحب الجلوس في الصفوف الخلفية للقاعة، فيمتصه الظلام على مهل ويغدو قضمة طعام صغيرة تذوب في فم دافئ كبير. كان جو السينما يلعق بنات أفكاره بلسان رقيق خفاق مهدهدا له لينام، بلى، حتى أم الجراء الحنون ليس في مقدورها لعقه ومنحه رقادا أحلى من الذي تمده به السينما كلما قصدها بعد العمل.
في القاعة المظلمة والشريط يعرض، ينفتح فمه على مداه ويتراكم فيه اللعاب سائلا من جنباته، فيشعر باسترخاء تام في أنحاء جسمه، وينداح عنه كل وخز وضيق من توتر يومه. لم يكن يتابع الفيلم على الشاشة، بل يراقب صور الأشخاص. ما يقولونه أو يفعلونه ليس بذي بال عنده. اهتمامه فقط صور الذين يشعرون بالدفء، وكأنهم قابعون إلى جانبه تحضنهم المقاعد داخل القاعة المعتمة. أحب كل واحد منهم ما عدا أصحاب الأصوات الحادة.
أنطوني بيرنز شخص رعديد، مخلوع الفؤاد، يعدو دائما بين شكل حماية وآخر دون أن يتوفر في أي مكان منها قدر من الديمومة التي تلائمه.
الآن، في الثلاثين، ومن الحماية المفرطة التي سعى أبدا وراءها، لم يزل يرتسم على وجهه وجسده مظهر الطفل، إضافة إلى تصرفه أيضا كصغير في حضور الكبار. في كل حركة يأتيها أو كل عبارة ينطق بها أو أي شكل تعبيري آخر ينم به يكمن اعتذار وجل يريد أن يبرر من خلاله للعالم الحيز، ولو الصغير جدا، الذي اختير ليملأه في الحياة.
عقله ليس من النوع المدقق المتفحص. لا يتكلف أن يتعلم سوى ما يراد له تعلمه، وتاليا لم يتعلم أي شيء عن نفسه. لا يملك أدنى فكرة عما تكونه رغباته الحقيقية. والرغبة أساسا وجدت لتكون حيزا أوسع مما يستطيعه المخلوق الفرد تجاهها. وهذا ما ينطبق خاصة على حالة أنطوني بيرنز، رغباته، أو الأحرى رغبته الأساسية، أكبر منه إلى حد أنها ابتلعته كمعطف ضخم يجب قصه إلى عشر أصغر ليناسبه، أو أن يصار إلى تكبير حجم بيرنز.
لأن آثام العالم كتابة عن عدم كإله، عن نواقص فيه، فهذا ما على العذاب التكفير عنه. ثمة حالات معينة من النواقص المستحدثة مثل جدار أزيل من منزل لحجارته المتآكلة، أو غرفة في منزل دون أثاث، لأن أحوال رب البيت ليست مؤاتية. مثل هذه النواقص عادة تغطى أو تموه بأحد أشكال إعادة الترتيب الداخلي. وطبيعة الإنسان مقابلها مليئة بتدابير من هذا الصنف، يبتكرها تغطية لنقص معروف، قد يحس مثلا أن جزءا منه أشبه بالحائط المهدم أو الغرفة المتروكة دون أثاث، فيحاول قدر إمكانه التعويض، والقناع الذي يبتكره لتغطية نقصه قد يأخذ شكل استخدام المخيلة، أو اللجوء إلى الأحلام أو الاستعانة بالغرض الأسمى للفن، وقد يتوسل أيضا بالعنف، مثل الحرب، بين رجلين أو بين عدد من الأمم، كتعويض أعمى بل أحمق لذاك المكمل الذي لم يتشكل بعد داخل الطبيعة البشرية.
وهناك تعويض آخر حاضر في مبدأ الكفارة. له طابع تسليم النفس إلى معاملة عنيفة من الآخرين لتطهيرها من ذنوبها، هذه الطريقة الأخيرة اختارها أنطوني بيرنز غير واع.
الآن، وفي الثلاثين، سيقع بيرنز على أداة تحقيق كفارته. حصل له ذلك، كما كل أحداث حياته، دون إرادة منه أو جهد.
بعد ظهر أحد الأيام، وكان يوم سبت من تشرين الثاني، خرج بيرنز من عمله في الشركة الضخمة إلى مكان ترتفع على بناء فيه لوحة من النيون الأحمر مكتوب عليها "حمام تركي وتدليك". عانى بيرنز أخيرا نوعا مبهما من الألم أسفل عموده الفقري، فأخبره شخص معه في شركة البيع بالجملة أن التدليك يريحه لا محالة من الألم. بالطبع يمكنك الافتراض أن مجرد اقتراح من هذا النوع قد ترتعد له فرائص بيرنز. وعندما تساكن الرغبة الخوف على نحو دائم، ودون حاجز فاصل، تغدو خداعة جدا وتصبح مكارة كما الخصم الذكي، وهذا واحد من الأوقات التي تتفوق فيها الرغبة على الخصم، تحت سقف الدهاء.
وعلى ذكر كلمة تدليك أمام بيرنز استفاقت الرغبة، وأطلقت نوعا من البخار المنحدر عبر شبكة أعصابه، غافلَ مشاعر الخوف عنده وسمح له تاليا بالانطلاق، ودون أن يعي بيرنز تماما عزنه على الذهاب، مشى إلى الحمام بعد ظهر ذلك اليوم.
يقع الحمام في الدور السفلي لأحد الفنادق في قلب الوسط التجاري المحموم للمدينة. ومع ذلك، شكل الحمام عالما صغيرا بذاته، السرية تسيطر على الجو، وبدت هدفا مقصودا. وباب المدخل له زجاج بيضوي لبني، فلا يمكن رؤية سوى وميض من ورائه، وحتى عندما يفتح للزبون، يجد نفسه واقفا في وسط متاهة من الحواجز الحاجبة، ممرات يتفرع منها حجرات بينها ستائر، وغرف ذات أبواب زجاجية كامدة مع غلوبات لبنية، وغلاف بخاري مسيطر، في كل مكان تقوم وسائل الحجب والكتمان. بعد أن تتجرد أجساد الزبائن من كسوتها تلتف بطيات من قماش أبيض، ثم يقاد هؤلاء فوق بلاط أبيض رطب، فيبدون في تفسيرهم، لولا أصوات أنفاسهم، في مثل البياض والصمت للأشباح. ووجوههم خلو من أي تعبير، كأنهم بلا تفكير يوجههم ويملي تحركاتهم.
بين الحين والآخر يعبر الرواق الرئيسي أحد المدلكين، والمدلكون هنا جميعهم من الزنوج، يبدو هؤلاء إزاء الستائر البيضاء ذوي سمرة شديدة أصيلة، والواضح أنهم لم يلتفوا بطيات القماش الأبيض وإنما ارتدوا سراويل تحتية فضفاضة من القطن، ينضح تحركهم في المكان بسيماء القوة والحزم، هؤلاء وحدهم يتمتعون بالسلطة هنا. أصواتهم ترن جسورة وبعيدة كل البعد عن الهمس بطريقة اعتذارية كما يفعل الزبائن كلما التمسوا إرشادا من هؤلاء المدلكين. هذا المكان مملكتهم الشرعية، لذا يدفعون الستائر البيضاء براحات سوداء ضخمة كأنها تقبض بهذه السهولة على صواعق البرق لتعيد رميها ثانية إلى الغيوم.
وقف انطوني بيرنز وبه تردد عظيم أمام مدخل الحمام التركي.
حالما ولج الباب اللبني الزجاج، تقرر قدره ولا حاجة لأي مبادرة منه. دفع دولارين ونصفا أجرة الحمام والتدليك ومنذ تلك اللحظة عليه بالتعليمات والإذعان للرعاية المبذولة. وفي لحظات قليلة حضر مدلك زنجي إلى بيرنز وقاده بادئ الأمر إلى الأمام، ثم انعطف به عند زاوية إلى داخل واحدة من حجرات الستائر.
- اخلع ثيابك، قال له الزنجي.
أحس الزنجي أمرا غير عادي لزبونه هذا، ولذا لم يترك الحجرة المسدولة الستارة، بل بقي متكئا على أحد الجدران خلال تنفيذ بيرنز لما طلب منه. أدار الرجل وجهه نحو الحائط بعيدا عن الزنجي وراح يتحسس دونما تركيز ملابسه الشتوية، طال وقته لخلعها، والسبب ليس تعمده التباطؤ، لكنه انغماسه العميق في حالة أشبه بالحلم. لفه شعور حالم فإذا يداه وأصابعه ليست له، أحسها مخدرة وساخنة كأنها وقعت في قبضة شخص خلفه يملي حركاتها. أخيرا تعرى، وحينما دار حول نفسه ببطء ليواجه المدلك الزنجي، بدت عينا المارد لا تريانه وسكنهما لمعان لم يكن من قبل، لمعان بريق سائل يوحي بمنظر الفحم المبلل.
- ارتد هذا، أشار على بيرنز بقطعة بيضاء مدها إليه.
تناولها الرجل الصغير شاكرا، ثم التف بالقماشة المخرشة. وبعد أن أمسك بها ليرفعها بنعومة عن قدميه الصغيرتين الأنثويتين ظاهران سار وراء المدلك الزنجي عبر أحد ممرات الستائر البيضاء ذات الحفيف إلى حيث مدخل مستوعب زجاجي غير شفاف، ما هو إلا غرفة البخار، هناك تركه مرشده.
بدت الجدران السديمية والبخار ينبعث منها، كأنها تجيش وتتنهد. كان البخار يدور حول جسد بيرنز العاري مغلفا إياه بحرارة ورطوبة كما داخل فم هائل، وبعدها تخديره ثم إذابته في وسط هذا الأبيض الذي يخرج مهسهسا من الجدران غير المرئية.
عاد المدلك الأسود، وبتمتمة آمرة، قاد من جديد بيرنز المرتجف إلى الحجرة التي ترك فيها ملابسه. خلال غياب بيرنز أدخلت طاولة ذات عجلات إلى الحجرة.
- استلق على هذه، قال الزنجي.
أطاع بيرنز الأمر، سكب المدلك الأسود السبيرتو على جسد بيرنز، بادئا بالصدر ومن ثم البطن فالفخذان، جرى السائل فوق أنحاء جسده يعقصه هنا وهناك كما الحشرات. صدرت عنه شهقة قصيرة أتبعها شبكة ساقيه، كردة فعل على عقصة أحسها عند مغبنه. بعدها وبلا أي تحذير مسبق رفع الزنجي راحته السوداء وأنزلها ضربة مدوية على بطن بيرنز الطري، فاندفع الرجل الصغير بشهقة، وللحظتين أو ثلاث لم يستطع أخذ نفس آخر.
مباشرة بعد زوال الصدمة الأولى، اجتاحه شعور باللذة سرى فيه كالسائل بدءا من طرفي جسده ليبلغ التجويف الوخاز عند مغبنه، لم يتجرأ على النظر، لكنه أدرك ما سيراه الزنجي بطبيعة الحال. ارتسمت على وجه المارد الأسود ابتسامة مشوبة بالسخرية.

- آمل ألا أكون قسوت عليك بضربتي، تمتم المارد.
- لا، أجاب بيرنز.
- انقلب، قال الزنجي.
عبثا حاول بيرنز التحرك، لأن تعب الاسترخاء الجميل حال دونه، ضحك الزنجي وقبض على ذاك الضئيل من خصره، وقلبه على بطنه بالسهولة التي قد يقلب بها وسادة. وانهال على كتفيه وردفيه الضربات تدرج عنفها صعودا. وبتزايد العنف والألم استعرت سخونة الرجل الصغير مع تحقق رضاه الفعلي للمرة الأولى، وانحلت فجأة عقدة عند أسفل ظهره، مطلقة سريانا دافئا.
وهكذا على حين غرة تكتشف رغبة الإنسان، ولا حاجة حال اكتشافها سوى للإذعان، أو تلقي ما يرد دون طرح أسئلة. وهذا أمر خلق بيرنز له في شكل لافت.
بين الوقت والآخر، صار الموظف ذو الياقة البيضاء يتردد على المدلك الزنجي. وسريعا ظهر للاثنين ما أراد بيرنز، إنه يسعى باحثا عن التكفير، والمدلك الأسود بمثابة الأداة الطبيعية لذلك.
بين جنبات الزنجي كره لذوي الأجساد البيضاء لكونهم يسيئون إلى كبريائه. لشدما راقه انبطاح جلدهم الأبيض تحته، فيعمل على إنزال قبضه حينا وراحته حينا ضاربا بقوة على صفحة الإهاب المستكين. وهو بالكاد استطاع إبقاء هذا الولع مكبوحا، أو أن يضبط الرغبة التي طالما أحسها تتوثب بعنف مسخرة كامل طاقتها لمآربها. والآن وبعد طول انتظار دخل الشخص المناسب مدار ولعه. وجد في موظف الياقة البيضاء كل الذي تاق إليه.
في تلك الأوقات، والمارد الأسود يأخذ قسطا من الراحة، جالسا في طرف الحمام يدخل سجائر أو يلتهم لوحا من الشوكولا، كانت صورة بيرنز تلوح في ذهنه. صورة جسد أبيض عليه آثار عنف حمراء. إزاء المشهد يتوقف لوحة الشوكولا قبل مسافة قصيرة من شفتيه اللتين تتحولان عن الالتهام لرسم ابتسامة مسترخية حالمة. أحب العملاق بيرنز، وأحبه بيرنز حتى العبادة.
صار بيرنز شارد الذهن في عمله. وفي طباعته طلبا ما على الآلة، فجأة يسند جسده إلى الوراء ليلوح أمامه المارد سابحا في الهواء، ثم يبتسم وتسترخي أصابعه المتيبسة من العمل وترتمي على المكتب بضجة مسموعة. وأحيانا يقف رئيسه قربه، ويناديه عابسا: بيرينز! بم تحلم؟
على مدار الشتاء تابع عنف التدليك تصاعده بإيقاع معقول، ومع شهر آذار ارتفعت وتيرته إلى ما لا يقاس.
ذات يوم ترك بيرنز الحمام وفي صدره ضلعان مكسوران.
مع كل صباح يتجرجر إلى العمل يتمهل والألم عليه، وحالة جسده لم تزل ترمي التبعات على الروماتيزم.
في أحد الأيام سأله رئيسه عما يفعله لمداواة الروماتيزم، فأجابه أنه يعالجه بجلسات التدليك.
- يبدو أنها لا تعود عليك بفائدة، قال له الرئيس.
- أوه، بلى، أجاب بيرنز، أشعر بالكثير من التحسن!
ذلك المساء كانت زيارته الأخيرة إلى الحمام.
خلال هذه الزيارة كسرت ساقه اليمنى. وكانت الضربة التي كسرت ساقه فظيعة. فلم يستطع كتم صرخة مدوية خرجت من أعماقه. سمع مدير المؤسسة- الحمام الصرخة وأتى إلى الحجرة.
رأى بيرنز يتقيأ من فوق حافة الطاولة.
- بحق المسيح، قال المدير، ما الذي هنا؟
هز المارد كتفيه ببرودة:
- طلب مني أن أزيد من قوة ضرباتي.
نظر المدير متفحصا بيرنز واكتشف الرضوض والكدمات الكثيرة على جسده.
- ما تظن هذا المكان؟ غابة؟ وجه كلامه إلى المدلك.
من جديد هز المارد الأسود كتفيه ببرودة.
- اخرج من هنا! صاح المدير. إياكما أن تطآ هذا المكان ثانية!
بحنان رفع المارد الأسود شريكه النعس، وحمله بعيدا عن المكان إلى غرفة في الحي الزنجي من المدينة.
هناك وعلى مدار أسبوع استمر نمو الشغف بينهما. وهذا وقت كانت "فترة الصوم" تقرب من نهايتها. وفي الجانب الآخر من الشارع حيث الغرفة التي تؤوي بيرنز والزنجي، تقوم كنيسة تندلق من نوافذها المشرعة مواعظ مدوية لأحد الكهنة. بعد ظهر كل يوم تلاوة صلاة الموت على الصليب بإيقاعها المحموم. لم يكن الواعظ يدري تماما ما يريده وكذلك جموع الحاضرين الذين راحوا يئنون ويتلوون بعنف على مقاعدهم. والكل منغمس في تكفير جماعي.
وبين الفترة والفترة حدثٌ ذو دلالة. تقف امرأة لتعرض جرحا في ثديها، إلى امرأة أخرى تشق شريانا في رسغها.
- عانوا، عانوا، عانوا! يصيح الواعظ. سيدنا المسيح علق على الصليب فداءا لخطايا العالم! جروه خارج المدينة، إلى الجلجلة. بللوا شفتيه بخل إسفنجة. دقوا خمسة مسامير في جسده، فغدا وردة العالم وهو ينزف على الصليب!
لم يستطع جميع المصلين البقاء داخل الكنيسة فاندفعوا خروجا إلى الشارع في موكب مجنون والملابس ممزقة على وسعها.
- مغفورة كل خطايا العالم! أخذوا يصرخون.
طوال هذا الاحتفال من الكفارة البشرية الجماعية، بقي المدلك الأسود على إتمام غرضه مع بيرنز.
داخل حجرة الموت كانت كل النوافذ مفتوحة.
هبت الستائر متطاولة مثل ألسنة بيضاء عطشى تود لعق الشارع الذي بدا كأنه يفوح برائحة عسل نفاذ. وفي أحد المنازل خلف الكنيسة اشتعلت النار. تهاوت الجدران وتطاير الهباء في الجو الذهبي المضيء. لم تنفع السيارات القرمزية، ولا السلالم الطويلة، ولا الخراطيم القوية، في مواجهة صفاء اللهب.
انحنى المدلك الأسود فوق ضحيته التي لم يزل فيها رمق، كان بيرنز يهمس بشيء ما.
أومأ المارد الأسود بهز رأسه.
- تعرف ما عليك الآن؟ سألته الضحية.
ومرة أخرى أومأ المارد الأسود هازا رأسه.
قام برفع الجسد الممد أمامه والمحتفظ ببقية من تماسك ثم وضعه برفق على طاولة مسحت بنظافة تامة.
شرع المارد في التهام جسد بيرنز.
لزمه أربع وعشرون ساعة لأكل اللحم عن العظام المهشمة. عند انتهائه كانت السماء زرقاء صافية، وكان القداس انتهى، وسكن الرماد، ورحلت سيارات الإطفاء، وانقشعت أبخرة العسل من الجو.
عاد الهدوء، وخيم جو من الإنجاز بل الاكتمال التام، أما تلك العظام البيضاء العارية المتبقية من كفارة بيرنز، فوضعت في كيس وحملت إلى نهاية مسلك للسيارات يؤدي إلى بحيرة.
هناك مشى المدلك فوق دعامة وحيدة وألقى حمله إلى ما تحت صفحة البحيرة الراكدة.
حينما يمم المارد منزله، راح يفكر في مدى رضاه عما أنجزه.
- أجل، الأمر غاية الكمال، فكر بينه وبين نفسه، لقد تم عن آخره الآن!
رمى داخل الكيس الذي حمل فيه العظام بأغراضه، بدلة زرقاء أنيقة لتخفي جسده المهلك، وبضعة أزرار من لؤلؤ إلى صورة لأنطوني بيرنز وهو في السابعة.
انتقل إلى مدينة أخرى وتدبر مرة ثانية عمل مدلك خبير. وهناك في مكان تلفه ستائر بيضاء، وقف ينتظر بهدوء وراء باب لبني الزجاج، مدركا أن القدر لا بد سيسوق شخصا آخر يود أن يقاسي الكفارة كما قاساها بيرنز.
في غضون ذلك وتحت وطأة أصابع الليل السوداء، والنهار البيضاء، راحت البشرية غير مدركة إلا لماما ما تقوم به، تتلوى وتنثني وقت تهشمت الهياكل، وتحول اللحم عجينة، ليتبين من هذه المسالة البعيدة الاحتمال أن الكمال إنما يأتي وينقشع بطيئا خلال العذاب
.


* تينيسي وليامز:

أحد عظماء كتاب المسرح الأمريكي، ترعرع من والدين أحدهما بائع متجول والأم ابنة كاهن.قدر على تحمل كأداء الحياة وعاش حياته متجولا، وتردد على ثلاث جامعات حتى أكمل دراسته، وكتب الشعر والقصص، واشتهر بمسرحية قطة على صفيح ساخن التي نالت البوليتزر، وتوفي في الثمانينات، قبل هدف ماجد في الصين بعام واحد فقط
NoUr kasem
NoUr kasem
مساعد المدير
مساعد المدير

عدد المساهمات : 1954
تاريخ التسجيل : 08/09/2009
العمر : 36
الموقع : دمشق . . فلسطينية الأصل

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصص قصيرة لكتاب كبار  Empty رد: قصص قصيرة لكتاب كبار

مُساهمة  NoUr kasem الجمعة يوليو 23, 2010 9:26 pm

الموت

ليحيى الطاهر عبد الله رحمه الله

يروى أن الملاك العبوس عزرائيل أراد أن يعابث روحين لعبد وعبدة، يعملان في غيط السيد، فتنكر على هيئة شيخ ضرير بلحية، تحت إبطه لوح وبيده ريشة ودواة.
استبد العجب بالعبدين الغافلين: ما حاجة شيخ ضرير إلى اللوح والريشة والدواة؟ ولم لا يدب بعصا كسائر العميان؟

وقالت العبدة لزوجها العبد: لو أمرتني سألته؟ .. إلا أن الملاك الذي سمع حديثهما قال:
العبد لا يسأل يا بنية.

فسأله العبد: وهل أنت سيد؟

قال الملاك: أنا سيد لا أُسأل.. وأنا عبد لا أَسأل.

ركع العبدان وقالا: يا لك من حكيم.. علمنا أيها السيد الحكيم حكمة تنفعنا.

قال الملاك: ستموت زوجتك من فعلك.. وتموت يا عبد من فعل زوجتك.

قال العبدان: فسر لنا قولك الملغز يا حكيم.

قال الحكيم: عطشان.. وشربة من بئر السيد تسقيني.

قال العبدان: سنسقي السيد الحكيم من بئر السيد العذبة.

أنزلت الزوجة الدلو في البئر، وهي تسحبه رأت سمكة كبيرة بعيون مضيئة، فتركت الدلو وهبطت سلالم البئر، ولم تكن على قدر من الحكمة حتى تدرك أن الملاك عزرائيل قادر على أن يكون سمكة بعيون مضيئة، يراوغ ويعض كل من يمسكه.

فلما عضتها السمكة صرخت: الحقني يا زوجي.. سارع الزوج العبد لنجدة زوجته العبدة، وهبط البئر.. وهنا تمكن الملاك عزرائيل من الاثنين، فشهق شهقة كقيرة ولم ّ الهواء النافع، وزفر زفرة كبيرة وبخ ّ الهواء الضار.. ليموت العبد والعبدة اختناقا في بئر السيد.
NoUr kasem
NoUr kasem
مساعد المدير
مساعد المدير

عدد المساهمات : 1954
تاريخ التسجيل : 08/09/2009
العمر : 36
الموقع : دمشق . . فلسطينية الأصل

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصص قصيرة لكتاب كبار  Empty رد: قصص قصيرة لكتاب كبار

مُساهمة  بحر الصمت السبت يوليو 24, 2010 10:27 am

بشكرك يابجماليون مجموعة من القصص الرائعة
الله يعطيكي ألف عافية

بحر الصمت

عدد المساهمات : 36
تاريخ التسجيل : 17/07/2010

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصص قصيرة لكتاب كبار  Empty رد: قصص قصيرة لكتاب كبار

مُساهمة  NoUr kasem الأحد يوليو 25, 2010 11:29 am

الشيء الأفظع

ألبرتو مورافيا

ترجمة: عدنان محمود محمد

أنا امرأة وحيدة وجميلة مما يشكل وضعا مثاليا. بكل صراحة: الوضع غير ذلك. فهذا الجمال الذي يشكل في مهنتي كمضيفة جوية ميزة مهنية مكتسبة، يغير طابعه ووظيفته ما إن أنزل من السماء إلى الأرض.
على الطائرة، جمالي وسيلة للعمل، أقول وسيلة أستخدمها بدقة منظمة وبصرامة حسب قوانين الشركة. أما على الأرض فإن جمالي وبفضل خيمياء غامضة مرتبطة بكوني عزبة يصبح بضاعة أستطيع -إذا أردت- أن أبيعها أو لا أبيعها: وهو يبقى بضاعة في حالة أو أخرى بالنسبة إلي أو بالنسبة إلى بقية الرجال الذين يقتربون مني.

أثناء الطيران أنا ملاك في لباسي الموحد وعلى الأرض أنا واجهة متحركة لجسم بشري وكل ما في يؤكد هذا التحول، ابتداء من الميني جوب الضيق جدا والذي يضطرني إلى مشية متخلعة لا أحد ينتبه إليها عندما أجتاز ممر الطائرة. وعلى الأرض يعتبر هذا الميني جوب دعوة إلى علاقات جنسية. وحتى حركات يدي عندما تحرك غطاء على ساقي مسافر أو وسادة تحت رقبة مسافر آخر؛ أما على الأرض فيعطونها كل أنواع التفسيرات.

لم هذا التغير؟ لماذا يكون أول عمر أقوم به هو الذهاب مباشرة إلى مرآة الحمام فأتخلص من قبعتي ومن ضفيرتي التي تأسر شعري وأفك كليا أزرار سترتي ما إن أصل إلى مسكني الضيق المجاور للمطار (أتقاسمه مع زميلة لي لا ألتقي بها أبدا وهي لا تلتقي بي)؟ لا أعرف الإجابة عن هذا السؤال. وبالمقابل أعرف تمام المعرفة أنني أرى مباشرة أن عينيّ الخضراوين الواسعتين كعيني الأموات طيلة مدة فترة الطيران تصبحان الآن قاسيتين وفاترتين وأرى نهدي يتدفقان كما بإرادتهما الخاصة خارج الثوب وأرى فمي الذي يغدق الابتسامات المصطنعة أثناء الرحلة، يتخذ على الأرض وبشكل طبيعي طية حردة وثأرية وأرى شعري يعود ببطء إلى الحياة لكي ينتشر من تلقاء نفسه على كتفي العرضين. الفصل ملعوب، فقد تحول الملاك المجند إلى فتاة متحللة سهلة، عصبية لا تعرف كيف تمضي السهرة لكنها مصممة على أن لا تمضيها وحيدة.

بعد أن اغتلت عمليا ملاك الطائرة فإن الشيء الوحيد الذي قررت أن أفعله هو أن أمسك بالهاتف لأدرير أرقام مجموعة من الرجال بتصميم بالتسلسل، رقما رقما؛ أولئك الرجال الذين يعيشون وحيدين والذين يبحثون عمن يرافقهم وقد سجلت أسماؤهم على دفيتر صغير. لا أكف عن الاتصال حتى أقع على أحدهم، أي على رجل مستعد لتلك السهرة.

أسألكم أن لا تحكموا علي بقسوة فالقوانين الصارمة جدا للشركة جعلت مني امرأة ترفض غرائزها، امرأة مكبوتة. لن يحدث شيء بيني وبين الرجل الذي سيصطحبني للسهر، لا شيء حميمي، لا شيء عاطفي، فهو لن يدعوني إلا لكي يظهر بمرافقة امرأة رائعة الجمال لكي يثير إعجاب الرجال الآخرين وحسدهم. وأنا سأقبل أن أجعل من نفسي وجها جميلا كما يقولون في إيطاليا مقابل وجوده بجانبي في المطعم أو في السينما أو في علبة من علب الليل. صحيح أني أقول: سيكون هذا كل ما في الأمر ولكن لماذا تتسلل إذن إلى جميع تحركاتي هذا المساء وإلى كل ما أقوله فكرة بغاء ناعم وعفيف؟ إن تأويلها الجنسي غير الموجود والملغى طيلة مدة الطيران يفرض نفسه بقسوة الآن. في الواقع، إني إذ أقبل الدعوة فإني أبيع حضوري بالطريقة بالطريقة نفسها التي يوقع بها فلاح بقبضة يده بيع بقرة حلوب عريقة الأصل. وإذا تعلق الأمر بالبيع فإن الأحداث هنا لتؤكده.

ما إن ندخل إلى المطعم حتى يأخذ مرافقي بالنظر إلى الصالة أكثر من النظر إلي، ينظر إلى الطاولات الأخرى ليرى "أي أثر أحدثه" عليهم. نعم إني أعرف الرجال. لا أعتقد أني أعرفهم. والآن وبسبب الحزن الذي أستشعره فإني مضطرة للقول بأني أبدأ معرفتهم الآن.

لذا سوف أبقى في البيت هذا المساء. قررت أن أكون ملاكا على الأرض. بقيت عارية -الطقس حار بشكل مخيف وبما أني أسكن في الطابق الأرضي فمن غير الممكن فتح النوافذ- جلست على مقعد لأشاهد التلفزيون. كانت الساعة تقارب الثامنة، سيبثون نشرة الأخبار المصورة ثم فيلما قديما من الخمسنات ثم فيلما وثائقيا عن الحيوانات ثم النشرة من جديد. القطع مستمر من أجل بث الدعايات التي بفضلها تبدو سعادة العالم مرتبطة كل الارتباط باستعمال مستحضر استهلاكي - أود أن يفسر لي أحد سبب ذلك- سوف أشاهد الأخبار المصورة ثم الفيلم وسأنتهز فرصة بث الدعايات لألتهم عشائي بسرعة (شريحة لحم من الروزبيف وحبة بندورة تركها في البراد منذ أول أمس لحظة مغادرتي) ثم أعود أمام شاشتي الصغيرة لأشاهد الفيلم الوثائقي ثم الأخبار الثانية التي تكون عموما مشابهة للأولى. ولكن من يعلم؟ فقد تندلع حرب أو تقع كارثة في آخر لحظة وهكذا سوف "أصمد" حتى الحادية عشرة.

مشيت على رؤوس أصابع قدمي في الظلام الموحش للشقة الخاوية من غرفة إلى أخرى لأتأكد من إغلاق درف النوافذ والصنابير والأقفال.

أويت أخيرا إلى فراشي لأنام نوما خفيفا ومضطربا. سريري يتسع لشخصين، لكن أحدا لم ينم فيه معي أبدا. إني كثيرة الحركة أثناء النوم وكثيرة القلق: أنام على الحافة اليمنى للسرير وأستيقظ على حافته اليسرى. نكتة!

ما إن اتخذت قراري الغريب بعدم الخروج حتى جرت الامور بشكل اعتيادي ولكن حتى الساعة التاسعة فقط. أي حتى الساعة التي كنت أخرج فيها في الأماسي الأخرى. سأضع الهلالين، ذلك لأن فعل خرج بين هلالين لا يعني بالنسبة إلي كما يعني بالنسبة لمئات النساء نفس معنى خرج بدون هلالين -فخرج بدون هلالين يعني خرج للتسوق أو للنزهة أو لزيارة الأصدقاء، أما خرج بين هلالين فيعني بعكس ذلك الحياة. وهكذا هذا المساء، فإني، إذ أبقى في البيت، أتخلى كلية عن الحياة، أو على الأقل، عن الجانب الوحيد الذي يبدو لي حيا من الوجود. ولكن في اللحظة نفسها التي أحس بنفسي أجمل من أي وقت مضى أرى للأسف أن الوحدة أحالت جمالي طيفا شاحبا. لم يبق لي إلا أن أذهب إلى المطبخ وأفتح البراد وأتأكد من خلوه التام. ليس التام، فقد أخطأت، لأني وجدت فيه علبة مفضضة في داخلة قطعة من الروزبيف حمراء وبنية مجاورة لحبة بندورة حمراء وخضراء. كان منظرا يستحيل أن أصمد أمامه. أسرعت إلى الصالون كمجنونة، جلست أرضا وركبتاي بارتفاع صدري، مسعورة كذئبة جائعة. أدرت أول رقم لمع في ذاكرتي فسمعت صوت رجل يقول "برونتو" في الطرف الآخر من الحظ، أجبته بهدوء (أنا لوتشيلا، ماذا تفعل هذا المساء؟).

يجدر بي أن أقول لكم إن الرجل الذي كلمته هو الرجل الوحيد الذي لا أشعر معه بأني مومس. لماذا؟ الأمر سهل أليس كذلك؟ فهو الرجل الوحيد الذي يحبني. لكن تخيلوا سوء حظي! إنه فقير جدا وأنا لا أكلمه إلا في القليل النادر؛ أولا أني لا أحبه وثانيا لأني أعرف أنه لا يملك الكثير من المال لينفقه علي وأعترف أن الذهاب لتناول العشاء في مقهى رصيف من الدرجة الثالثة تضحية من قبلي لا أقوم بها إلا إذا كنت أحب ويجب أن أعترف أيضا انه، في قرارة نفسي، بيع حضوري أقوى من اشمئزازي. مثلما ينفطر قلب صاحب شجرة تطرح ثمارا يانعة عندما يرى هذه الثمار تتساقط وتتلف العشب.

طبعا، ما إن اقترحت عليه العشاء معي حتى قبل بحماس. كيف سيتصرف؟ هل سينفق جزءا كبيرا من مرتبه؟ هل سيطلب سلفة من أحد زملائه؟ في النهاية، هذا لا يهمني. وفوق ذلك سوف أمنعه بالقوة من الهرب إلى مقهى الرصيف الصغير والرائع.

لبست ثوبا جذابا جدا من موديل 1900 الأمريكي. له أجنحة في كل أنحائه، يلامس الأرض، مقوّرا من الأمام حتى السرقة، ومن الخلف حتى الخاصرتين. وهذا الثوب يتطلب مطعما فخما بالتأكيد. وهذا ما يلزم تماما لكي أجعل من نفسي وجها جميلا، بالنسبة إلى الرجل الذي يخرج معي أحس بنفسي مومسا حقيقية أكثر من أي وقت مضى لأني أعرف أنه لا يملك المال اللازم لكي يرافق امرأة تلبس مثلي إلى العشاء هذا المساء.

عندما سمعت أصوات أبواق عجولة أسرعت إلى الخارج. ما إن اجتزت الباب حتى توقفت مذهولة ومرعوبة، كلوحة تمثل العذراء بين قديسين معلقة في كنيسة، كنت هناك مسمرة بين رجلين أمامي، أحدهما إلى يميني والآخر إلى يساري. الأول كان عاشقي الفقير بهيئته، هيئة الشاب المثقف (إنه يدرس فلسفة) ثيابه رثة وتسريحته سيئة وتقف خلفه سيارته البائة التي يظن أنه يستطيع أن يخطفني فيها. وفي الناحية الأخرى يقف رجل من الأشخاص الأكثر إثارة للضحك وقد سميته القزم، لأنه في الواقع يشبه أحد أقزام (الثلج الأبيض) بأنفه الاحمر الضخم ومؤخرته الضخمة والروخوة وساقيه الغليظتين والمقوستين. وإن خوفي من البقاء وحيدة في البيت دفعني إلى الاتصال به منذ الأسبوع الماضي وحددت له موعدا ليأتي اليوم.

طيراني اليوم أفقدني ذاكرتي فنسيت الموعد. خلق القزم كانت هناك تربض سيارة كبيرة مغطاة بطبقة معدنية يجب أن أعترف أنها تتناسب تماما مع أثواب عارضات الأزياء اللواتي نرى منهن الكثير في دعايات السجائر. في زمن أقل مما يلزم لقول العبارة التالية فكرت أنه من الأفضل أخذ المال من جيب رجل غني على أن آخذه من جيب شيطان فقير، أي خبيثة أنا! -بعد أن أحسست بالارتياح لهذه الفكرة قلت لعاشقي الذي مد يده مسلما: (اعذرني لقد اقترفت حماقة. يجب أن أذهب مع ذاك السيد لأني حددت له موعدا منذ الأسبوع الماضي عن هذا المساء).

ذهبت للجلوس في السيارة المتوحشة بجانب قزم الثلج الأبيض الذي انحنى على المقود وقام بحركات صعبة للخروج من شارع شقتي وفي الوقت نفسه سألني من يكون ذلك الشاب، فأجبته لا شعوريا:

"إنه رجل حياتي"!

"وتتركين رجل حياتك لتخرجي معي"؟

"نعم، إنه رجل حياتي ولكن ليست هذه الحياة".

إن أفظع ما في الحياة هو الحياة نفسها.
__________________
NoUr kasem
NoUr kasem
مساعد المدير
مساعد المدير

عدد المساهمات : 1954
تاريخ التسجيل : 08/09/2009
العمر : 36
الموقع : دمشق . . فلسطينية الأصل

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصص قصيرة لكتاب كبار  Empty رد: قصص قصيرة لكتاب كبار

مُساهمة  NoUr kasem الإثنين يوليو 26, 2010 8:21 am

بحثا عن العمق

باتريك زوسكيند

ترجمة: كاميران حوج


راغبا في تشجيعها، ومن دون أي سوء نية، قال ناقد لفتاة من شتوتغارت، ترسم لوحات جميلة، في أول معارضها: "إن ما تقومين به موهوب ولافت للنظر، لكن عندك القليل جدا من العمق".
لم تفهم الفتاة ما يعنيه الناقد وفي الحال نسيت ملاحظته. لكن بعد يومين نشرت الجريدة لقاء مع الناقد نفسه جاء فيه: "تملك الفنانة الشابة الكثير من الموهبة وتثير اعمالها الإعجاب من النظرة الأولى، لكنها للأسف تفتقر إلى العمق".
بدأت الفتاة بالتفكير. تأملت في رسوماتها. نقبت في محافظ لوحاتها القديمة. تأملت جميع رسوماتها السابقة والرسومات التي تعمل عليها. ثم سدت زجاجات الحبر الصين. غسلت الفراشي وذهبت كي تتمشى.
في المساء نفسه دعيت إلى حفل. كان الجميع قد حفظ النقد عن ظهر قلب وكرروا الحديث عن الموهبة الكبيرة والإعجاب الشديد اللذين تثيرهما اللوحات من النظرة الأولى. لكن الفتاة تمكنت أن تلتقط من خلفية الدمدمة ومن أولئك الذين تقف وراءهم، إذ أصاخت السمع: "ليس عندها عمق. هذا بالضبط ما ينقصها. هي ليست سيئة، لكن للأسف ليس لديها عمق".
طوال الأسبوع التالي لم ترسم الفتاة شيئا. جلست صامتة في شقتها. أمعنت التفكير وجالت برأسها فكرة واحدة فقط، حاصرت أفكارها الأخرى مثل أخطبوط الأعماق وبلعتها: "لماذا ليس لدي عمق"؟
في الأسبوع الثاني حاولت الفتاة أن ترسم من جديد، لكنها لم تتعد مشاريع لوحات لا مهارة فيها. وأحيانا لم تتمكن من رسم خط واحد. في النهاية ارتجفت ارتجافا شديدا لم تقدر بعده على غمس الريشة في زجاجات الحبر الصيني. فبدأت بالبكاء وأعولت: "نعم، صحيح ما يقولون، ما عندي عمق".
في الأسبوع الثالث بدأت تحدق في كتب الفن، تدقق في اعمال الرسامين الآخرين، تتجول بين المعارض والمتاحف. قرأت كتبا نظرية عن الفن. ذهبت إلى المكتبة وطلبت من البائع أعمق ما لديه من الكتب. حصلت على عمل لكاتب اسمه (فيتغنشتاين). ولم تستفد منه شيئا.
انضمت أثناء تجوالها في معرض أقيم في متحف المدينة تحت عنوان "500 عام من الرسم الأوربي" إلى مجموعة من التلاميذ يقودهم مدرس الفنون. فجأة أمام لوحة من أعمال ليوناردو دافنشي تقدمت إلى المدرس وسألته: "المعذرة هل لكم أن تشرحوا لي إن كان في هذا الرسم عمق"؟ ابتسم لها المدرس ابتسامة ماكرة وقال: "إذا كنت تنوين أن تتسلي معي عليك أن تكوني أكثر مهارة، سيدتي الموقرة". ضحك التلاميذ من أعماق قلبهم، إلا أن الفتاة مضت إلى البيت وبكت بمرارة.
ازدادت غرابة الفتاة. لم تعد تترك مرسمها إلا بالكاد ورغم ذلك لم تتمكن من العمل. تناولت الحبوب لتبقى يقظى، دون أن تعلم ما الداعي لان تبقى يقظة. وعندما تتعب، كانت تنام في كرسيها، لأنها تخاف الذهاب إلى السرير، خشية عمق النوم. ثم إنها بدأت بالشراب وتركت الأضواء مشتعلة في الشقة طوال الليل. لم تعد ترسم. عندما اتصل بها تاجر فن من برلين طالبا بعض لوحاتها صرخت في التلفون: "اتركني بحالي، ليس لدي عمق".
عجنت الصلصال بين الحين والآخر، لكنها لم تشكل شيئا معينا. اكتفت بدس أناملها في الصلصال أو شكلت كبيبات صغيرة، أهملت مظهرها. لم تعد تأبه بملبسها وتبهدلت شقتها.
قلق عليها أصدقاؤها وقالوا: "يجب الاهتمام بها، فهي في أزمة. إما أن الأزمة إنسانية أو أنها فنية، وربما كانت مالية. في الحالة الأولى لا يمكن فعل شيء. وفي الحالة الثانية عليها تجاوز محنتها. وفي الحالة الثالثة يمكننا أن نجمع لها التبرعات، لكن أغلب الظن أن هذا سيؤذي مشاعرها". وهكذا اكتفوا بدعوتها إلى الطعام والحفلات. رفضت كل الدعوات بحجة العمل. لكنها لم تعمل، بل كانت تجلس في غرفتها، تحدق أمامها وتعجن الصلصال.
ذات مرة يئست من نفسها يأسا شديدا وقبلت إحدى الدعوات. أراد شاب أعجب بها أن يأخذها إلى البيت كي يضاجعها. قالت إن اصطحابه لها يسرها، فهو أيضا يعجبها، لكن عليه أن يحتاط، فهي لا تملك عمقا. وعليه وقف الشاب على مسافة منها.
تدهور وضع الفتاة التي كانت ترسم ذات مرة لوحات جميلة، بشكل ملحوظ. لم تعد تخرج مطلقا، لم تعد تستقبل أحدا. سمنت بسبب قلة الحركة وشاخت سريعا بسبب الكحول والحبوب. بدأت شقتها بالتعفن وفاحت منها هي رائحة حامضة.
كانت قد ورثت 30 ألف مارك، عاشت منها طوال ثلاثة أعوام. وقامت خلال تلك الفترة برحلة إلى نابولي، لا يعلم أحد تحت أية ظروف. من كلمها حصل منها جوابا على دمدمة غامضة. وعندما أنفقت نقودها مزقت المرأة الشابة رسوماتها وثقبتها. صعدت برج التلفزيون وقفزت من ارتفاع مائة وتسعة وثلاثين مترا. إلى العمق. لكن ولأن رياحا قوية هبت ذلك اليوم، لم تتحطم على الساحة الإسفلتية تحت البرج، بل حملتها الرياح عبر حقل الشوفان بعيدا حتى أطراف الغابة، حيث سقطت على أشجار التنوب، إلا أنها، رغم ذلك، ماتت.
شاكرة التقطت الصحافة الصفراء الموضوع. كان للانتحار بحد ذاته مسار الطيران الغريب، واقعة أن المنتحرة كانت فنانة واعدة، وعلاوة عليه وسيمة، قيمة معلوماتية عالية. ظهر أن وضع شقتها مأساوي، التقطت لها صور مثال على الشقاء. آلاف الزجاجات المفرغة. علامات الخراب في كل مكان. لوحات ممزقة، بقع الصلصال على الجدران، بل وحتى الفضلات في الزوايا. خاطرت الصحافة بعنوان رئيسي ثان وتقرير على الصفحة الثالثة.
في الصفحة الأدبية كتب الناقد المذكور أعلاه، تعليقا عبر فيه عن شديد أسف، لنهاية الفتاة هذه النهاية المؤلمة: "من جديد تهزنا من الأعماق، نحن الباقين، حقيقة أن نرى موهبة شابة، لا تملك من القوة ما يكفيها لتثبت وجودها في المشهد الفني. هنا لا يلعب تشجيع الدولة والمبادرات الفردية الدور الحاسم، عندما يتعلق الأمر بأن يفسح المجال بالدرجة الأولى لصب الاهتمام في الحقل الإنساني ولمرافقة متفهمة في القطاع الفني. بيد أن بلوغ هذه النهاية المأساوية يقع بالنتيجة على الفرد. أفلا تنطق أعمالها الأولى، الساذجة ظاهريا، بذلك التمزق المرعب، ألا يقرأ من تقنياتها صعبة المراس، صاحبة الرسالة، ذلك التمرد الموجه إلى الداخل، الذي يحفر الذات حلزونيا، غير المجدي بشكل واضح، الذي يبديه المخلوق على ذاته؟ ذلك البحث الجبري خطير العواقب، أود القول، الذي لا يرحم، عن العمق".
NoUr kasem
NoUr kasem
مساعد المدير
مساعد المدير

عدد المساهمات : 1954
تاريخ التسجيل : 08/09/2009
العمر : 36
الموقع : دمشق . . فلسطينية الأصل

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصص قصيرة لكتاب كبار  Empty رد: قصص قصيرة لكتاب كبار

مُساهمة  NoUr kasem الأربعاء يوليو 28, 2010 10:32 am

التسبيح

نجيب محفوظ


في وضح النهار والحارة تموج بأهلها من النساء والرجال والأطفال , والدكاكين على الصفين تستعد لاستقبال الزبائن
في وضح النهار سقط رجل ضعيف ضحية لعملاق جبار.
وشاهد الناس الجريمة وتواروا في برج الخوف
لم يشهد منهم أحد ومضى القاتل آمنا
وشهد الدرويش الحادث ولكنه لم يـُسأل للاعتقاد الراسخ في بلاهته , وغضب الأبله غضبا كدما عضوضا فعزم على الانتقام من الجميع
كلما واتته فرصه قضى على رجل أو امرأة وهو يسبح لله
.


المليم
نجيب محفوظ


وجدت نفسي طفلا حائرا في الطريق, في يدي مليم , ولكني نسيت تماما ما كلفتني أمي بشرائه , حاولت أن أتذكر ففشلت , ولكن كان من المؤكد أن ما خرجت لشرائه لا يساوي أكثر من مليم .
NoUr kasem
NoUr kasem
مساعد المدير
مساعد المدير

عدد المساهمات : 1954
تاريخ التسجيل : 08/09/2009
العمر : 36
الموقع : دمشق . . فلسطينية الأصل

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصص قصيرة لكتاب كبار  Empty رد: قصص قصيرة لكتاب كبار

مُساهمة  جبران الأربعاء يوليو 28, 2010 2:04 pm

شكرا لك على هذا المجهود العظيم ... مجموعة ممتعة. cheers
جبران
جبران

عدد المساهمات : 29
تاريخ التسجيل : 23/07/2010
العمر : 37

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصص قصيرة لكتاب كبار  Empty رد: قصص قصيرة لكتاب كبار

مُساهمة  NoUr kasem الخميس يوليو 29, 2010 7:50 am

شكرا لك على هذا المجهود العظيم ... مجموعة ممتعة

هذا واجبي وأكيد بنبسط وقت يلاقي كل شخص الشي يلي بيمتعوا ويفيدوا بهالمنتدى

بالفعل بتمنى من كل قلبي انو الكل يفوتو ويلاقوا الشي يلي بيرضيهم

عمحاول قدر الامكان اني ارضي جميع الأفكار دون استنثاء

مع خالص احترامي وتقديري flower
NoUr kasem
NoUr kasem
مساعد المدير
مساعد المدير

عدد المساهمات : 1954
تاريخ التسجيل : 08/09/2009
العمر : 36
الموقع : دمشق . . فلسطينية الأصل

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصص قصيرة لكتاب كبار  Empty رد: قصص قصيرة لكتاب كبار

مُساهمة  NoUr kasem الخميس يوليو 29, 2010 7:52 am


حنان بنت السلطان
يوسف إدريس

هوايتي الوحيدة هي اطلاق خيالي..

إني استطيع أن اقضي الساعات الطويلة، وأنا سرحان... ارقب خيالي وهو منطلق كأني أرقب عصفورا في السماء.. يقفز من شجرة إلى شجرة، ومن غصن إلى غصن.. ويزقزق دون سبب.. وبلا منطق..إلا مجرد الانطلاق والزقزقة..

وخيالي كذلك ليس له منطق في انطلاقه.. ولا حدود.. انه خيال مشرد.. مجنون.. يضحك كالمجانين ويبكي كالمجانين، ويبني قصورا ليهجرها ويعيش في كوخ.. ويقف خطيبا كروبسبير يقود جموع الشعب إلى الثورة.. ثم فجأة يترك جموع الشعب ليلعب الكرة الشراب مع أطفال حي زينهم.. إنه خيال مجنون.. ولكنني سعيد به.. إنه صديقي الوحيد.. إنه دنياي التي لا يشاركني فيها أحد..
وأحيانا وأنا سرحان، أحس أن في داخلي طفلا صغيرا.. جميلا.. وأحب هذا الطفل عندما أحس به.. أحبه جدا وأداعبه.. وأدلله وأغني له... وأستغل خيالي في ابتداع قصص صغيرة أرويها له، حتي ينام.. خصوصا عندما يبكي هذا الطفل.. وهو يبكي بكاء مزعجا كلما وقعت في مصيبة.. والمصائب كثيرة، وقد تعودت على احتمالها.. مهما كانت المصيبة، تراني دائما هادئا، مبتسما، قويا.. ولكن هذا الطفل الذي يعيش في داخلي، لا يحتمل المصائب.. لا تكاد مصيبة تقع لي حتى يرتفع صراخه حادا مزعجا يشق صدري.. وأضطر أن أحمله وأجلس به وحدي في غرفتي.. أدللـه، وأتحايل عليه.. ثم أطلق خيالي ليروي له بعض هذه القصص الصغيرة التي أبتدعها.. حتى يهدأ.. وينام..
هل تريدون أن تسمعوا القصص التي أرويها لطفلي؟ اسمعوا..

كان يا مكان، ما يحلى الكلام إلا بذكر النبي عليه الصلاة والسلام.

كان في زمن من الأزمان، سلطان اسمه حمدان، يحكم كل بلاد همدان.. له بنت وحيدة، جميلة، رقيقة.. اسمها حنان.

وكان السلطان يحب ابنته حنان ن حب عبادة، كانت أغلى عنده من كل مملكته.. لا يفتح عينه في الصباح إلا إذا قبلتهما حنان.. ولا يغمضهما إلا إذا قبلتهما حنان.. ولا يأكل إلا إذا أكلت حنان.. والسعادة تغمر القصر كله.. والشعب سعيد، يحب حنان كما يحبها أبوها السلطان.

وحنان تلعب، وتضحك، وتمرح في عز أبيها.. وكل رغبة من رغباتها أمرمطاع.

إلى أن بلغت حنان السادسة عشرة من عمرها، وبدأت تنتابها حالات غريبة، كانت تبدو أحيانا ساهمة، وأحيانا تعتكف في غرفتها ساعات طويلة، فإذا استدعاها ابوها خرجت إليه في استرخاء، وعيناها مطفأتان.

وسألها أبوها السلطان وقلبه ملهوف عليها: ما بك يا حنان؟

وأجابت حنان وهي تزفر أنفاسها: لا أدري يا أبي ولكني زهقانة..

وضحك السلطان ضحكة عريضة وقال: ابنة السلطان حمدان زهقانة؟.. هذا مستحيل.. مستحيل..

وصفق بيده وأمر باستدعاء جميع الفنانين في مملكته للترفيه عن حنان، وطرد الزهق عنها..

وفي ساعات اجتمع في القصر كالموسيقيين، وأشهر المطربين والمطربات ن والراقصات، والممثلين، والمضحكين، وأخذوا يعرضون عليها فنونهم وألعابهم أمام حنان.
وابتسمت حنان ابتسامة ضعيفة باهتة، ثم ما لبثت أن دخلت غرفتها، وأغلقت بابها عليها..
وازدادت حالة حنان سوءا..
وجهها النظر اخذ يذبل، بشرتها البيضاء يزحف عليها ضباب أصفر، شفتاها الضاحكتان لا تقويان على الابتسام، عيناها النشيطتان مرتخيتان، كسولتان كأنهما لا تجدان حولهما شيئا يستحق أن تراه.

واشتد جزع السلطان على ابنته، واستدعى كبار الأطباء في مملكته، والممالك المجاورة، وقضى الأطباء أياما يفحصون حنان، ويعيدون فحصها، ثم هزوا رؤوسهم في حيرة، إنهم لا يعرفون مرضها..
وتمزق قلب السلطان وجمع حوله فلاسفة عصره، وحكماءه، استدعاهم من جميع الأقطار، وسألهم رأيهم في حالة ابنته، وتشاور الفلاسفة والحكماء طويلا ثم قال أحدهم: يا جلالة السلطان أدام الله عزك وأيدك بنصره، إن شفاء الأميرة حنان في رحلة تقوم بها إلى بلاد سندان، لترى الجبال الخضراء، وبحيرات شفافة كالمرآة، وشلالات كذوب الفضة، وبلادا حباها الله بخصائص الجنة، فتسترد روحها الضائعة، وتملأ عينيها بالجمال، وتعود العافية، وفي الأسفار خمس فوائد والله أعلم.
وأقر الفلاسفة والعلماء قول زميلهم، ومشطوا لحاهم البيضاء بأصابعهم دليل استحسان الفكرة..
وفي الحال أمر السلطان بإعداد الركاب.
وسافرت حنان إلى بلاد سندان، يحوطها ألف من العبيد والفرسان.
ثم عادت بعد ستة شهور، واستقبلها أبوها السلطان عند مدخل المدينة، وشوقه يكاد يطير به من على الأرض، ولكنه ما كاد بنظر إلى وجهها حتى ذابت فرحته، وتلاشت ضحكته، وغاص قلبه بين قدميه، رأى عينيها ملؤهما الملل ن وشفتيها يكسوهما الزهق، وبشرتها صفراء، وجسدها هزيل، وصوتها ضعيف..
ورقدت حنان في فراشها لا تستطيع أن تقوم من عليه، وأبوها السلطان بجانبها يبكي آناء الليل وأطراف النهار، يناديها فلا تسمعه.. ويقبلها فلا تحس بقبلته.
وهمست خازندارة القصر في أذن السلطان:
-يا مولاي السلطان، أدام الله عزك وأيده بنصره، اسمح لي أن أتطاول على مفامكم العالي وأذكركم بأن الأميرة حنان أصبحت في عمر الزواج، ولو وجدت الزوج الذي يروي شبابها، لازدهرت حياتها.

ورفع السلطان حاجبيه دهشة، صحيح أن حنان أصبحت في عمر الزواج؟

وابتأس السلطان برهة، إن لا يريد أن يزوج ابنته حنان ويتنازل عنها لرجل آخر، ليس الآن.. ليس الآن.. ولكن.. ربما كان في الزواج شفاء..

وأعلن السلطان أنه قرر تزويج ابنته الأميرة حنان.

وجاء الأمراء الشبان من جميع أنحاء المعمورة يخطبونها، وكل منهم في أزهى ثيابه وكامل سلاحه، يمتطي صهوة جواده..
ووقفت حنان في ضعها وهزالها، تستعرض صفوفهم، وبجانبها خازندارة القصر تقص عليها محاسن كل واحد منهم.. وتغريها بكل واحد فيهم، لعلها ترضى وتختار، ولكن حنان لم يهتز لها رمش، ولا خفق قلب، طافت عليهم جميعا بعينيها

الملولتين ثم عادت إلى فراشها، وأعلنت أنها لا تريد الزواج.

وجلس بجانبها السلطان والأسى يشق صدره، وقال في توسل: ألا تقولين ما بك يا ابنتي؟

قالت حنان وهي تزفر أنفاسها: لا ادري يا أبي، ولكني زهقانة.

والحزن يخيم على القصر، وعلى الناس، والسلطان أهمل شؤون مملكته والحياة كلها واقفة لا تتحرك.

إلى أن كان يوم، وجاء إلى القصر شيخ مضيء الوجه، باسم الثغر، وقال إنه يحمل الدواء الذي يشفي الأميرة حنان، وطلب مقابلة السلطان.

واستقبله السلطان في لهفة. وقال الشيخ في صوت كنغم الشاي، وثغره باسم: خذ هذا الكيس واملأه، وعندما يمتلئ تشفى الأميرة حنان..

ثم رفع عن كتفه كيسا في حجم أكياس القمح، وقدمه للسلطان.

وقال السلطان: املأه بماذا؟

ولكن الشيخ لم يرد، تراجع في خطوات، وقبل أن يصل إلى الباب، كان قد اختفى.

وابتسم السلطان ابتسامة ساخطة يائسة، وقال: إن هذا الشيخ ساحر، وهذه حيلة ساحر، وقد جرب من قبل كل السحرة، وكل حيلهم لم تشفى حنان، ولكن.. لن يضره شيء إذا جرب هذه الحيلة أيضا.

وأمر السلطان عبيده بان يملأوا الكيس الذي أتى به الشيخ، وسال العبيد: نملأه بماذا يا مولانا؟

وفكر السلطان قليلا ثم قال: بالجواهر واللآلئ.

وجمع العبيد كل ما في القصر من جواهر وللآلئ، ولكن الكيس لم يمتلئ، إن كل ما يضعونه فيه يصغر حجمه ويرسب في القاع.

وصاح السلطان املأوه بالذهب والفضة.

ولكن الكيس لا يمتلئ، كل شيء يضعونه فيه يصغر حجمه ويرسب في القاع.

وصرخ السلطان: املأوه بما في مخازني من حبوب.

ولكن الحبوب أيضا يصغر حجمها وتتضاءل كمياتها، وترسب في القاع أيضا.

وجن السلطان وصرخ بأعلى صوته: املأوه بالرجال.

واستدعى العبيد كل الرجال، وكل رجل يضعونه في الكيس يصغر حجمه ويتضاءل ويرسب في القاع.

ويئس السلطان وحنان تزداد سوءا....

وفي ليلة من ذات الليالي، كانت حنان نائمة في هزالها وضعفها، وفتحت عينيها فجأة، فرأت أمامها الشيخ المضيء الوجه، الباسم الثغر، واتسعت عيناها دهشة وكادت تصرخ، ولكن الشيخ ابتسم لها وقال: لا تنزعجي يا ابنتي وخذي هذه الحبة الصغيرة، وعندما تسمعين المؤذن يؤذن لصلاة الفجر قومي من فراشك وضعي الحبة في الكيس وسيمتلئ بإذن الله.

وقالت الأميرة حنان في دهشة: ولكنها حبة صغيرة، كيف يمتلئ هذا الكيس؟

قال الشيخ باسم الثغر: بإذن الله، لا تنسي.... عندما يؤذن لصلاة الفجر.

واختفى الشيخ.

وظلت حنان ساهرة، تتقل من فراشها، وسارت على أطراف أصابعها في لبهاء القصر إلى أن وصلت إلى البهو الذي وضعوا فيه هذا الكيس، وألقت فيه بالحبة الصغيرة.

ورفعت رأسها فالتقت عيناها بالفارس حسان ن عبد ربه المكلف بحراسة البهو، وابتسمت.

وكانت المرة الأولى التي تبتسم فيها منذ سنين.

وعادت إلى غرفتها وهي تحس بشيء غريب يسري في كيانها، وتتساءل عن سر هذه الحبة التي أعطاها لها هذا الشيخ، وعن سر هذه النظرة التي رأتها في عين العاري حسان بن عبد ربه..

وقامت في اليوم التالي نشطة على غير عادتها، وذهبت إلى حيث وضعوا الكيس، فرات الحبة الصغيرة قد كبرت ورفعت رأسها فالتقت مرة ثانية بوجه الفارس حسان بن عبد ربه، فابتسمت ابتسامة اكبر من ابتسامة الأمس.

وجرت إلى غرفتها في خفة كأنها تطير، وهي تحس بالحياة تعود إليها، تحس بالعصافير وقد عادت تغني، والورد يتفتح، والياسمين، والشمس تشرق..

وفي كل يوم تذهب إلى حيث وضعوا الكيس..

وفي كل يوم تلتقي بالفارس حسان بن عبد ربه..

وفي كل يوم يزداد تدفق الحياة في اقصر....

وحنان تضحك، والسلطان يضحك.

وحسان بن عبد ربه يضحك، والناس كلهم يضحكون..

إلى أن كبرت الحبة حتى امتلأ بها الكيس إلى آخره..

وجاء الشيخ الباسم الثغر يزور حنان في أحلامها وقال لها:
-مبارك يا ابنتي، لقد شفيت بفضل الله.

-ولكن أيها الشيخ الجليل: ما اسم الحبة التي ملأت الكيس؟

وابتسم الشيخ المضيء الوجه وقال: اسمها الحب.

وتزوجت حنان من الفارس حنان بن عبد ربه، وعاشا في التبات والنبات، وخلفا صبيان وبنات، وتوتة، توتة، فرغت الحدوتة، حلوة ولا ملتوتة.

هذه هي إحدى القصص التي أرويها للطفل العنيد الذي يعيش في صدري، فيبتسم، ويهدأ، وينام.
NoUr kasem
NoUr kasem
مساعد المدير
مساعد المدير

عدد المساهمات : 1954
تاريخ التسجيل : 08/09/2009
العمر : 36
الموقع : دمشق . . فلسطينية الأصل

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصص قصيرة لكتاب كبار  Empty رد: قصص قصيرة لكتاب كبار

مُساهمة  NoUr kasem السبت يوليو 31, 2010 7:39 pm

تحت المظلة
نجيب محفوظ

انعقد السحاب وتكاثف كليل هابط ثم تساقط الرذاذ. اجتاح الطريق هواء بارد مفعم بشذا الرطوبة. حث المارة خطاهم، غير نفر تجمعوا تحت مظلة المحطة. وأوشكت الرتابة أن تجمد المنظر لولا أن اندفع رجل. اندفع راكضاً كالمجنون من شارع جانبي واختفى في شارع آخر على الجانب الآخر. تبعه على الأثر جماعة من الرجال والغلمان وهم يتصايحون "لص.. أمسكوا اللص". وما لبثت الضجة أن خفت رويداً حتى ماتت وتتابع الرذاذ. وخلا الطريق أو كاد أما المتجمعون تحت المظلة فبعضهم ينتظر الباص والبعض لاذ بها خوف البلل. وبُعثت ضجة المطاردة مرة أخرى وتدانت في اشتداد وتضخم ثم ظهر المطاردون وهم يقبضون على اللص ومن حولهم الغلمان تهلل بأصوات رفيعة حادة. وعند عرض الطريق في المنتصف حاول اللص الإفلات فأمسكوا به وانهالوا عليه صفعاً ولكماً فمن شدة الضرب قاوم وضرب كيفما اتفق. وشُدّت أعين الواقفين تحت المظلة إلى المعركة.
- يا لها من ضربات قاسية عنيفة !
- ستقع جريمة أشد من السرقة !
- انظروا.. الشرطي واقف في مدخل عمارة يتفرج..
- بل أدار وجهه إلى الناحية الأخرى..
واشتد الرذاذ فتواصل أسلاكاً فضية برهة ثم انهمر المطر. خلا الطريق إلا من المتعاركين والواقفين تحت المظلة. نال الإعياء من الرجال فكفوا عن تبادل الضربات ولكنهم أحاطوا باللص. وتبادلوا كلمات غير مسموعة معه وهم يلهثون. ثم انغمسوا في مناقشة هامة لم يميزها أحد دون مبالاة بالمطر. التصقت الملابس بأجسادهم ولكنهم واصلوا النقاش بإصرار وبلا أدنى اكتراث بالمطر. ووشت حركات اللص بحرارة دفاعه ولكن لم يصدقه أحد. ولوح بذراعيه فكأنما يخطب ولكن ضاع صوته في البعد وانهلال المطر. إنه بلاشك يخطب وهاهم يصغون إليه. تطلعوا إليه خُرْساً تحت المطر. وظلت أعين الواقفين تحت المظلة مشدودة إليهم.
- كيف أن الشرطي لا يتحرك !
- لذلك خطرت فكرة.. أن يكون الحدث منظر تصوير سينمائي !
- لكن الضرب كان حقيقياً..
- والمناقشة والخطابة تحت المطر ؟!
شيء طاريء جذب النظر. فمن ناحية الميدان انطلقت سيارتان في سرعة جنونية. مطاردة حامية فيما بدا. المتقدمة تطير طيراً والأخرى توشك أن تدركها. وإذا بالمتقدمة تفرمل بغتة حتى زحفت فوق أديم الأرض فصدمتها الأخرى صدمة عنيفة مدوية. انقلبتا معاً محدثتين انفجاراً وسرعان ما اشتعلت فيهما النيران. وارتفع صراخ وأنين تحت المطر المنهمر، ولكن لم يهرع أحد من المحدقين به إلى بقايا السيارتين اللتين أدركهما الخراب على بعد أمتار منهم. لم يبالوا بهما كما لا يبالون بالمطر. ولمح الواقفون تحت المظلة آدمياً من ضحايا الحادث يزحف ببطء شديد من تحت سيارة ملطخاً بالدم. حاول النهوض على أربع ولكنه سقط على وجهه سقطة نهائية.
- كارثة حقيقية بلا أدنى شك.
- الشرطي لا يريد أن يتحرك !
- لابد من وجود تليفون قريب.
ولكن أحداً لم يبرح مكانه خشية المطر. وقد انهل انهلالاً مخيفاً وقعقع الرعد. وانتهى اللص من خطابه فوقف ينظر إلى مستمعيه بثقة واطمئنان. وفجأة راح يخلع ملابسه حتى تجرد عارياً. رمى بملابسه فوق حطام السيارتين اللتين أطفأ نيرانهما المطر. دار حول نفسه كأنما يستعرض جسمه العاري. تقدم خطوتين وتأخر خطوتين وبدأ يرقص في رشاقة احترافية. وإذا بمطارديه يصفقون له تصفيقات إيقاعية على حين تشابكت أذرع الغلمان وراحوا يدورون من حولهم في دائرة متماسكة. وذهل الواقفون تحت المظلة ولكنهم رغم ذلك استردوا أنفاسهم.
- إن لم يكن منظراً تصويرياً فهو الجنون !
- منظر سينمائي بلا ريب وما الشرطي إلا أحدهم ينتظر دوره.
- وحادث السيارتين ؟
- براعة فنية وسوف نكتشف المخرج في النهاية وراء إحدى النوافذ.
فُتحت نافذة في عمارة مواجهة للمحطة محدثة صوتاً لافتاً للنظر. لفتت الأنظار رغم التصفيق وانهمار المطر. ظهر بها رجل كامل الزي فصفر صفيراً متقطعاً. وفي الحال فُتحت نافذة أخرى في نفس العمارة فظهرت بها امرأة متأهبة الزينة والملابس فاستجابت لصفيره بإشارة من رأسها. اختفيا معاً عن أنظار الواقفين تحت المظلة. وبعد قليل غادرا العمارة معاً. سارا متشابكي الذراعين بلا مبالاة تحت المطر. وقفا عند السيارتين المهشمتين. تبادلا كلمة، أخذا يخلعان ملابسهما حتى تعريا تماماً تحت المطر. استلقت المرأة على الأرض طارحة رأسها فوق جثة القتيل المنكفئ على وجهه. ركع الرجل إلى جانبها. بدأ غزل رقيق بالأيدي والشفاه. ثم غطّاها الرجل بجسده ومضى يمارس الحب. وتواصل الرقص والتصفيق ودوران الغلمان وانهمار المطر.
- فضيحة !
- إن لم يكن تصويراً فهو فضيحة وإن يكن حقيقة فهو جنون.
- الشرطي يشعل سيجارة..
واستقبل الطريق شبه الخالي حياة جديدة. جاءت من الجنوب قافلة من الجمال، يتقدمها حادٍ ويقودها رجال ونساء من البدو. عسكرت على مبعدة قصيرة من حلقة اللص الراقص. شُدت الجمال إلى أسوار البيوت ونُصبت الخيام. وتفرقوا فمنهم من تناول طعامه أو راح يحتسي الشاي أو يدخن وبعضهم غرق في السمر. ومن الشمال جاءت مجموعة من سيارات السياحة محملة بالخواجات. توقفت فيما وراء حلقة اللص ثم غادر راكبوها من الرجال والنساء فتفرقوا جماعات تستطلع المكان في نهم دون مبالاة بالرقص أو الحب أو الموت أو المطر.
ثم أقبل عمال بناء كثيرون تتبعهم لوريات مثقلة بالأحجار والأسمنت وأدوات البناء. وبسرعة مذهلة شيدوا قبراً رائعاً، وعلى مقربة منه أقاموا من الأحجار سريراً كبيراً، فغطوه بالملاءات وزينوا قوائمه بالورد، كل ذلك تحت المطر. ومضوا إلى حطام السيارتين فاستخرجوا منه الجثث، مهشمة الرؤوس محترقة الأطراف، وضموا إليها جثة المنكفئ على وجهه من تحت العاشقين اللذين لم يكفا عن ممارسة الحب، ثم رصوا الجثث فوق السرير جنباً إلى جنب، وتحولوا إلى العاشقين فحملوهما معاً وهما لا ينفصلان فأودعوهما القبر ثم سدوا فوهته وأهالوا عليهما التراب حتى سووه بالأرض. استقلوا بعد ذلك اللوريات فانطلقت بهم في سرعة عاصفة وهم يهتفون بكلام لم يميزه أحد.
- كأننا في حلم !
- حلم مخيف، ويحسن بنا أن نذهب..
- بل علينا أن ننتظر.
- ماذا ننتظر ؟
- النهاية السعيدة ؟!
- السعيدة ؟!
- وإلا فبشّر المنتج بكارثة !

في أثناء الحديث تربع فوق القبر رجل يرتدي روب القضاء. لم يرَ أحد من أين أتى. من عند الخواجات أو من عند البدو أو من حلقة الرقص، لم يعرف أحد. بسط صحيفة بين يديه وراح يتلو نصاً كأنما ينطق بحكم. لم يميز كلامه أحد إذ غطى عليه التصفيق وضوضاء الأصوات بشتى اللغات والمطر. ولكن كلماته غير المسموعة لم تضع فانتشرت في الطريق حركات كالأمواج الصاخبة في عنف وتضارب. نشبت معارك في محيط البدو وأخرى في مواقع الخواجات. واشتعلت معارك بين بدو وخواجات. وجعل آخرون يرقصون ويغنون. وأقبل كثيرون حول القبر وراحوا يمارسون الحب عرايا. وأخذت النشوة اللص فتفنن في رقصه وأبدع. واشتد كل شيء وبلغ غايته، القتل والرقص والحب والموت والرعد والمطر.
واندس بين الواقفين رجل ضخم، عاري الرأس يرتدي بنطلوناً وبلوفر أسود وبيده منظار مكبر. شق مكانه بينهم بعنف واستهتار. وجعل يراقب الطريق بمنظاره متجولاً به بين الأركان. وتمتم:
- لا بأس.. لا بأس..
تعلقت به أعين المجتمعين تحت المظلة باهتمام :
- هو ؟
- نعم.. هو المخرج.
وعاد الرجل يخاطب الطريق مغمغماً :
- استمروا بلا خطأ وإلا اضطررنا لإعادة كل شيء من البدء..
عند ذاك سأله أحدهم :
- هل سيادتك..
ولكنه قاطعه بإشارة عدائية وحاسمة فازدرد الرجل بقية سؤاله وسكت ولكن آخر استمد من توتر أعصابه شجاعة فسأله :
- حضرتك المخرج ؟
لم يلتفت إليه وواصل مراقبته. وإذا برأس آدمي يتدحرج نحو المحطة فيستقر على بعد أذرع منها والدماء تنفجر من مقطع العنق بغزارة. صرخ الرجال فزعاً أما الرجل فحدق بالرأس ملياً ثم غمغم :
- برافو.. برافو..
وصاح به رجل :
- ولكنه رأس حقيقي ودم حقيقي..
فوجه الرجل منظاره نحو رجل وامرأة يمارسان الحب ثم هتف نافد الصبر :
- غيّر الوضع.. حذار من الملل..
ولكن الآخر صاح به :
- ولكنه رأس حقيقي، من فضلك فهّمنا.
وآخر قال :
- كلمة واحدة منك تكفي لنعرف من أنت ومن هؤلاء..
وثالث قال بتوسل :
- لاشيء يمنعك من الكلام !
ورابع تضرع قائلاً :
- يا أستاذ لا تضن علينا براحة البال.
ولكن الأستاذ تراجع في قفزة مباغتة، كأنما يداري نفسه خلفهم. ذاب الصلف في نظرة مترقبة، وتوارت نفخته، كأنما طعن به السن أو تردى في مرض. رأى المجتمعون تحت "المحطة" نفراً من الرجال ذوي هيئة رسمية يتجولون غير بعيد عن المحطة كأنهم كلاب تشمّم. واندفع الرجل راكضاً مجنوناً تحت المطر. انتبه إليه رجل من المتجولين فاندفع أيضاً صوبه يتبعه الآخرون كعاصفة. وسرعان ما اختفوا جميعاً عن الأنظار، مخلفين الطريق للقتل والحب والرقص والمطر.
- يا ألطاف الله ! لم يكن المخرج كما توهمنا..
- من يكون ؟
- لعله لص..
- أو مجنون هارب !
- أو لعله ومطارديه ضمن المنظر السينمائي.
- هذه أحداث حقيقية لا علاقة لها بالتمثيل.
- ولكن التمثيل هو الفرض الوحيد الذي يجعلها معقولة على نحو ما.
- لا داعي لاختلاق الفروض..
- فما تفسيرك لها ؟
- هي حقيقة بصرف النظر..
- كيف أمكن أن تقع ؟
- هي واقعة.
- يجب أن نذهب بأي ثمن.
- سنُدعى للشهادة عند التحقيق.
- ثمة أمل باقٍ..
قال هذا واتجه ناحية الشرطي وصاح :
- يا شاويش..
كرر النداء أربعاً حتى انتبه إليه الرجل. فقطب متنحنحاً فأشار إليه يستدعيه قائلاً :
- من فضلك يا شاويش..
نظر الشرطي إلى المطر متسخطاً ثم حبك المعطف حول جسمه ومضى نحوهم مسرعاً حتى وقف تحت المظلة. تفحصهم بقسوة متسائلاً :
- ما شأنكم ؟
- ألم ترَ ما يحدث في الطريق ؟
لم يحول عينيه عنهم وقال :
- كل من كان في المحطة استقل سيارته إلا أنتم فما شأنكم ؟
- انظر إلى هذا الرأس الآدمي !
- أين بطاقاتكم ؟
ومضى يتحقق من شخصياتهم وهو يبتسم ابتسامة ساخرة قاسية ثم سألهم :
- ما وراء اجتماعكم هنا ؟
تبادلوا نظرات إنكار وقال أحدهم :
- لا يعرف أحدنا الآخر !
- كذبة لم تعد تجدي..
تراجع خطوتين.. سدد نحوهم البندقية. أطلق النار بسرعة وإحكام. تساقطوا واحداً في إثر الآخر جثة هامدة. انطرحت أجسادهم تحت المظلة أما الرؤوس فتوسدت الطوار تحت المطر.
NoUr kasem
NoUr kasem
مساعد المدير
مساعد المدير

عدد المساهمات : 1954
تاريخ التسجيل : 08/09/2009
العمر : 36
الموقع : دمشق . . فلسطينية الأصل

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصص قصيرة لكتاب كبار  Empty رد: قصص قصيرة لكتاب كبار

مُساهمة  NoUr kasem الأربعاء أغسطس 04, 2010 2:20 am

وردة إلى إميلي

وليم فولكنر

ترجمة: رافع الصفار


1

عندما توفيت الآنسة إميلي غريرسون (Emily Grierson)، حضر الجميع مراسيم جنازتها. الرجال من أجل التعبير عن حبهم الكبير لهذه المرأة التي كانت صرحا فهوى فجأة، والنساء يدفعهن الفضول لرؤية بيتها الذي لم يدخله أحد باستثناء الخادم المكلف بمهام البستاني والطباخ طوال العشر سنوات الماضية.

كان بيتا كبيرا مربع الشكل، ذا طراز كان شائعا في السبعينات، سبق أن طلي باللون الأبيض، تعتليه قباب وأبراج وتحيط به شرفات دائرية، يقع على ما كان يعرف في يوم ما بشارعنا المفضل. لكن الكراجات ومحالج القطن التي زحفت عليه طمست فيه كل ملامح الوقار، باستثناء بيت الآنسة إميلي الذي ظل رافعا هيكله المتداعي بعناد وغنج، شامخا وسط عربات القطن ومضخات الغاز.

والآن رحلت الآنسة إميلي كي تلتحق بممثلي تلك الأسماء الطنانة الراقدين في المقبرة المعزولة تحت أشجار السدر بين قبور جنود الاتحاد المجهولين الذين سقطوا في معركة جيفرسون.

كانت الآنسة إميلي في حياتها تمثل نوعا من الالتزام المتوارث المفروض على المدينة والذي يعود إلى ذلك اليوم من عام 1894 عندما قام الكولونيل سارتوريس ، عمدة المدينة، وصاحب القرار الذي يمنع المرأة الزنجية من الخروج إلى الطريق من دون مريلتها، بإعفائها من الضرائب، ذلك الإعفاء المرتبط بوفاة أبيها ومن ثم تحول بعد ذلك إلى حالة دائمة. ولم تكن الآنسة إميلي لتقبل بالصدقات، ولهذا لجأ الكولونيل سارتوريس إلى اختلاق رواية تقول بأن والد الآنسة إميلي سبق له أن قدم قروضا للمدينة التي ترى بأن هذه هي الطريقة الأمثل لسداد هذا الدين. لن يبتكر هذا إلا رجل من نمط الكولونيل في سلوكه وأخلاقه وطريقة تفكيره، ولن يصدق ما ذهب إليه إلا امرأة فقط.

عندما جاء رجال الجيل التالي بأفكارهم الأكثر حداثة ليصبحوا عمدا ونواب حكام، فإن هذا الترتيب ما عاد مقنعا لهم. مع بداية العام بعثوا لها ببلاغ تسديد الضريبة. حل شهر فبراير دون أن يحصلوا على رد منها. كتبوا لها رسالة رسمية يطلبون منها الحضور إلى مكتب الشريف وفي الوقت الذي يناسبها. وبعد حوالي أسبوع كتب لها العمدة بنفسه يعرض عليها أن يقوم بزيارتها أو أن يبعث لها بسيارته. جاءه الرد مدونا على ورقة قديمة حائلة اللون وبخط رقيق باهت يعلمه بأنها توقفت عن الخروج منذ زمن، وكان البلاغ مرفقا مع الرد دون ملاحظة أو تعليق.

قاموا بعقد اجتماع لمجلس إدارة المدينة، وبعثوا بمندوبين عنهم لمقابلة الآنسة إميلي في بيتها. قرعوا البوابة التي لم يعبرها زائر منذ توقفت عن إعطاء دروس في الرسم على الخزف الصيني قبل ثمان أو عشر سنين. قادهم الزنجي العجوز إلى داخل ردهة معتمة ومنها إلى سلالم أكثر عتمة مشبعة بالغبار والرطوبة، وانتهى بهم داخل غرفة الجلوس، وكان أثاثها فخما في شكله مغلف بالجلد. عندما أزاح الزنجي الستارة عن إحدى النوافذ، كشف الضوء لهم التشققات المنتشرة في الجلد، وعندما جلسوا تصاعد غبار خفيف حول أفخاذهم راحت جزيئاته تتمطى داخل خطوط أشعة الشمس المنسلة من النافذة. على مسند ذي لون مذهب داكن أمام الموقد كانت تنتصب صورة لوالد الآنسة إميلي رسمت بأقلام الشمع الملونة.

نهضوا واقفين عندما دخلت عليهم. كانت امرأة بدينة صغيرة الحجم تتلفع باللون الأسود، حول جيدها سلسلة ذهبية تتدلى حتى خصرها وتختفي تحت الحزام، تتوكأ على عصا سوداء ذات مقبض من ذهب خابي اللون. كانت منتفخة مثل جسد ترك غاطسا في ماء راكد زمنا، ذات بشرة شديدة الشحوب، وكانت عيناها الضائعتان بين طيات وجهها كأنهما فحمتان صغيرتان مضغوطتان داخل قطعة عجين تتحركان من وجه إلى آخر بينما الضيوف يذكرون لها أسباب الزيارة.

لم تطلب منهم أن يجلسوا. ظلت واقفة عند الباب تستمع بهدوء حتى أنهى المتحدث كلامه. وكان بإمكانهم أن يسمعوا تكتكة الساعة المعلقة بالسلسة الذهبية والمختفية تحت الحزام.

جاء صوتها جافا وباردا:

- أنا معفاة من الضرائب في جيفرسون. الكولونيل سارتوريس أوضح لي هذا، ويمكنكم أن تعودوا إلى سجلات المدينة للتأكد من ذلك.

- سبق وفعلنا، فنحن السلطة. ألم تستلمي البلاغ المرسل والموقع من قبل الشريف؟

أجابت الآنسة إميلي قائلة:

- نعم، استلمت ورقة. قد يعتبر نفسه شريفا.. ولكني معفاة من الضرائب في جيفرسون.

- ولكن ليس هنالك ما يثبت كلامك، لذا علينا أن...

-ارجع إلى الكولونيل سارتوريس. أنا معفاة من الضرائب.

- ولكن يا آنسة إميلي...

- ارجع إلى الكولونيل سارتوريس. (الكولونيل سارتوريس متوفى منذ عشر سنوات) أنا معفاة من الضرائب.

ثم صاحت منادية

- توب.

فظهر الزنجي.

- رافق السادة إلى الخارج.

2

وهكذا هزمتهم، فرسانا ومشاة، تماما كما هزمت آباءهم قبل ثلاثين عاما حول الرائحة العفنة.

حدث ذلك بعد سنتين من وفاة والدها، ولم تمض بعد فترة طويلة على هجر حبيبها لها، والذي اعتقدنا أنه سوف يتزوجها. بعد وفاة أبيها كانت تخرج من حين لآخر، وبعد أن هجرها حبيبها لم يعد يراها أحد. بعض النسوة تجرأن وذهبن لزيارتها، لكنها لم تستقبلهن. وكان الزنجي العلامة الوحيدة على وجود حياة في البيت، يراه الناس يدخل ويخرج حاملا سلة التسوق.

قالت بعض السيدات:

- كما لو أن الرجل، أي رجل، يستطيع أن يؤدي واجبات المطبخ بالشكل الأمثل.

لذا لم يكن أمرا مثيرا للدهشة عندما انتشرت في المنطقة رائحة عفنة. وكان ذلك رابط آخر بين جمهرة الناس وآل غريرسون المتعالين.

جارة لها، عجوز في الثمانين شكت الأمر للعمدة، القاضي ستيفنز. قال لها متسائلا:

- وماذا تريدين مني أن أفعل يا سيدتي؟

- ابعث لها بخطاب كي تتدبر الأمر. أليس هنالك قانون؟

أجابها القاضي ستيفنز

- لا أرى ذلك ضروريا. ربما تكون هذه الرائحة ناتجة عن جرذ قتله الزنجي. سأتحدث معه في هذا الأمر.

في اليوم التالي استلم شكاوى أخرى. إحداها كانت من رجل قدم شكواه على استحياء.

- يجب أن نفعل شيئا بخصوص الموضوع سيدي القاضي. قد أكون آخر من يفكر في مضايقة الآنسة إميلي، ولكن لابد من عمل شيء.

في تلك الليلة اجتمع مجلس إدارة المدينة، ثلاثة بلحى بيضاء ورابعهم شاب ينتمي إلى الجيل الصاعد.

- المسألة في غاية البساطة. نبعث لها بخطاب نعلمها بضرورة أن تقوم بتنظيف بيتها، ونعطيها الوقت الكافي لتقوم بذلك، وإذا لم تفعل....

صرخ القاضي ستيفنز:

- اللعنة يا سيدي. هل تريد أن تتهم سيدة في وجهها بعفونة رائحتها؟

بعد منتصف الليلة التالية عَبَرَ أربعة رجال حديقة الآنسة إميلي وداروا حول المنزل كاللصوص يتشممون قواعد الجدران وفتحات القبو، بينما كان أحدهم ينشر شيئا ما من كيس معلق على كتفه. بعدها اقتحموا باب القبو ونشروا في داخله محلول الجير.

أثناء عبورهم للحديقة ثانية مبتعدين عن البيت، أضيئت إحدى النوافذ وأطلت منها الآنسة إميلي. انعكاس الضوء عليها من الخلف جعلها تبدو مثل تمثال مبتور الرأس والذراعين. لم يلتفتوا وواصلوا زحفهم عبر الأرض الخضراء صوب أشجار الخرنوب المحاذية للطريق حيث ابتلعتهم العتمة. بعد أسبوع أو اثنين اختفت الرائحة.

كان ذلك عندما بدأ الناس بالتعاطف معها. فسكان مدينتنا والذين مازالوا يتذكرون عمتها السيدة ويات التي فقدت عقلها تماما، يرون بأن آل غريرسون يضعون أنفسهم في موقع أرفع بقليل مما هم في الحقيقة. ولم يكن أحد من الشباب جيدا مع الآنسة إميلي. كنا دائما ننظر إليهما كلوحة: إميلي بجسدها الأهيف وملابسها البيضاء في الخلف، وأبوها بملابسه الداكنة المعتمة في مقدمة الصورة، ممسكا بسوطه موليا ظهره لأبنته، ويتأطران بالباب الأمامي المدفوع إلى الوراء. لذلك عندما بلغت الثلاثين ولم تكن قد تزوجت بعد، لم نكن مسرورين تماما، ولكن باحثين عن تبريرات: فبالرغم من الجنون المتوارث في العائلة، ما كانت لتضيع كل الفرص المتوفرة أمامها لو كان فيها شيئا من الواقعية.

عندما توفي أبوها تبين أنه لم يترك لها غير البيت، ففرح الناس لذلك لأنهم أخيرا سيشفقون على الآنسة إميلي، ثم إن الوحدة والحاجة سيجعلان منها كائنا أكثر إنسانية، وستعرف الآن قيمة القرش.

في اليوم التالي للوفاة تهيأت النسوة للتوجه إلى بيت المتوفى لتقديم العزاء والمساعدة. وكما هي العادة المتبعة استقبلتهن الآنسة إميلي عند الباب مرتدية ملابسها العادية ولم يكن باديا عليها أي أثر للحزن. قالت لهن بأن أباها ما يزال حيا. فعلت ذلك لثلاثة أيام متتالية رغم محاولات رجال الدين والأطباء في إقناعها للتجهيز لمراسيم دفن الجثة. كانوا على وشك اللجوء إلى القضاء عندما انهارت أخيرا، فقاموا بدفن الجثة على عجل.

ولم نقل بأنها جنت، بل أعطيناها بعض الحق فيما فعلت. وعندما تذكرنا كل أولئك الشباب الذين طردهم أبوها، أدركنا بأن إميلي وبعد أن خسرت كل شيء كان لابد لها من التشبث بالذي سلبها كل شيء، وكما سيفعل الآخرون.

3

يبدو أنها كانت مريضة لزمن طويل. عندما رأيناها ثانية، كان شعرها قصيرا، وقد جعلها تبدو كفتاة، مع شبه غامض لتلك الملائكة المرسومة على نوافذ الكنيسة الملونة- شيء من سكينة مأساوية.

كانت المدينة قد سمحت للتو بتنفيذ عقود تعبيد الأرصفة، وفي الصيف الذي تلا وفاة والدها باشروا بالعمل. قامت شركة الإنشاءات المكلفة بجلب الزنوج والبغال والمعدات، وكان مراقب العمال، واسمه هومر بارون، شماليا ضخم الجثة، أسمر اللون، مستنفرا على الدوام ذا صوت جهوري وعينين أقل عتمة من وجهه. كان الأولاد الصغار يلاحقونه كي يسمعوه وهو يشتم ويلعن العمال الذين لا يتوقفون عن الغناء مع ارتفاع وهبوط المعاول. عرف الجميع في زمن قياسي. وأينما سمعت صخبا وضحكا في مكان ما من الميدان، فلابد أن هومر بارون يتوسط تلك المجموعة. بعدها بدأنا نراه مع الآنسة إميلي في عصريات الآحاد في العربة الصفراء يجرها زوج من الخيول ذات لون بني داكن اختيرت بعناية من حظائر سباق الخيل.

سعدنا في البداية لأن الآنسة إميلي وجدت في ذلك شيئا من المتعة والتسلية، ولأن جميع النساء تقريبا قالوا بأن آل غريرسون لن يعيروا اهتماما لكون الرجل من الشمال وعامل أجرة باليومية. لكن كبار السن، والذين كان لهم رأي آخر، قالوا بأنه لا يمكن للحزن مهما كان شديدا أن يجعل المرأة الأصيلة تنسى كرامة وشرف العائلة. لم يستخدموا بالضبط تلك الكلمات لمنهم قالوا: المسكينة إميلي، لابد لأقاربها أن يعرفوا بالأمر. ولدى إميلي أقارب في ألاباما، لكنه من سنين طويلة حصل خلاف بينهم وبين أبيها حول أملاك العجوز المجنونة ويات وانقطع الاتصال بين العائلتين من حينها، حتى أنهم لم يحضروا إلى مراسيم الجنازة.

وبدأ الهمس حالما قال كبار السن: المسكينة إميلي. كان أحدهم يقول إلى الآخر:

- هل تعتقد أن الأمر بهذا الشكل؟

- بالتأكيد هو كذلك وإلا ماذا يمكن أن يكون؟

ويجري الهمس كلما مرت العربة الصفراء في الطريق من أمام النوافذ تحت شمس عصر يوم أحد. المسكينة إميلي.

كانت ترفع رأسها عاليا حتى عندما كنا نعتقد بأنها على وشك أن تسقط، كأنها كانت تطالبنا أكثر من ذي قبل بعلو مقامها باعتبارها آخر فروع آل غريرسون، وكما لو أنها كانت تنتظر تلك اللمسة الأرضية لتؤكد منعتها وحصانتها. تماما كتلك الحالة التي اشترت فيها سم الفئران. وكان قد مر عام تقريبا على موضوع الهمس الذي جرى حولها، وكانت اثنتين من بنات عمها قد جئن لزيارتها.

قالت للصيدلي:

- أريد بعض السم.

كانت قد تجاوزت الثلاثين من عمرها، وكانت ما تزال نحيفة، ولو أنها أكثر نحافة من المعتاد. عيناها سوداوان يشع منهما عدم الود والعجرفة تتوسطان وجها مشدودا عند الصدغين وحول المحجرين يشبه في ذلك وجه حارس الفنار كما ينبغي أن يتخيله المرء. قالت:

- أريد بعض السم.

- أي نوع تريدين سيدتي؟ هل هو للفئران؟ أعتقد أن...

قاطعته إميلي قائلة:

- أفضل ما عندك، ولا يهم النوع.

ذكر الصيدلي بضعة أنواع قائلا:

- إنها يمكن أن تقتل حتى الفيل، ولكني....

قاطعته إميلي مرة أخرى لتقول:

- زرنيخ. هل هو نوع جيد؟

- هل ...الزرنيخ؟ دون شك سيدتي، ولكن لماذا تريدين...

- أريد زرنيخ.

نظر الصيدلي إليها، ونظرت إليه منتصبة، مشدودة كالعلم. أجابها أخيرا:

- بالطبع، سيدتي، ولم لا مادام هذا هو طلبك. ولكن القانون يتطلب منك أن تذكري دواعي الاستعمال.

لم ترد عليه لكنها راحت تحدق في وجهه وفي عينيه ورأسها مدفوع إلى الوراء، حتى انسحب بنظراته بعيدا عنها وتحرك ليجلب لها السم. لكنه لم يرجع إليها، بل جاءها الزنجي الصغير العامل في الصيدلية ليسلمها الطرد. وعندما فتحته في البيت قرأت تحت الجمجمة والعظمتين كلمات تقول: سم فئران.

4

وفي اليوم التالي قلنا: ستقتل نفسها، وأكدنا بأن هذا هو أفضل شيء يمكن أن تفعله. وعندما بدأت تخرج مع هومر بارون قلنا: سوف تتزوجه. بعدها قلنا بأنها سوف تنجح في إقناعه، لأن هومر سبق وأن أشار بنفسه بأنه يحب الغلمان، كما أن الجميع يعرفون بأنه يسكر مع الشباب في نادي ألك، وذلك هو السبب وراء امتناعه عن الزواج. ثم بدأنا نقول: المسكينة إميلي من خلف الشبابيك عندما تمر عربتهما، إميلي مرفوعة الرأس، وهومر على جانبها قبعته مدفوعة إلى الوراء والسيجار بين أسنانه، ممسكا باللجام والسوط بقفازات صفراء.

وعلت ثرثرة بعض النسوة اللواتي قلن بأن إميلي عار على البلدة ونموذج سيء للشباب. ولم يكن يرغب الرجال بالتدخل. لكن النساء تمكن في النهاية من إرغام رئيس الكنيسة المعمدانية على القيام بزيارتها. لم يكشف عما جرى في تلك المقابلة، ورفض أن يعود إليها ثانية. الأحد التالي عادا للظهور ثانية في شوارع المدينة، وفي اليوم التالي كتبت زوجة رئيس الكنيسة إلى أقارب إميلي في ألاباما.

وهكذا ظهر أقاربها في البيت ثانية، فانسحبنا من الواجهة نراقب تطور الأمور عن كثب. في البداية لم يحدث شيء. بعدها تأكدنا من أنهما سيتزوجان. علمنا بأن الآنسة إميلي ذهبت إلى محل الجواهر وطلبت طقم تواليت فضي رجالي مكتوب على كافة قطعه الحرفان (H. B.). وبعد يومين عرفنا بأنها اشترت ملابس رجالية من ضمنها قميص نوم، فقلنا بأنهما قد تزوجا. كنا سعداء حقا، سعداء لأن ابنتي عمها كانتا أكثر انتماء لآل غريرسون من إميلي نفسها.

لذا لم نندهش عندما رحل هومر بارون، وكانت أعمال تعبيد الطريق قد انتهت منذ فترة. ربما أصابتنا الخيبة بعض الشيء لأنهم لم يحتفلوا بالمناسبة علنا، لكننا اعتقدنا بأنه رحل كي يهيئ لاستقبال إميلي، أو ليمنحها الفرصة كي تتخلص من ابنتي عمها ( في ذلك الوقت كنا جميعا متعصبين لإميلي ونتحاشى تماما القريبتين). بعد أسبوع رحلتا، وكما توقعنا، وخلال ثلاثة أيام، عاد هومر بارون إلى المدينة. في إحدى الأمسيات رأى أحد الجيران الزنجي وهو يفتح له باب المطبخ.

وكانت تلك آخر مرة نرى فيها هومر بارون. وكنا نرى الآنسة إميلي أحيانا. ظل الزنجي يخرج ويدخل حاملا سلة التبضع، لكن الباب الرئيس ظل مغلقا. ومن حين لآخر كنا نراها تطل من النافذة لبعض الوقت كما حدث مع الرجال الذين نشروا محلول الجير حول البيت. لكنها تقريبا لستة شهور لم تظهر في شوارع المدينة. حتى هذا كنا نتوقعه، إذ يبدو أن سلوك والدها الذي وقف حائلا بينها وبين إشباع حاجاتها كأنثى ولأكثر من مرة قد ترك في أعماقها حقدا وغلا لا يمحي ولا يموت بسهولة.

عندما رأينا الآنسة إميلي في المرة التالية كانت قد ازدادت سمنة وغزا الشيب شعرها. وخلال بضع سنوات ابيض شعر رأسها تماما، لكنه ظل محتفظا بحيويته حتى لحظة موتها وهي الرابعة والسبعين من عمرها.

منذ ذلك الوقت ظل الباب الرئيس مغلقا باستثناء فترة ست أو سبع سنوات عندما كانت في الأربعين، خلالها كانت إميلي تعطي دروسا في الرسم على الخزف الصيني. قامت بتحويل إحدى غرف الطابق الأرضي إلى استديو حيث تستقبل بنات وحفيدات العوائل خلال فترة الكولونيل سارتوريس والذين واظبوا على إرسالهن إليها بصورة منتظمة تماما كما كانوا يرسلوهن أيام الآحاد إلى الكنيسة، تحمل كل واحدة منهن عشرين سنتا من أجل صحن التبرعات.

بعدها احتل الجيل الجديد مواقع السلطة في البلدة،وكبر التلاميذ فانفرطوا عنها ولم يرسلوا أولادهم إليها محملين بعلب الألوان والفرش والصور المقطوعة من المجلات النسائية، فأغلق الباب الرئيسي ولم يفتح. عندما حصلت المدينة على خدمات مجانية للبريد، لم تسمح لهم بتثبيت الحروف المعدنية على الباب أو تعليق الصندوق، ورفضت أن تصغي لهم.

كل يوم وعلى امتداد أشهر السنة والسنوات المتواصلة كنا نراقب الزنجي وهو يكبر ويشيب شعره ويزداد انحناء وهو يخرج ويدخل حاملا سلة التبضع. وفي الشهر الأخير من كل سنة نبعث لها ببلاغ الضريبة، فتعيده إلينا بالبريد بعد أسبوع من إرساله. ومن حين لآخر نراها عند أحد نوافذ الدور الأرضي كأنها تمثال في محراب تنظر أو لا تنظر إلينا وهذا ما لم نستطع البت به. كان واضحا لنا أن إميلي أغلقت الدور العلوي للبيت. هكذا كانت تنتقل من جيل إلى آخر عزيزة، منيعة، لا مفر منها، نقية ومنفلتة.

وأخيرا ماتت. مرضت في بيت تملؤه الظلال والغبار، لا أحد معها غير زنجي عجوز متهالك يقوم على خدمتها. ونحن لم نعرف بأنها كانت مريضة، فقد تخلينا منذ زمن بعيد عن متابعة أخبارها وسؤال الزنجي عنها، والذي لم يكن يتحدث مع أحد، بل ربما لم يكن يتحدث حتى معها، لأن صوته صار جافا خشنا وصدئا من عدم الاستعمال.

توفيت إميلي في إحدى غرف الدور الأرضي في سرير فخم مصنوع من خشب الجوز، وكان رأسها الأشيب يرقد على وسادة صفراء متعفنة بسبب قدمها ونقص ضوء الشمس.

5

استقبل الزنجي طلائع النساء المعزيات عند الباب الرئيسي، وكن يحذرن بعضهن بالتزام الهدوء، بينما كانت عيونهن تتحرك بفضول شديد في أرجاء المكان. تركهن الزنجي وتحرك مبتعدا إلى الداخل حيث اختفى ولم يره أحد ثانية.

حضرت ابنتا عمها في نفس يوم وفاتها، وأقامتا مراسيم الجنازة في اليوم التالي، فحضر الجميع لإلقاء النظرة الأخيرة على الآنسة إميلي وهي ترقد في كفن مجلل بالورود، ووجه والدها في الصورة التخطيطية يطل عليها بنظرته التأملية العميقة، والنسوة من حولها يتهامسن وهن في حالة رهبة وفزع، وعدد من الرجال كبار السن جدا، بعضهم في بزاتهم الاتحادية، تجمعوا في الرواق أو في الحديقة يتحدثون عن الآنسة إميلي كما لو كانت تنتمي لجيلهم، معتقدين بأنهم رقصوا معها وربما غازلوها أيضا، وقد تداخلت واختلطت عليهم الأزمنة كما يحدث لكبار السن عادة، والذين يبقى الماضي بالنسبة لهم أكبر من كونه طريقا باهت الألوان، بل هو مرج أخضر مترامي الأطراف لم يدنو منه أو يلمسه شتاء، يفصله عنهم طريق ضيق أشبه بعنق زجاجة متمثلا في سنوات العمر الأخيرة.

وعرفنا بأنه يوجد غرفة واحدة في الدور العلوي لم يدخلها أحد منذ أربعين عاما، فانتظروا حتى انتهاء مراسيم دفن الآنسة إميلي كي يفتحوها.

الاقتحام العنيف لباب الغرفة جعلها تمتلئ بالغبار المتطاير. وكان هنالك حجاب من القتامة، كما لو في القبر، يبعث على الكآبة، يغلف أرجاء الغرفة المعدة لليلة عرس، وينتشر فوق الستائر ذات اللون الزهري الحائل والمصابيح وطاولة الزينة وأدوات زينة رجالية مغلفة بطبقة من الفضة الصدئة، وقد أخفى الصدأ حروفا حفرت عليها، وإلى جانب تلك الأدوات كانت هنالك ربطة عنق وياقة كأنهما خلعا للتو، عندما رفعناهما من موضعهما، تركا هلالا شاحبا من الغبار. وفوق كرسي وضعت بدلة طويت بعناية، وتحت الكرسي حذاء وجوربان.

وكان الرجل نفسه يرقد في السرير.

لبرهة من الزمن وقفنا في موضعنا هناك نتأمل تلك التكشيرة العظمية. كان واضحا أن الرجل منذ رقدته الأولى وهو في حالة عناق، لكن النوم الطويل على ما يبدو قد أزاح عنه كل ما له علاقة بالحب. وما بقي منه كان متفسخا تحت ما تبقى من بيجامته، متحولا إلى جزء غير قابل للفصل عن السرير الذي يرقد فيه.

ثم لاحظنا وجود انبعاج في الوسادة الثانية يشير إلى استخدامها من قبل شخص آخر. والتقط أحدنا شيئا من على تلك الوسادة. عندما انحنينا لتفحصه، واخترقت خياشيمنا رائحة الغبار الحارقة، تأكد لنا بأنها شعرة طويلة رمادية اللون
NoUr kasem
NoUr kasem
مساعد المدير
مساعد المدير

عدد المساهمات : 1954
تاريخ التسجيل : 08/09/2009
العمر : 36
الموقع : دمشق . . فلسطينية الأصل

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصص قصيرة لكتاب كبار  Empty رد: قصص قصيرة لكتاب كبار

مُساهمة  NoUr kasem الجمعة أغسطس 13, 2010 12:15 am


الصابئ


ألبير كامو




ترجمة: عايدة إدريس


أية فوضى! أية فوضى! يجب أن أنظم الأشياء في رأسي، فمنذ أن قطع الأفارقة الوثنيون لي لساني، أخذ لسان آخر، لا أدري، يمشي بلا انقطاع في مخي، شيء ما يتحدث أو أحد ما، يصمت فجأة ثم يبتدئ كل شيء من جديد، أوه، إنني أسمع أشياء أكثر مما ينبغي. ومع ذلك فلست أنا الذي أقولها. أية فوضى! وإن أنا فتحت فمي صدعت ضجة شبيهة بضجة البحص حين يحرك. إن اللسان يقول: بعض التنظيم، بعض التنظيم، وفي الوقت نفسه يتكلم عن أشياء أخرى. أجل لقد كنت دائما أشتهي الترتيب. هناك على الأقل شيء واحد مؤكد، هو أنني أنتظر الرسول الذي عليه أن يأتي ليحل محلي.
إنني هنا، وفي الطريق على بعد ساعة من "تاكازا" مختبئ بين ردم من الصخور، جالس على البندقية القديمة. النهار يطلع على الصحراء، والطقس ما يزال باردا جدا. بعد قليل، سيصبح الحر أشد من أن يحتمل. هذه الأرض تبعث على الجنون؛ وأنا هنا منذ سنوات لا أعرف لها بعد حسابا. لا. لقد سمعت أنه سوف يأتي مع دليل، وربما لم يكن لهما كليهما إلا جمل واحد. سوف أنتظر. إنني أنتظر. ولكن البرد، البرد وحده يجعلني أرتجف، تصبر بعد، أيها العبد القذر.
لقد مضى وقت طويل وأنا أتصبر حين كنت في بيتي، هناك في هذا النجد المرتفع من "المسيف سنترال" كنت أود أن أذهب وأن أترك كل شيء، أبي الخشن، وأمي الفظة، والخمر وحساء شحم الخنزير اليومي، الخمر بنوع خاص الحامز والبارد، والشتاء الطويل، والخصية المثلجة، وركام الثلوج، والنباتات المقرفة؛ كنت أود أن أترك كل هذا لأبدأ أخيرا حياتي هنا بين الوثنيين في الشمس إلى جانب المياه الصافية. وآمنت بالكاهن، وكان يحدثني عن الدير، ويعنى بي كل يوم، فقد كان لديه الوقت في هذا البلد البروتستانتي الذي كان يلتصق فيه بالجدران عندما كان يجتاز الضيعة. كان يحدثني عن مستقبل ما وعن الشمس وكان يقول: إن الكاثوليكية هي الشمس، وكان يجعلني أقرأ فأدخل اللاتينية في رأسي القاسي، وكان يقول: "إن هذا الصغير ذكي، ولكنه بغل". وقد كان مخي قاسيا إلى حد لم ينزف الدم قط في حياتي كلها بالرغم من جميع سقطاتي. وكان والدي الخنزير يقول عني: "رأس البقرة" وفي الدير كانوا جميعا فخورين، فالمتنسك الجديد في بلاد بروتسنتية يعتبر نصرا، ولقد رأوني أصل كشمس أوسترلتز. "بالشيون" الشمس، هذا صحيح، بسبب الكحول، فلقد شربوا الخمر الحامز فكانت أسنان أطفالهم منخورة؛ إن ما يجب أن يفعل الآن هو قتل الأب، ولكن ليس هناك من خطر في الواقع في أن يندفع في الرهبنة ما دام هو قد مات منذ زمن طويل، إذ انتهى الخمر الحامز بأن خرق معدته، لم يعد هناك إلا قتل الرسول الذي سيأتي مرسلا من جهتهم.
إن لدي حسابا سأصفيه معه ومع أسياده، مع معلميّ الذين خدعوني. مع أوربا القذرة. إن جميع الناس قد خدعوني، ولم يكن في فهمهم إلا كلمة الرسالة: يجب الذهاب إلى المتوحشين الأفارقة ليقال لهم "هذا هو ربي، انظروا إليه، إنه لا يضرب ولا يقتل، إنه يأمر بصوت عذب، ويمد خده الآخر، إنه أكبر الأسياد، اختاروه، انظروا كيف جعلني أحسن من قبل، أهينوني وسترون الدليل". أجل لقد آمنت وشعرت نفسي خيرا من قبل، كنت قد تضخمت، كنت جميلا تقريبا، وكنت أطلب إهانات، فعندما كنا نمشي صفوفا مكتظة وسودا، في الصف، تحت شمس غرونوبل، وعندما كنا نلتقي بفتيات مرتديات أثوابا خفيفة، لم أكن أنا أصرف عيني عنهن، كنت أحتقرهن وكنت أنتظر أن يهنّني وكن يضحكن أحيانا. وعندها كنت أفكر: "ليضربنني وليبصقن في وجهي". ولكن ضحكتهن، كانت في الحقيقة شبيهة بذلك، إذ كانت مقنفذة بالأسنان وبالأطراف الحادة التي كانت تمزقني؛ إن الإهانة والألم كانا لذيذين. ولم يكن مرشدي يفهم حين كنت أرهق نفسي. وكان يقول لي: "ولكن لا. ففيك شيء جيد". شيء جيد! كل ما هنالك أنني مخمور وكان فيّ خمر حامز. وكان ذلك أفضل، فكيف للمرء أن يتحسن إذا لم يكن رديئا؟ ولقد فهمت ذلك في كل ما كانوا يعلمونني إياه. ولم أكن قد فهمت هذا. إلا فكرة واحدة سرت بها، أنا البغل الذكي، حتى النهاية. كنت أتجاوز العقوبات وأمتنع عن المألوف، كنت أود أن أكون في نهاية الأمر، أنا أيضا مثلا يحتذى، يراني الناس ويسبّحوا فيّ الإله الذي كان قد جعلني خيرا من قبل.

أية شمس شرسة! إنها تبزغ، فتتبدل الصحراء. لم يعد لها لون الجبال البنفسجي. أي جبل مدهش هو جبلي، وهذا الثلج، الثلج الرخو الناعم، لا، بل هو أصفر مائل إلى الرمادي شبيه بلون يحيل الصحراء إلى لون أصفر رمادي بعض الشيء. الساعة الجاحدة التي تسبق التألق الكبير. لا شيء، لا شيء بعد يمتد أمامي حتى الأفق، هناك حيث يختفي النجد في دائرة من الألوان التي ما تزال رخصة. وخلفي يرتفع الميدان حتى الكثيب الذي يخفي تاغازا، ذلك الاسم الحديدي الذي ظل يقرع رأسي منذ عدة سنوات وكان أول من حدثني عنها الكاهن الشيخ نصف الأعمى، الذي كان يعتزل للصلاة في ديرنا. ولكن لماذا أقول أول من حدثني؟ فقد كان الوحيد. ولم يكن قوله بأنها مدينة الملح والجدران البيضاء التي ترتفع في الشمس المحرقة، هو ما أثارني في قصته؛ لا، إن ما أثارني هو حديثه عن قسوة سكانها المتوحشين، وعن المدينة المغلقة بوجه جميع الغرباء، عن الشخص الوحيد من الذين كانوا قد حاولوا أن يدخلوها. الوحيد حسب معرفته، الذي استطاع أن يصف ما كان قد رأى. كانوا قد جلدوه وأخرجوه إلى الصحراء، بعد أن وضعوا الملح، في جروحه، وفي فمه، فالتقى برعاة كان من حظه أن أشفقوا عليه مرة. ومنذ ذلك الوقت، وأنا أحلم بهذه القصة، بنار الملح والسماء، ببيت الأصنام وبعبيده. فهل هناك شيء أكثر وحشية وإثارة؟ أجل كانت رسالتي تكمن هنا، وكان علي أن أذهب إليهم لأدلهم على إلهي.

وفي الدير، عندما أدركوا عزمي على الذهاب، ألقوا علي خطبا ليثبطوا عزيمتي ويدعوني إلى وجوب التريث. فليست تلك البلاد صالحة للتبشير، ولم أكن أنا ناضجا، فعلي أن أهيئ نفسي تهيئة خاصة فأعرف من أنا، ويجب أيضا أن أمتحن نفسي، وفيما بعد، يدرسون القضية، ولكن هل علي أن أنتظر دائما؟ آه، لا. ولكن أجل علي أن أنتظر، إن كانوا يقصدون التهيئة الخاصة والاختبارات، فلا بأس، ما دام ذلك يحصل في مدينة الجزائر فهي تقربني من المدينة التي أحلم بها؛ أما فيما عدا ذلك، فقد كنت أهز رأسي القاسي وأردد الشيء نفسه الذي لقنوني، بأن ألتحق بأشد الناس وحشية، وأن أعيش عيشتهم، والذهاب حتى معبدهم، فأظهر لهم بالمثل، أن حقيقة إلهي هي الحقيقة الأقوى. وسوف يهينونني، بلا شك. ولكن الإهانات لم تكن تخيفني، فقد كانت ضرورية للتدليل، وبالطريقة التي سوف أتحملها، سوف أخضع هؤلاء المتوحشين كأنني شمس جبارة. جبار، أجل، لقد كانت هذه هي الكلمة التي كنت ألوكها بلا انقطاع على لساني. كنت أحلم بالسلطة المطلقة، السلطة التي تركع، التي تجبر الخصم على الاستسلام، وتهديه أخيرا. كان الخصم أعمى، قاسيا، واثقا من نفسه، مغمورا بعقيدته، كلما كان اعترافه يعلن ملكوت من سبب هزيمته. وكانت هداية أشخاص طيبين ضائعين بعض الشيء، هي المثل الأعلى الداعي لكهاننا إلى الشفقة، الذين كنت أحتقرهم لأنهم يستطيعون كثيرا ولا يجرؤون إلا قليلا جدا. أما أنا فكنت أريد أن يعرفني الجلادون أنفسهم فأركعهم وأقول: "يا إلهي، هذا هو نصرك" أو كنت أريد أن أحكم أخيرا بسلطة الكلمة وحدها على جيش من الأشرار. آه. لقد كنت واثقا من أنني سأحسن المنطق في هذا الموضوع، ولم أكن قط واثقا من نفسي بغير هذا الشكل. ولكن حين أملك فكرتي، فإنني لا أفلتها، وهنا تكمن قوتي، أجل قوتي التي كانوا جميعا يشفقون عليها.

الشمس لا تزال مرتفعة، وجبيني قد أخذ يلتهب. وأخذت الأحجار من حولي تفرقع خفية. وكانت فوهة البندقية وحدها رطبة، رطبة كالحقول، كمطر المساء، في الماضي عندما كان الحساء يغلي بهدوء، كان أبي وأمي ينتظرانني، ويبتسمان لي أحيانا، وربما كنت أحبهما. ولكن ذلك قد انتهى، فقد بدأ حجاب من الحرارة يرتفع في الدروب.

تعال أيها المبشر، إنني أنتظرك، فانا أعرف الآن ما يجب أن أجيب به على الرسالة، فأساتذتي الأفارقة الجدد قد أعطوني في ذلك درسا، وأنا أعلم أنهم محقون، فيجب أن أصفي حساب الحب. عندما هربت من الدير في الجزائر، كنت أتصورهم، هؤلاء المتوحشين، تصورا آخر. وكان شيء واحد حقيقيا في أحلامي، وهو أنهم أشرار. أما أنا، فكنت قد سرقت صندوق أمين الصندوق وخلعت ردائي، واجتزت الأطلسي، والأنجاد المرتفعة والصحراء، وكان سائق شركة النقل الصحراوية يسخر مني ويقول: "لا تذهب إلى هناك". هو أيضا؟ ما شأنهم جميعا؟ وأمواج الرمل الممتدة على مئات من الكيلومترات، المحتدمة في مدة وجزرها تحت الريح، والجبل من جديد، المزروع كله بالأعلام السوداء، ذو الزوايا الحادة كالحديد. ومن وراء الجبل، يتوجب وجود دليل للذهاب إلى بحر الحصى الأسمر، المترامي إلى ما لا نهاية، المزمجر من الحر، الملتهب بمائة مرآة مزروعة بالنيران حتى هذا المكان عند الحدود الفاصلة بين بلاد السود والبلد الأبيض، حيث ترتفع مدينة الملح.
وكان الدليل قد سرقني، بسبب سذاجتي الدائمة، بعد أن كنت قد أظهرت مالي أمامه، ولكنه تركني في الميدان، من هنا، بعد أن ضربني وهو يصيح: "أيها الكلب، هذه هي الطريق، إن لي شرفاً، اذهب، اذهب إلى هناك فسوف يؤدبونك". ولقد أدبوني، أوه، أجل، إنهم كالشمس التي لا تني إلا في الليل، تلفح دائما بتوهج وفخر، كما تلفحني بشدة الآن، بشدة أكثر مما ينبغي، كضربات رمح ملتهب خرج فجأة من الأرض. فإلى المخبأ، أجل إلى المخبأ، تحت الصخرة الكبيرة، قبل أن يختلط كل شيء.

الظل هنا مريح، فكيف يمكن العيش في مدينة الملح، في جوف هذه الخابية الممتلئة بحرارة بيضاء؟ فعلى كل جدار من الجدران المستقيمة المنحوتة بضربات معول، المصقولة صقلا غليظا، تقنفذ الحفر المتروكة من المعول خراشيف باهرة، وهناك رمل أشقر متناثر يجعلها صفراء بعض الشيء، إلا عندما تنظف الريح الجدران المستقيمة والسطوح، وعندها يتألق كل شيء في بياض ساطع، تحت سماء منظفة هي أيضا حتى قشرتها الزرقاء. وكنت أصبح أعمى، في تلك النهارات التي يتأجج فيها حريق لا يتزحزح مدة ساعات فوق سطائح بيضاء كانت تبدو أنها تلتقي جميعا، كما لو أنهم، ذات يوم، كانوا قد غزوا معا جبلا من الملح، فمهدوا أولا ثم حفروا الطرقات وداخل المنازل، والنوافذ، أو كأنها، وهذا أصح، كانت قد قطعت جهنهما البيضاء الملتهبة بأنبوب ماء مغلي، لكي يدللوا بالفعل أن باستطاعتهم أن يسكنوا حيث لا يستطيع إنسان أبدا أن يعيش لمدة ثلاثين يوما ويظل حيا في هذه الحفرة وسط الصحراء، حيث تقف حرارة النهار مانعا لأي احتكاك بين الكائنات، وتنصب بينهم نوارج من اللهب الخفي والبلور المحرق، حيث يجمدهم برد الليل واحدا واحدا من دون استطراد في قواقعهم المجوهرة، أولئك السكان الليليين في كتلة جليد ناشفة، سكان الأسكيمو السود الذين يرتجفون دفعة واحدة في مساكنهم الجليدية المكعبة. أجل، هم سود لأنهم يرتدون الأقمشة السوداء الطويلة. ويترك الملح الذي يغمرهم حتى أظافرهم، الملح الذي يجترونه بمرارة في نومهم القطبي، والذي يشربونه ممزوجا بالماء إذ يصلهم إلى النبع الوحيد في جوف حفرة لماعة، هذا الملح يترك على ثيابهم الداكنة علامات شبيهة بسحائب البزاق بعد المطر.
المطر يا إلهي، مطرة واحدة حقيقية طويلة قاسية، مطرة من سمائك! وعندها تسترخي هذه المدينة المخيفة ببطء، ومن غير مقاومة. وإذ تذوب كلها في سيل لزج، فإنها تحمل سكانها الوحوش نحو الرمال.
يا إلهي! ولكن ماذا، أي إله أدعو؟ إنهم هم الآلهة. إنهم يحكمون بيوتهم المجدبة، وعبيدهم السود الذين يفنونهم في المناجم، فكل لوحة من الملح المقطع تساوي رجلا في بلاد الجنوب. إنهم يمرون صامتين وهم متشحون بوشاح الحداد، في بياض الشوارع المعدني. وعندما يهبط الليل، وتبدو المدينة كلها شبحا من الحليب، يعودون وهم منحنون فيدخلون في ظلمة مساكنهم حيث تلمع جدران الملح لمعانا خفيفا. إنهم ينامون نوما لا ثقل فيه، وعندما يستيقظون يأمرون ويضربون، ويقولون إنهم ليسوا إلا شعبا واحدا، وأن إلههم هو الإله الحقيقي وأن الطاعة واجبة. هؤلاء هم أسيادي، إنهم يجهلون الشفقة، وكالأسياد يريدون أن يوجدوا وحدهم، أن يتقدموا وحدهم، أن يحكموا وحدهم، ما داموا هم وحدهم الذين قد ملكوا الجرأة في أن يبنوا على الملح والرمال مدينة باردة وشديدة الحرارة.
أما أنا.. أي فوضى هي عندما ترتفع الحرارة؟ إنني أرشح، أما هم فلا يرشحون أبدا. وهاهوذا الظل نفسه يحمى الآن. إنني أحس الشمس على الحجر فوقي إنها تضرب، تضرب كمطرقة على جميع الأحجار، وهذه هي الموسيقى، موسيقى الظهيرة الرحبة، اهتزاز الهواء والأحجار على بعد مئات الكيلومترات. إنني أسمع الصمت كما كنت أسمعه من قبل. أجل، لقد كان الصمت نفسه، وقد مضى على ذلك سنوات، هو الذي تلقاني عندما قادني الحراس إليهم، في الشمس إلى قلب الساحة حيث ترتفع قليلا قليلا السطائح المشتركة المركز نحو صفحة السماء الزرقاء زرقة قاسية، والتي تستند على ضفاف الخابية. كنت هنا، مرميا على ركبتي في جوف هذا الترس الأبيض، مهترئ العينين بسيوف الملح والنار التي كانت تخرج من جميع الجدران، شاحبا من التعب، وأذني تنزف من الضربة التي كان الدليل قد وجهها إلي، بينما كانوا هم ينظرون إلي من دون أن يقولوا شيئا بقاماتهم الطويلة السوداء. كان النهار في منتصفه، وكانت السماء تصدي طويلا تحت ضربات شمس الحديد، فتبعث أصداء شبيهة بأصداء صفائح محماة. كان الصمت نفسه وكانوا ينظرون إلي؛ وكان الوقت يمضي، إنهم لا يكفون بعد عن النظر إلي ولم أكن أنا أستطيع أن أتحمل نظراتهم، وكان لهاثي يزداد شيئا فشيئا، ثم بكيت أخيرا. وفجأة أداروا لي ظهورهم بصمت وذهبوا كلهم في اتجاه واحد. وفي الأحذية الحمراء والسوداء، كنت أرى فقط، وأنا راكع على ركبتي، أقدامهم اللماعة من الملح ترفع الرداء الطويل الداكن، منتصبة الرأس قليلا وكعبها يضرب الأرض بخفة، وعندما كانت الساحة خالية جروني إلى بيت الأصنام، وأنا مقرفص في ظل صخرة، كما أفعل الآن، بينما كانت النار من فوق رأسي تنفذ إلى كثافة الحجر. وكان هذا البيت مرتفعا أكثر من سواه بقليل، محاطا بأسوار من الملح، ولكنه بلا نوافذ، مغمورا بليل متلألئ. بقيت عدة أيام، كانوا خلالها يقدمون لي طاسة من الماء الممزوج بالملح، ويقذفون أمامي حبوبا كالتي يرمونها للدجاج فكنت ألتقطها. وفي النهار، كان الباب يظل مقفلا، ومع ذلك فقد كان الظل يخف قليلا، كما لو أن الشمس التي لا تقاوم كانت تفلح في أن تتسرب من خلال أكوام الملح، ولم يكن لدي أي مصباح، ولكنني وأنا أتلمس طريقي طوال الممرات كنت ألمس قطوفا من البلح الجاف تزين الجدران، وبابا صغيرا في الجوف، منحوتا نحتا ضخما، عرفت فيه بطرف أصابعي القفل. وبعد فترة طويلة ولمدة أيام عديدة، لم يكن باستطاعتي أن أعد الأيام ولا الساعات ولكنهم كانوا قد رموا لي قبضتي من الحبوب عشرات المرات، وكنت قد حفرت حفرة لأوساخي التي كنت أغطيها عبثا، والتي ظلت رائحة العفونة تفوح منها. وبعد فترة طويلة، فتح الباب علي ودخلوا.
واقترب أحدهم مني وأنا مقرفص في الركن. وكنت أحس على خدي بنار الملح. وكنت أتنفس رائحة النخيل المغبرة، وكنت أنظر إليه يتقدم، وتوقف على بعد متر مني، وكان يحدق فيّ بصمت، وبإشارة منه وقفت، فحدق في بعينين معدنيتين لماعتين لا تعبير فيهما في وجهه الأسمر الشبيه بوجه الحصان، ثم رفع يده ومن دون أن يتأثر أمسكني من شفتي السفلى ولواها ببطء حتى نزع مني اللحم، ثم أدارني حول نفسي من دون أن يرخي أصابعه، وابتعد حتى وسط القاعة، فأطلق النار على شفتي حتى وقعت على ركبتي، هنا، فاقد الوعي، دامي الفم، ثم استدار ليلقى الآخرين المصطفين على جوانب الجدران. كانوا ينظرون إلي وأنا أئن في وهج النهار غير المحتمل الذي لا ظل فيه يتسرب من الباب المفتوح على سعته. وفي هذا الضوء انبثق الساحر بشعر المنبوش، مغطى الصدر بدرع من الجواهر، عاري الساقين تحت تنورة من القش، مقنعا بقناع من القصب والأسلاك الحديدية وقد ظهر فيه ثقبان مربعان تطل منهما العينان، وكان يتبعه موسيقيون ونساء يرتدين ثيابا ثقيلة منقشة لا يتراءى خلالها شيء من أجسادهن. فرقصوا أمام الباب الداخلي، وكلنها كانت رقصة بدائية، لا يكاد يظهر أثر للإيقاع فيها. كانوا يتحركون وكان هذا كل ما في الأمر؛ ثم فتح الساحر الباب الصغير من خلفي فلم يكن السادة يتحركون، كانوا ينظرون إلي، فأدرت وجهي ورأيت الصنم، برأسه المزدوج، وأنفه الحديدي الملتوي كالحية.
وحملوني بالقرب منه عند قدم القاعدة، وجرعوني ماء أسود مرا مرا، وللحال أخذ رأسي يلتهب. كنت أضحك، وهذا هو العقاب، إنني مهان. وخلعوا عني ثيابي وحلقوا لي شعر رأسي وجسمي، وغسلوني بالزيت، وضربوا وجهي بحبال مغطسة بالماء والملح. فكنت أضحك وأصرف رأسي. ولكن امرأتين كانتا كل مرة تمسكانني من أذني وتقدمان وجهي لضرب الساحر الذي لم أكن أرى منه سوى العينين المربعتين. وكنت أمضي في الضحك وأنا مغمور بالدم. ثم توقفوا، ولم يكن يتكلم أحد سواي، وكانت الفوضى قد بدأت في رأسي، ثم أنهضوني وأجبروني على أن أرفع عيني نحو الصنم. فكففت عن الضحك. كنت أعلم أنني قد كرست الآن لخدمته، لعبادته. لا. لم أكن أضحك بعد، كان الخوف والألم يخنقانني. وهنا، في هذا البيت الأبيض، بين هذه الحيطان التي تحرقها الشمس من الخارج بعزم، حاولت أن أصلي للصنم، ممدود الوجه، مضنى الذاكرة، أجل، لقد حاولت أن أصلي للصنم، فلم يكن هنا إلا هو، وحتى وجهه المخيف كان أقل فظاعة من سائر العالم. في هذه الأثناء ربطوا كعبي بحبل يترك مجالا حرا على طول خطوتي، ورقصوا أيضا، ولكن قرب الصنم هذه المرة، وخرج الأسياد واحدا تلو الآخر.
وإذن انغلق الباب خلفهم، ابتدأت الموسيقى من جديد وأشعل الساحر نار قشور كان يدبدب حولها، وكانت قامته الطويلة تتلوى عند زوايا الجدران البيضاء، وكان يرتجف على المساحات المسطحة، ويملأ القاعة بالظلال الراقصة. وكان أن رسم مستطيلا في الركن الذي كان النسوة قد جررنني إليه، فكنت أحس أيديهن الجافة والناعمة، وقد وضعن أمامي حوضا من الماء وصحنا صغيرا من الحبوب وأرينني الصنم. ففهمت أن علي أن أبقي عيني محدقتين فيه.
وعندها دعا الساحر النسوة، واحدة تلو الأخرى، لتقدمن أمام النار، وضرب بعضهن فأخذت تئن من الألم، ثم ذهبن، يا إلهي، ليسجدن أمام الصنم بينما كان الساحر لا يزال يرقص، وأخرجهن جميعا من القاعة حتى لم تبق منهن إلا صبية واحدة مقرفصة أمام الموسيقيين لم تكن قد ضربت بعد. كان يمسكها من جديلة كان يلفها حول قبضته، فانحنت إلى الوراء، جاحظة العينين، حتى سقطت أخيرا على ظهرها. وإذ تركها الساحر، صرخ، فعاد الموسيقيون يلتصقون بالجدار، بينما كان الصراخ من خلف القناع ذي العينين المربعتين ينتفخ حتى المستحيل، وكانت المرأة تتدحرج على الأرض في شبه نوبة، فصرخت هي أيضا، وهي تزحف وتخفي رأسها بين ذراعيها تصرخ صراخا صامتا. وعندها فقط، أخذها الساحر برشاقة وخبث، من دون أن يكف عن الزعيق وعن النظر إلى الصنم، ومن غير أن يُرى وجهها الذي دفن في هذه اللحظة في ثنيات ردائها الثقيل. وأنا من شدة الوحشة قد تهت، فصرخت أيضا، وزعقت من الرعب متوجها نحو الصنم حتى قذفتني إلى الحائط رفسة قدم، وأنا أقضم الملح، كما أقضم الآن الصخر بفمي الذي لا لسان فيه بانتظار قدوم من يجب علي أن أقتله.

والآن، جاوزت الشمس قليلا كبد السماء. وبين تشققات الصخر أرى الثغرة التي أحدثتها في معدن السماء المحمى، فم سريع الحركة كفمي، يقيء بلا انقطاع نهارا من اللهب فوق الصحراء التي لا لون لها. ولم يكن من شيء في الساحة، أمامي، لا شيء، حتى ولا غبرة في الأفق. لا بد أنهم خلفي يفشون علي. أو بالأحرى لم يحن الوقت، فلم يكونوا يفتحون الباب إلا بعد الظهر، فكان باستطاعتي أن أخرج قليلا، بعد أن أكون قد قضيت النهار كله وأنا أنظف بيت الصنم وأجدد القرابين. وعند المساء كان الاحتفال ُيبتدأ حيث كنت أحيانا أُضرب وأحيانا أخرى لا يحصل شيء. ولكنني كنت دائما أخدم الصنم، الصنم الذي كنت أملك صورته محفورا بالحديد في الذاكرة والآن في الأمل.. ولم يسبق لإله قط أن ملكني واستبعدني كهذا الإله، فحياتي كلها بأيامها ولياليها كانت مكرسة له وحتى الألم وغياب الألم، الذي هو الفرح كنت مدينا له بهما. وحتى الشهوة، لكثرة ما كنت أحضر كل يوم تقريبا هذا الفعل غير الشخصي والخبيث الذي كنت أسمعه من دون أن أراه مادام كان علي في تلك الأثناء أن أنظر على الحائط تحت طائلة الضرب. ولكنني كنت ملتصق الوجه بالملح مغمورا بالظلال الحيوانية التي تتحرك على الجدار، أستمع إلى الصراخ الطويل، وكان حلقي جافا فأخذتني شهوة محرقة بلا جنس على صدغي وعلى بطني، وهكذا كانت الأيام تتتالى، ولم أكن أميزها تقريبا كما لو أنها كانت تميع في الحر المحرق وانعكاسات جدران الملح الخفية، ولم يكن الزمن بعد إلا خفقا لا متساويا كانت تنفجر فيه فقط على مسافات منتظمة صرخات ألم أو امتلاك. نهار طويل لا عمر له يسود فيه الصنم كما تسود هذه الشمس الوحشية على بيتي من الصخر. وهأنذا كما كنت من قبل، أبكي من الشقاء والرغبة، فيحرقني أمل خبيث، فأنا أود أن أخون فأترك أنبوب بندقيتي وروحها في الداخل، أجل روحها، ذلك أن البندقيات تملك لوحدها روحا. آه، أجل، ففي اليوم الذي قطعوا فيه لساني، تعلمت أن أعبد روح الحقد الخالدة.

أية فوضى؟ أي هول، إنني سكران من الحر والغضب، ساجد ومنحن على بندقيتي. من يلهث هنا؟ إنني لا أستطيع أن أتحمل هذا الحر الذي لا ينتهي أبدا، وهذا الانتظار يجب أن أقتله. وليس هنا أي طير، أي فتات عشب، وإنما العجز فقط ورغبة جافية، والصمت، وصراخهم، وهذا اللسان الذي يتكلم فيّ، وهذا الألم الطويل المسطح والقاحل الذي انتابني منذ أن قطعوا لي لساني، الألم المحروم من ماء الليل، الليل الذي كنت أحلم به، مسجونا مع الرب في حفرتي من الملح. والليل وحده كان يستطيع أن ينقذني بنجومه الرطبة وينابيعه المظلمة وأن ينشلني أخيرا من بين آلهة البشر الخبثاء. وإذ كنت سجينا دائما، فلم يكن باستطاعتي أن أتأمل الليل.
وإذا تأخر الرسول أكثر من ذلك فسوف أرى الليل على الأقل يصعد من الصحراء ويجتاح السماء كأنما هو كومة باردة من الذهب تتدلى من المجرة المظلمة حيث أستطيع أن أشرب حتى أرتوي، وأن أرطب هذا التعب الأسود والجاف الذي لن يستطيع أي عضل حي وطري أن يطربه أبدا، وأن أنسى أخيرا هذا اليوم الذي تملك فيه الجنون لساني.

كم كان الطقس حارا، كان الملح يذوب، أو على الأقل كنت أعتقد ذلك. وكان الهواء يتأكل عيني، ودخل الساحر من دون قناع. وكانت امرأة جديدة تتبعه عارية تقريبا تحت خرق رمادية، ومطلية الوجه بوشم كان يضفي عليها قناع الصنم. ولم تكن تعبر عن شيء سوى ذهول معبود، ولم يكن فيها من شيء يحيا سوى جسدها النحيل المسطح الذي سقط عند قدمي الإله عندما فتح الساحر باب المعبد. ثم خرج من دون أن ينظر إلي، وكانت الحرارة ترتفع. فلم أكن أتحرك، وكان الصنم يتأملني من فوق هذا الجسد الجامد. ولكن عضلاته كانت تتحرك ببطء. وعندما اقتربت لم يتبدل وجه المرأة. ولكن عينيها فقط اتسعتا وهي تحدق بي. وكانت قدماي تلامسان قدميها، وعندها أخذت الحرارة تزأر، وانقلبت المعبودة على ظهرها، وهي تنظر إلي دائما بعينيها من غير أن تقول شيئا، وردت ساقيها نحوها وهي تفتح ببطء ركبتيها. ولكن بعد ذلك مباشرة، كان الساحر يترصدني. ودخلوا جميعا وانتزعوني من المرأة فضربوني ضربا مريعا في موضع الألم. الألم؟ وأي ألم! إنني أضحك والفضيلة أين هي؟ لقد ألصقوني بجدار وضغطت على حنكي يد من فولاذ بينما فتحت يد أخرى فمي وانتزعت لساني حتى نزف؛ أتراني أنا الذي كنت أصيح صيحة الحيوان هذه؟ أحسست بلمس قاطع ورطب. أجل رطب يسري على لساني. وعندما عاودني وعيي، كنت وحيدا في الليل، ملتصقا بالجدار، مغطى بدم مجمد، تملأ فمي حثالة من العشب اليابس ذي الرائحة الغريبة. ولم يكن فمي ينزف بعد، ولكنه كان مقفرا، وفي هذا الغياب كان يحيا فقط ألم معذب. وأردت أن أقف، فوقفت سعيدا، سعيدا بيأس في أن أموت أخيرا. فالموت هو أيضا رطب وظله لا يحمي أي إله.
لست ميتا، ولكن حدقا فتيا قد انتصب يوما في الوقت نفسه الذي وقفت فيه، ومشى نحو باب الجوف، ففتحه وأغلقه خلفي. كنت أبغض أهلي. أما الصنم فقد كان هنا، ومن أعماق الثقب الذي كنت فيه قمت بما هو خير من الصلاة له. آمنت به وأنكرت كل ما كنت قد آمنت به من قبل. سلام عليه، لقد كان الخلاص والقوة والجبروت، وكان بالإمكان هدمه، ولكن ليس بالإمكان هديه. كان ينظر فوق رأسي بعينيه الفارغتين الصدئتين. سلام عليه، كان السيد، السيد الوحيد؛ الذي كان الخبث صفته التي لا جدال فيها. ليس هناك من أسياد طيبين. ولأول مرة، ولفرط ما أُهنتُ ولأن جسدي كله كان يصرخ من ألم واحد، استسلمت له وأقررت نظامه السيئ، فعبدت فيه مبدأ الخبث في العالم. ولقد أنكرت التاريخ الطويل الذي كانوا قد علموني إياه وجعلت نفسي المواطن الحاقد المعذب، أنا سجين مملكته، المدينة العقيمة المنحوتة في جبل من الملح، المفصولة عن الطبيعة المحرومة من ازدهارات الصحراء السريعة والنادرة، الناجية من هذه المصادفات أو هذا الحنان، كغيمة وقحة وكمطرة عاصفة قصيرة تعرفها الشمس والرمال، مدينة النظام أخيرا، ذات الزوايا المستقيمة، والغرف المربعة، والرجال القساة. كانوا قد خدعوني، فملك الخبث وحده كان بلا عيوب؛ لقد خدعوني، فالحقيقة صريحة وثقيلة وكثيفة، إنها لا تحتمل الفروقات الدقيقة.. والخير حلم مشروع مؤجل بلا انقطاع وملاحق بجهد مضن، إنه حد لا يمكن الوصول إليه، فملكه مستحيل، والشر وحده يستطيع أن يمضي حتى حدوده ويسود سيادة مطلقة، ويجب أن نخدم الشر وحده لكي نقيم مملكته الظاهرة، وبعد ذلك سنرى، سنرى معنى هذا؛ فالشر وحده حاضر ولتسقط أوربا والعقل والشرف والصليب. أجل، يجب أن أهتدي إلى دين أسيادي، أجل، لقد كنت عنيدا، ولكن كنت أنا أيضا ضريرا شريرا، فلن أكون عبدا بعد بالرغم من قدمي الموثقتين وفمي الأخرس. آه، إن هذا الحر يخبلني. والصحراء تصرخ في كل مكان تحت الأشعة التي لا تحتمل؛ أما ذاك الآخر، الذي يثيرني مجرد ذكره اسمه، فإنني أنكره، لأنني أعرفه الآن. أية فوضى وكم أنا متعب من أن الأرض لم تهتز، فأنا متأكد من ذلك ولم يكن عادلا ذلك الذي كانوا قد صلبوه، إنني أرفض أن أصدق ذلك، فليس هنالك عادلون وإنما هناك أسياد شريرون يجعلون الحقيقة سائدة. أجل إن الصنم وحده يملك القدرة، إنه غله هذا العالم الوحيد، ووصيته هي الحقد، منبع كل حياة؛ والماء المنعش كالنعناع الذي يجلد الفم ويحرق المعدة.

لقد تغيرت إذن، ولقد فهموا ذلك، كنت أقبل يدهم عندما كنت ألتقي بهم، لقد كنت من أتباعهم، وكنت معجبا بهم من دون أن أمل، كنت أثق بهم، وكنت آمل أن يشوَّه قومي كما كانوا قد شوهوني.

وعندما علمت أن الرسول سوف يأتي عرفت ما كان علي أن أفعله. إنه ذاك النهار الشبيه بالأيام الأخرى. اليوم المعمي نفسه الذي يستمر منذ أمد طويل. وعند نهاية النهار، شوهد حارس ينبثق ويركض على أعلى الخابية، وبعد دقائق؛ كنت أُجرّ إلى بيت الصنم المغلق الأبواب. وكان أحدهم يشدني إلى الأرض في الظل، تحت تهديد سيفه المصنوع بشكل الصليب. وساد الصمت وقتا طويلا حتى ملأت ضجة مجهولة المدينة الهادئة عادة، أصوات بقيت مدة طويلة حتى تعرفت عليها لأنها كانت تتكلم لغتي. ولكن ما أن انبعثت حتى رأيت رأس السيف ينخفض على عيني. كان حارس يحدجني صامتا، وإذ ذاك اقترب مني صوتان لا أزال أسمعهما، فسأل أحدهما: لماذا كان ذلك البيت محروسا إذا كان الواجب اختراق الباب؟ يا سيدي الملازم، وكان الآخر يقول بصوت حاسم ثم يضيف بعد لحظة: إن اتفاقا قد أجري في أن المدينة تقبل حامية من عشرين رجلا شرط أن يعسكروا خارج السور وأن يحترموا العادات. وضحك الجندي، إنهم يستسلمون في مقاومة، ولكن الضابط لم يكن يعرف ولأول مرة على كل حال، كانوا يقبلون استقبال من يعنى بالأطفال وسيكون كاهنا.. وبعد ذلك سيهتمون بالأرض. وقال الآخر: "إنهم في تلك الحالة سيقطعون ما كان الكاهن يفكر به إذا لم يكن الجنود هناك". وأجاب الملازم "أوه، كلا، إن الأب بيفور سيصل قبل الخامسة وسوف يكون معنا بعد يومين" لم أكن اسمع شيئا على الإطلاق، لقد كنت جامدا مطروحا تحت السيف، كنت متألما، وكانت عجلة من الإبر والسكاكين تدور في. لقد كانوا مجانين، كانوا مجانين، لقد سمحوا لغرباء أن يدوسوا مدينتهم، ويقتربوا من قدرتهم التي لا تقهر ومن الإله الحقيقي. أما الآخر، ذاك الذي سوف يحضر، فلن يقطعوا له لسانه، سوف يتبجح بطيبته الوقحة من دون أن يدفع ثمن ذلك شيئا، ومن دون أن يهان. وسوف يتأجل حكم الشر، وسوف يكون هناك شك أيضا، ويضيع الوقت من جديد في الحلم بالخير المستحيل، وفي استنزاف الجهود بلا جدوى بدل التعجيل بمجيء المملكة الوحيدة الممكنة. وكنت أنظر إلى السيف الذي كان يهددني: إنها القوة التي تسود وحدها العالم، أيتها القوة، وكانت المدينة تفرغ من ضجيجها شيئا فشيئا، وفتح الباب أخيرا، وبقيت وحيدا، محترقا ومرا مع الصنم، وأقسمت له بأن أنقذ إيماني الجديد وأسيادي الحقيقيين، وإلهي الظالم، وأن أخون جيدا مهما كلفني ذلك.

آه، إن الحرارة تخف قليلا والحجر يتوقف عن الاهتزاز، وباستطاعتي أن أخرج من حفرتي، وأن أنظر إلى الصحراء تتلون باللون الأصفر والأحمر لتستحيل بنفسجية. هذه الليلة، انتظرت كي يناموا، وكنت قد قلبت قفل الباب، وخرجت بخطواتي العادية، المقيسة بالحبل. كنت أعرف الطرقات. وأعلم من أين آخذ البندقية القديمة، وأي مخرج لم يكن محروسا. ووصلت إلى هنا في الساعة التي يغير الليل فيها لونه حول قبضة من النجوم، بينما كانت الصحراء تعتم قليلا. ويبدو لي الآن أنه قد مر علي أيام وأيام وأنا قابع في هذه الصخور. العجلة، العجلة، آه ليأت بسرعة؛ فبعد لحظات سيبدؤون التفتيش عني، ويطيرون فوق الساحات من جميع الجهات، ولن يعرفوا أنني ذهبت إكراما لهم من أجل أن أخدمهم خدمة أفضل. إن ساقي ضعيفتان وأنا ثمل من الجوع والحقد. أوه، فهناك في طرف الساعة يبرز جملان، يكبران، يعدوان على الأربع مزدوجين بظلين قصيرين يسبقانهما. إنهما يركضان بذلك الشكل الحي الحالم الذي ينعمان به دائما. وهاهما أخيرا، هاهما! البندقية بسرعة، وأجهزها بسرعة، أيها الصنم، يا إلهي هناك، لتدم قدرتك ولتتضاعف الإهانة، وليشد الحقد من دون تسامح على عالم من المعذبين، وليكن الخبث سيدا على الأبد. ولتصل المملكة أخيرا إلى مدينة وحيدة من ملح وحديد يستعبد فيها الناس طغاة سود يتملكون بلا شفقة، والآن، لتحل النار على الشفقة وعلى العجز وإحسانه، لتحل النار على كل ما يؤخر مجيء الشر، لأطلق النار مرتين. هاهما ينقلبان ويهرب الجملان نحو الأفق حيث يرتفع رف من العصافير السوداء في السماء الصافية. إنني أضحك، أضحك، فإن هذا الكاهن يتلوى في ردائه البغيض، إنه يرفع رأسه قليلا ويراني أنا، سيده المربوط القدير. لماذا هو يبتسم لي، إنني أسحق هذه البسمة! ما أجمل صوت القبضة على وجه الطيبة اليوم، اليوم فقط استُهلك كل شيء وفي كل مكان من الصحراء وبعد ساعات، تتنشق بنات آوى الهواء الغائب ثم تمشي بخطوات صغيرة صابرة نحو وليمة الجيفة، ويرتسم في الطرف المقابل ظل بنفسجي. ما ليالي أوروبا، يا وطني، يا طفولتي، لماذا علي أن أبكي في لحظة النصر؟

لقد تحرك، لا، إن الصوت يأتي من مكان آخر، من الجهة الأخرى هناك. إنهم هم، أسيادي، الذين يركضون كطير العصافير السود وينقضون عليّ ويمسكون بي. آه، أجل، اضربوا، إنهم يخشون على مدينتهم المطعونة التي تصيح، ويخافون الجنود المنتقمين الذين ناديتهم للمجيء إلى المدينة المقدسة، وكان هذا ما يجب. احموا أنفسكم الآن، اضربوا، اضربوني أنا أولا، إنكم تملكون الحقيقة! يا أسيادي، سوف يهزمون في نهاية الأمر الجنود، سيهزمون أوربا بأشرعتهم السود. اضربوا على البطن، أجل، اضربوا على العينين، سوف يحصدون ملحهم على القارة، وسوف يضمحل كل زرع، وينطفئ كل شباب، وتسير بجانبي جموع خرساء مكبلة الأقدام في صحراء هذا العالم تحت شمس الإيمان الحقيقي المحرقة. لن أكون وحدي. آه، يا للألم. الألم الذي يسببونه لي. إن غضبهم طيب، وعلى هذا السرج الحربي الذي يمزقونني عليه الآن، الرحمة، أضحك، إنني أحب هذه الضربة التي تسمرني مصلوبا.

أي صمت يخيم على الصحراء؟ لقد هبط الليل وأنا وحيد. إنني عطش، يجب أن أنتظر بعد، فأين هي المدينة، وهذا الضجيج في البعيد، والجنود الذين ربما انتصروا. لا. يجب أن لا أنتظر حتى ولو انتصر الجنود. إنهم ليسوا أشرارا كما ينبغي، ولن يحسنوا الحكم، سيقولون أيضا إن على المرء أن يتحسن، وسيظل أيضا ملايين البشر ممزقين محرومين بين الشر والخير.

أيها الصنم، لماذا تخليت عني؟ لقد انتهى كل شيء، إنني عطش، وجسدي يحترق، والليل يملأ عيني وهو أشد سوادا.

هذا الحلم الطويل، الطويل، وهأنذا أستيقظ ولكن لا. سأموت، إن الفجر يبزغ، والشعاع الأول، النهار لإحياء آخرين، ولي أنا الشمس التي لا ترحم والذباب. من يتكلم؟ لا أحد. فالسماء لا تنفتح. لا. لا. إن الله لا يتكلم في الصحراء، ولكن من أين يأتي هذا الصوت الذي يهتف مع ذلك: "إن كنت ترتضي أن تموت من أجل الحقد والجبروت فمن يغفر لنا"؟ أهو لسان آخر في؟ أم هذا اللسان نفسه الذي لا يريد أن يموت عند قدمي، والذي يردد: "الشجاعة، الشجاعة، الشجاعة"؟ آه، ربما كنت أخدع الوحدة، لا تتخلوا عني! ها، ها! من أنت، أيها الممزق الدامي الفم؟ إنك أنت الساحر، لقد هزمك الجنود، والملح يحترق هناك، إنك أنت يا سيدي الحبيب. اخلع وجه الحقد هذا، وكن طيبا الآن، لقد خُدعنا، وسوف نعيد الكرة، ونبني من جديد مدينة الرحمة، إنني أود أن أعود على بيتي. ساعدني، أجل، هكذا، مد لي يدك، أعطني...".
وملأت قبضة من الملح فم العبد الثرثار.
NoUr kasem
NoUr kasem
مساعد المدير
مساعد المدير

عدد المساهمات : 1954
تاريخ التسجيل : 08/09/2009
العمر : 36
الموقع : دمشق . . فلسطينية الأصل

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصص قصيرة لكتاب كبار  Empty رد: قصص قصيرة لكتاب كبار

مُساهمة  NoUr kasem الثلاثاء أغسطس 17, 2010 8:49 am


بالأمس حلمت بك
بهاء طاهر


أذهب إلى العمل في الصباح, وأعود في المساء للبيت.
يحدث هذا خمسة أيام في الأسبوع, يحدث هذا في مدينة أجنبية في الشمال. حين أنزل في الصباح, كثيرًا ما أجد على محطة الأتوبيس فتاة شقراء في خدها طابع الحسن, بمجرد أن تراني قادمًا من بعيد تحول وجهها للناحية الأخرى. لا تنظر في وجهي أبدًا مهما طال وقوفنا.
وعندما أعود إلى البيت في المساء, أفتح التليفزيون وأغلقه وأفتح الراديو وأغلقه وأتجوّل قليلاً في الشقة الخالية. أعدل أوضاع الصور على الحائط والكتب في الأرفف, أغسل صحونًا, أكلم نفسي في المرآة قليلاً. يتقدم الليل.
وفي معظم الليالي يكلمني في التليفون صديقي كمال الذي يسكن في مدينة أخرى. يسألني: هل هناك أخبار? أقول: ليست هناك أخبار. فيشكو أحواله قليلاً وأشكو أحوالي قليلاً, وأخيرًا يتنهد ويقول: ربما أطلبك غدًا.
بعد فترة أنام, غالبًا ما يحدث هذا وأنا أقرأ.
في هذا الأسبوع أهداني فتحي, زميلي في العمل, كتابًا عن الصوفية. كنّا قلّة من العرب نعمل في مؤسسة عربية في هذه المدينة, ولكن رئيس المؤسسة ومعظم العاملين فيها كانوا من الأجانب. في هذه الظروف أحب فتحي الصوفية. ولما كنت عائدًا إلى البيت في المساء, بدأت أقرأ الكتاب في الأتوبيس. قرأت قليلاً إلى أن قال الكاتب: إن الروح تغادر الجسد في بعض الأحيان, وتقوم ببعض الجولات. يحدث ذلك بالليل في أثناء النوم وإن لم يكُن شرطًا. تلتقي الروح أحيانًا بأرواح شريرة وأحيانًا بأرواح طيبة, يحدث اتصال.
شعرت بالخوف وأغلقت الكتاب.
سألني جاري في الأتوبيس: ما هذه اللغة? وعرفت أنه غريب مثلي لأن أهل هذا البلد لا يكلمون أحدًا. وعندما رددت عليه, قال: لغة طريفة. معظم الحروف تكتب تحت الأسطر. قلت له: إنني لا أفهم. فأمسك الكتاب وفتحه وأشار إلى الراء والواو والزاي وإلى الميم والعين والحاء في أواخر الكلمات. أشرت بانتصار إلى الألف والباء والدال والطاء. قال: ولكن عندما تنظر إلى الصفحة تلاحظ أن معظم الحروف تحت السطر. سألته عن معنى ذلك, فقلب كفيه.
عندما وصلت إلى البيت, طلبني كمال في التليفون مبكرًا وسألني عن الأخبار. قلت له عن الجولات التي تقوم بها الروح وإن معظم الحروف تكتب تحت السطر. سكت قليلاً ثم سألني: الجو بارد عندكم? قلت: نعم. فقال: عندنا يسقط الثلج. ثم سألني فجأة: كيف تتجول الروح? أين تذهب? قلت: لا أعرف, وفي الغالب لن أقرأ الكتاب. قال: هل يمكن إذن أن ترسله لي بالبريد? فوعدته أن أفعل ذلك.
في الصباح ذهبت إلى العمل. كنت سريعًا ونشيطًا لأقاوم البرد. ولكن في محطة الأتوبيس كانت الشقراء هناك, وحولت وجهها. دهشت من نفسي لأنني أهتم بذلك, وقلت ملعون أبوها.
كان كتاب الأرواح معي لكي أرسله بالبريد. ولما ركبت الأوتوبيس قلت لنفسي إنه ربما كانت المسألة عادية, وربما يجب أن أقرأ صفحة أو صفحتين لأعرف كيف تتجول الروح, وماذا تفعل. ولكنني قاومت ذلك. وبينما كنت في الأتوبيس بدأ الثلج فجأة. سقط في البداية مثل قصاصات عشوائية متطايرة من الورق الأبيض, ثم أصبح غزيرًا وكثيفًا وغلف العالم خارج الأتوبيس بستارة متحركة من نمنمة بيضاء بلا نهاية. برغم ذلك نزلت في محطة مكتب البريد. وضعت الكتاب تحت معطفي حتى لا يبتلّ وجريت حتى المكتب, ولكن في خطوات محسوبة لكي لا تنزلق قدمي في الثلج الناعم. وقبل أن أدخل المكتب توقفت لأنفض الثلج عن شعري وعن معطفي. اصطدم بي شخص من الخلف. التفتّ, وكانت هي فتاة المحطة. التقت نظراتنا لثوان وتمتمنا في نفس الوقت بالاعتذار, ثم تخطتني واندفعت إلى المكتب. وقفت في طابور قصير أمام شباك تسجيل الرسائل الذي لم يفتح بعد, وعندما فتح الشباك رأيتها تجلس خلفه بعد أن خلعت جاكتتها الصوفية. كان شعرها الأصفر مقصوصًا حتى رقبتها ومفروقًا في الوسط تتدلى منه خصلة مصففة بعرض الجبين, وكان ذلك وطابع الحسن في خدها يعطيان وجهها المستدير الجميل شيئًا من الطفولة. وجاء دوري فسلمتها الكتاب. وتطلعت لثوانٍ بدهشة إلى غلافه بزخرفته المذهّبة ثم تجمدت ملامحها مرة أخرى على عادة أهل البلد حين يعملون. وضعت الكتاب على ميزان وقالت لي عن الثمن. لم تنظر في وجهي.
كان الثلج ما زال غزيرًا عندما خرجت. فرَش الأرصفة بالفعل وكسَا أسقف السيارات الملونة التي كانت تسير ببطء بغشاء موحد رقيق. لم تكن معي مظلتي فوقفت أحتمي من الثلج في مدخل مكتب البريد. بدأت أقلق لأنني تأخرت عن موعد العمل, ولكن لم يكن هناك ما أستطيع عمله في هذا الجو. جاء عبر الطريق رجل يعدو ووقف إلى جانبي وهو يلهث وراح ينفض الثلج عن ثيابه, وحين انتهى وضع يديه في جيبي معطفه, وأخذ يزفر الهواء دخانًا من فمه وأنفه. كانت السيارات تمر أمامنا بطيئة ترسم إطاراتها شريطًا أسود منقوشًا وسط الثلج في أسفلت الطريق, فاندفع الرجل ورفع إبهامه لعدة سيارات لكن أحدًا لم ينظر إليه. رجع إلى المدخل وقد تكوم عليه ثلج جديد ثم نظر إليّ بشيء من الغضب, وقال: أنت أجنبي, أليس كذلك? هززت رأسي, فقال: عندكم أوغاد بهذا الشكل? لا يتوقفون حتى مع هذا الثلج? قلت: عندنا شمس. سألني: وما الذي جاء بك إلى هنا? أشرت بإصبعي إلى السماء, فضحك.
في المكتب قال لي رئيسي الأجنبي وهو يلوح بيديه (شوية.. شوية). وكان يعتقد أن هذا يعني بالعربية أنني جئت متأخرًا. قلت إن هناك ظروفًا تحدث. ولكنه كان سعيدًا لأنه تكلم بالعربية ولأنني فهمت. سألني عن صحتي, هل هي جيدة? فقلت: نعم. وعندما قابلت فتحي سألني إن كنت قد قرأت في الكتاب, قلت: لا. هز رأسه في حزن وقال: خسارة, روحك شفافة. ثم دفع سبابته في صدري وقال: يمكن أن ينبت بستان في صدرك. قلت له: إن صدري مثقل بما فيه الكفاية. فقال: في هذه التربة ينبت البستان. دفعت سبابتي في صدره وقلت: يكفي بستان واحد في المكتب. وانصرفت عنه.
في المساء عدت إلى البيت.
كان الثلج على الرصيفين عاليًا يمتدّ بساطًا ناعمًا ولامعًا على جانبي الطريق الأسود المغسول, وكان يصنع من أغصان الأشجار العارية من الأوراق ثعابين بيضاء متعرجة, وينقط أوراق الأشجار القليلة التي تحتفظ بخضرتها بزهور منيرة. كان هناك الدفء الذي يعقب الثلج وسكون. في البيت لم أفتح التليفزيون. نظرت من النافذة وكان الثلج في كل مكان, والسيارات المحاذية للرصيف قببًا بيضاء بلا معالم. كان صمت وحزن, فجلست أتأمل حالي.
عندما طلبني كمال في التليفون قلت له: إن الثلج قد وصل. فقال لي إن هناك ثلجًا يغمر روحه. سألته عن السبب, فقال إنه اكتشف أنه مرت عليه عشر سنين وهو يعمل في بنوك هذه البلدة, وقد تزوج واحدةً من البلد طيبة وجميلة, وحصل على الجنسية فيها والناس تحسده لذلك, ولكنه تعيس جدّا. سألته مرّةً أخرى عن السبب, فقال: أليس عمل البنوك نوعًا من الربا? هناك شيء قلق في ضميري. قلت له ألاّ يهتم وأنني أرسلت له الكتاب في البريد, وإذا كانت روحه شفافة فسينبت له بستان في صدره. ضحك وقال: حرارتي مرتفعة لأنني تعرضت للبرد وأكلت زبدة بالثوم, وأظن أن روحي الآن كثيفة. قلت له: خذ حبة أسبرين ونم.
في الصباح لم أذهب إلى العمل.
كان ذلك يوم السبت, لكنني صحوت في نفس الموعد كأيام العمل وأخذت وأنا في الفراش أرتّب في ذهني الأشياء التي سأفعلها. سأشتري خبزًا وأكلاً يكفيني بقية أيام الأسبوع. سآخذ ثيابي للمغسلة. في المساء سأذهب إلى السينما. قبل ذلك سأكلم (كمال) في التليفون لأسأل عن صحته, ولأقول له: إنني لن أكون في البيت هذا المساء. وعندما استقر رأيي على ذلك نهضت من الفراش.
نظرت من النافذة وكان الثلج كما هو, لكنه فقد بريقه. ووسط الرصيف كان هناك ممر موحل منقوش بآثار الأقدام يشق الثلج المتصلب, وتحت الرصيف كانت أكوام أخرى من ثلج موحل كسحها الكناسون في الليل من وسط الطريق, وقدرت من طريقة لبس المارة القليلىن ومشيتهم برؤوس محنية وأيديهم في جيوب معاطفهم أن البرد شديد.
تدثرت جيدًا قبل أن أنزل, ولكنني كنت أعرف أنه لا علاج لأهم شيء: الأنف والأذنين. أحيانًا أرفع الكوفية حتى أنفي لكنني أشعر باختناق وأشعر أيضًا بالبرد في رقبتي. في الظروف العادية يفيد المشي السريع أو الجري, ولكن هذا مستحيل مع وجود الثلج على الأرصفة. بالرغم من ذلك كان لا بد من النزول, ففوضت أمري إلى الله. ومن قبيل الاحتياط لبست جوربين ثقيلين. قررت أن أبدأ بالمغسلة فحملت ثيابي في كيس ونزلت.
كانت تلك المغسلة محلاّ للخدمة الذاتية, وفيها حوالى عشر غسالات. وفي المحل موظفة واحدة تراقب سير الأمور وتبيع الصابون في أكواب لمن ليس لديه. وعندما دخلت كانت كل الغسالات مشغولة, وهناك سيدة عجوز من أهل البلد تجلس منتظرة على كرسي وإلى جوارها كيس ثيابها. جلست أيضًا على مقعد خالٍ أنتظر, ولكن تيارًا خبيثًا كان يتسرب من الفتحة الرفيعة بين ضلفتي الباب الزجاجي, فقمت وأخذت أتجول بين الغسالات. رحت أنظر إلى عيونها الزجاجية الدائرية محاولاً أن أفهم من طريقة خض الثياب ودرجة نظافتها أيها أوشكت أن تفرغ. من مكاني سمعت السيدة العجوز تقول بصوت حاد: سآخذ أول غسالة تنتهي. لم أنظر إليها وواصلت تجولي بحثًا عن الدفء.
دخلت لفحة من الهواء البارد ودخل معها رجلان إفريقيان يحمل أحدهما كيسًا مملوءًا بالثياب والآخر كيسًا فارغًا. كانا يتكلمان لغتهما ويضحكان. توجها إلى إحدى الغسالات وكانت قد توقفت عن العمل بالفعل فأدار أحدهما زرار التجفيف ووقفا ينتظران.
مرة أخرى قالت السيدة العجوز بصوتها الحاد المرتفع: سآخذ أول غسالة تنتهي. كانت نحيلة طويلة الرقبة, لها عينان ملونتان خاملتان, حدقتاهما رماديتان في جوف كل منهما دائرة كستنائية. وكان وجهها المعروق يلمع كأنه مدهون بالزيت.
التفت إليها الإفريقي الذي يحمل الكيس الملآن وقال لها بلهجة رقيقة: حضرت هنا مع صديقي من قبلك يا مدام. واتفقت مع الآنسة أن آخذ غسالة عندما ينتهي هو. قال هذا وأشار للفتاة التي كانت تجلس إلى منضدة صغيرة, فهزت رأسها تؤمن على ما قال.
وقفت السيدة وتحركت نحو الفتاة وقد اتسعت عيناها واحتقن وجهها, وقالت: ما معنى هذا? أنتظر كل هذا الوقت ثم يأتي من يأخذ دوري, وزنجي أيضًا?
احمرّت عينا الإفريقي وتقدم منها خطوة وهو يقول بصوت خفيض:
- ماذا تقصدين بذلك?
تراجعت خطوة وقالت: في هذا البلد نحن نحترم النظام, لسنا كالبلاد التي…
قاطعها وهو لا يزال يقترب منها: لا يعنيني نظامك ولا بلدك, ماذا قلت?
تراجعت خطوة أخرى وهي تقول: ماذا قلت? ألست بالفعل زنجيّا?
قال وقد أصبح وجهه في وجهها: بلى, وأنا فخور بذلك, فقولي لي ماذا تقصدين? قالت لك الآنسة إنني جئت قبلك, فما دخل زنجيتي بذلك? قولي ماذا تقصدين?
جلست مكانها فجأة وقالت بصوت يكاد لا يسمع: لا شيء.
فجأة مال الإفريقي بجذعه إلى الخلف وأخذ يقهقه وهو يقول: إذن فأنت لا ينقصك الأدب وحده, ولكن الشجاعة أيضًا. الأدب والشجاعة…
جذبه صديقه من يده وهو لا يزال يقهقه, وأخذا مرّةً أخرى يتكلمان ويضحكان, فانفجرت العجوز مكلمة لا أحد.
- وعلى العموم, فأنا لا أحب أن أستعمل هذه الغسالة!
قال الإفريقي الذي كان يجمع ثيابه من الغسالة ويضعها في كيسه متظاهرًا أنه يبكي: يا للأسف… سأحزن جدّا لذلك.
نظرت السيدة للفتاة التي تجلس خلف المنضدة وقالت لها: أرأيت?
قالت الفتاة وهي تتطلع للسقف: لا شأن لي بذلك.
التفتت العجوز تبحث عن شخص آخر تكلمه, لكنها لم تجد سواي فأدارت وجهها نحو الباب الزجاجي وهي تتمتم وتهز رأسها: ماذا جرى لهذا البلد? ماذا جرى لهذا البلد?
بعد أن انتهيت من غسل ثيابي, خرجت متجهًا إلى المتجر لأشتري أشياء الأسبوع. كان وجهي ملتهبًا عندما خرجت من المغسلة, ومضت مدة قبل أن أشعر بالبرد وأضطر إلى ربط الكوفية حول أنفي.
وفي المتجر, بينما كنت أجمع علب الصلصة والشاي والسكر, قابلت فتاة مكتب البريد. كانت تدفع أمامها عربةً فيها باقة ورد وعلب صابون وخضراوات. ولما التقينا تطلعت إليّ وعلى فمها ابتسامة مترددة, فأدرت وجهي.
في البيت طلبت (كمال) في التليفون. سألته عن صحته فقال إن الحرارة هبطت ولكنه ما زال يشعر بدوار. سألته إن كان الكتاب قد وصله فقال إنه تسلمه الآن وسيعيده إليّ بعد أن يقرأه. قلت له: إنني لا أحتاج إلى الكتاب ولا إلى أي أرواح طيبة أو شريرة, ويكفي أشرار البشر. حكيت له ما دار في المغسلة, وكنت منفعلاً بعض الشيء, لكنه رد بهدوء وقال: ما أهمية ذلك? أنا أعيش هنا من سنين وأعرف كيف ينظر أهل البلد إلى الأجانب, لكنني لا أهتم بذلك أبدًا. أعتبر أنني أعيش في صحراء وأن شقتي خيمة. خارج العمل لا أتعامل مع أحد أبدًا ولا أعُدّ أن هناك بشرًا. هذا هو الحل المثالى معهم, وليست هذه هي المشكلة.. سألته: إذن فما المشكلة? فقال: نحن. المشكلة في داخلنا, لكني لا أعرفها. أبحث عنها طول الوقت, لكني لا أعرفها. هل تعرف في تفسير الأحلام? قلت: أجرّب. قال: بالأمس حلمت أنني قابلت معاوية بن أبي سفيان, وأنني كنت أتوسط عنده للصلح مع سيدنا الحسين, فغضب معاوية, وقال: ضعوه في السجن مع طه حسين. لكنني استطعت أن أهرب وركبت (تاكسي) فوجدت نفسي في ميدان العتبة. قلت لكمال: إن الخلاف كان مع يزيد وليس مع معاوية. فقال لي بشيء من الغضب: أهو حلم أم حصة تاريخ? ماذا تفهم منه? فكرت, لكنني لم أفهم شيئًا. قلت له: ماذا كنت تفعل قبل الحلم? قال: كنت أتمرن على الآلة الكاتبة الإفرنجية.
قلت: هل يلزم هذا لعملك? قال: لا, ولكنه شيء مفيد. قلت له: إنني لا أستطيع أن أفسر الحلم. فقال: لا يهم, هل عندك أخبار? قلت: لا.
في المساء, ذهبت إلى السينما. كان الفيلم لاترافياتا. وقفت في المدخل أنتظر خروج الحفلة وأحتمي بدفء الزحام. كنت أتفرج على صور الفيلم. أرى كيف تصوَّر المخرج غادة الكاميليا. وكانت كما أحلم بها, نحيلة, جميلة, ذات عينين سوداوين واسعتين. سمعت صوتًا من خلفي: هل تسمح? التفتّ وكانت هي مرة أخرى بطابع الحسن في خدها. كانت تمسك سيجارة وتقرّبها من فمها, وقالت: هل تسمح بأن تشعل لي السيجارة? كانت تلبس بلوزة بيضاء من الصوف الثقيل عالية الرقبة وبنطلونًا. وبدا وجهها الخالى من المساحيق متوردًا جدًّا ومرتبكًا. كانت طفلة أكثر من أيّ وقت, وبدا لي غريبًا أنها تمسك سيجارة. ابتسمت لها وأنا أخرج الولاعة, فقالت: يبدو أننا نلتقي في كل مكان. قلت: المدينة صغيرة. قالت: اسمي آن ماري. قلت لها عن اسمي. ابتسمت وهي تحرك السيجارة بين أصابعها بسرعة. وقالت: قررت أن أواجهك. قلت لها بدهشة: هل نحن في حرب? فقالت: لا, لا تهتم. هل ستدخل الفيلم? قلت: نعم. قالت: تحب لاترافياتا?: قلت: اعتدت أن أسمعها في أوبرا القاهرة. سألت: في القاهرة أوبرا? قلت: كان. استمرت تحرك السيجارة بين أصابعها في عصبية, ثم قالت: هل لديك مانع أن نتكلم قليلاً بعد الفيلم? قلت: سأكون هنا.
بعد الفيلم كانت موسيقى فيردي تملؤني وذلك الحزن الرقيق الذي عرفته من أول مرة قرأت فيها غادة الكاميليا, والذي يعاودني كلما شاهدت قصتها. وكانت مع آن ماري إحدى صديقاتها عندما خرجت من الفيلم. عرّفتني بها فتطلعت إليّ بفضول, ثم صافحتني وانصرفت. سرنا في الطريق البارد الذي كاد يصبح خاليًا بعد أن تفرق الخارجون من الفيلم. وكانت غادة الكاميليا لا تزال تملؤني.
قالت: تبدو حزينًا.
قلت: نعم.
فقالت: وأنا أيضًا. تذكرت بيتًا من الشعر يقوله هاملت عن الممثل الذي يبكي على مأساة بطلته: من تكون له, ومن يكون لها, حتى يبكي عليها? ثم راحت تهز رأسها وتقول: من تكون غادة الكاميليا لنا, ومن نكون لها, حتى نحزن عليها كل هذا الحزن?!
قلت: أكثر حقيقية من الناس الحقيقيين.
وآلمني البرد فسألتها: هل تقصدين مكانًا محددًا?
قالت: لا.
فجلسنا في أقرب مقهى.
كنا نجلس متقابلين إلى منضدة صغيرة وأمامنا كوبا الشاي الساخن, فقلت لها وأنا أبتسم: ها أنت ذي تواجهينني, فما المسألة?
ابتسمت هي أيضًا وقالت: كان الأمر يحتاج إلى شيء من الشجاعة, هذا كل شيء. لم أتعود أن أتكلم إلى الأجانب. ثم أضافت بسرعة: أقصد الأشخاص الذين لا أعرفهم.
ضحكت ضحكة صغيرة, وقلت: أنا لست خجلاً لأني أجنبي.
فانحنت على كوب الشاي وقد احمرّ وجهها وقالت: بالطبع.. بالطبع.. ولماذا تخجل? ثم رفعت رأسها ونظرت إليّ وازداد وجهها احمرارًا وهي تقول: أرجوك ألا تسيء فهمي. كان أبي قسًّا بروتستانتيًّا, وقد علمنا أن نحب المسيح وأن نحب كل الناس في المسيح.. أنا لست كالآخرين.
قلت: هذا واضح. ولكن ألا تهتمين قليلاً لأن هؤلاء الزبائن يراقبونك وأنت تجلسين مع رجل أجنبي, ورجل ملون أيضًا?
قالت وهي لا تزال تثبت عينيها الزرقاوين في وجهي:
- مطلقًا..
ثم أضافت بصوت خافت: وهذا ما يحيرني.
- ما هو?
- شيء يحدث. لا أستطيع أن أصفه. ربما تستطيع أن تساعدني.
سكت وبدأت أرشف الشاي منتظرًا أن تواصل الحديث, ولكنها توقفت عن الكلام أيضًا. وبدأت تشرب الشاي في صمت وهي تثبت نظرتها في المنضدة التي تفصل بيننا.
ثم قالت فجأة بصوت خفيض وكأنها تبذل جهدًا للكلام: أرجوك إن شئت أن تحدثني عن نفسك. من أنت? من أين? أنا كما ترى من هذا البلد. أعمل في مكتب البريد. مات أبي وأعيش مع أمي. أحبّ السينما وأحبّ الموسيقى والقراءة. فمن أنت? ماذا تعمل هنا?
قلت لها من أنا وماذا أعمل هنا.
قالت: وذلك الكتاب الذي أرسلته من عندي بالبريد. ذلك الكتاب ذو الغلاف المزخرف, ما هو?
- كتاب عن الصوفية. صعب أن أشرح لك. أناس يعتقدون أن القلب هو الذي يفهم, لا العقل. يمرنون أرواحهم لكي تصفو قلوبهم.
- مثل الرهبان?
- ليس تمامًا. ولكني في الواقع لا أستطيع أن أشرح. لم أقرأ كتبهم ولا أفهمهم كثيرًا.
- وأنت ما أفكارك?
سكتّ.
استأنفت هي الكلام, وقالت: في وقت من الأوقات تمنيت أن أعتنق الكاثوليكية وأن أصبح راهبة. أحببت أيضًا القديس فرانسوا الأسيسي الذي كان يحب الفقراء والمرضى. في الواقع أني أحتفظ بصورته في غرفتي برغم أن أمي لا تحب ذلك.
ثم رجعتْ للخلف فجأة وقالت: هذا العالم يمرضني. لا فائدة, حاول ناس كثيرون ولكن لا فائدة. نفس الغباء في كل العصور. نفس الكراهية ونفس الكذب ونفس التعاسة. فكرت أيضًا في أن أذهب إلى إفريقيا, ربما أساعد إنسانًا واحدًا, فكرت..
توقفت فجأة عن الكلام.
طفرت حبات من العرق في جبينها, فمسحتها بيدها ووضعت يدها على عينها وقالت وهي مغمضة العينين: معذرةً. أشعر أني ضايقتك. رأيت وجهك يتغير عندما سألتك عما هي أفكارك, فأرجو أن تسامحني, لا أريد أن أتطفل عليك.
قلت: لا أهمية لذلك. في الواقع كانت عندي أفكار فيما مضى, لكني الآن نسيتها. في بلدي, لم يكن أحد يحتاج إليها ولا إليّ, فقررت أن أنساها. نسيت أشياء كثيرة. ولكنك قلت إنني يمكن أن أساعدك, كيف يمكن أن أساعدك? وقلت لي إنّ شيئًا عنّي يحيرك, ما هو? رفعت يدها من على عينها وظلت تنظر إليّ فترة ورموشها تختلج, ثم قالت بلهجة عادية: هذا الشيء هو أني أراك كثيرًا جدّا. في كل يوم تقريباً مرّةً أو مرتين. قلت لها: وما الغريب في ذلك? ما الغريب إذا كنا نسكن في نفس الحيّ ونركب نفس الأوتوبيس في نفس الموعد?
قالت باللهجة العادية ذاتها: لا شيء. غير أنني أراك أيضًا عندما لا أراك. أشعر قبل أن أقابلك بأنك موجود, وعندما أرفع عينيّ أجدك هناك. أحيانًا أتخيل هذا فحسب ولا تكون هناك, ولكني أكاد ألمسك.
قلت وأنا أحاول أن أبتسم: ربما كنت تحبينني?
فقالت دون أن تبتسم: لا.
ثم حولت عينيها وقالت: سامحني.. في الواقع إني أكرهك.
ثم نظرت إليّ. كان وجهها محتقنًا, وعيناها محمرتين وقد غادر ملامحها كل جمال.
تطلعت إلى عينيها.. وكانت بالفعل تكرهني.
في الأسبوع التالي أيضًا, ذهبت إلى العمل وعدت إلى البيت.
هبط ثلج جديد واشتد البرد.
ذهبت مرّةً إلى فتحي في مكتبه وقلت له: هذه الحياة تحيرني, فأرجوك أن تعلّمني شيئًا. قال: كيف أعلّمك وأنا لا أعلم? افعل مثلي. دع روحك تتفتح. يومًا ستكتشف أنت وسأكتشف أنا خلف هذه الصحراء تلك الأزهار الموعودة التي لا حدّ لجمالها.
قلت له: هذا الكلام يخيفني ولا يعزيني. أريد شيئًا محددًا. كيف وصلت أنت إلى هذا التوازن والسلام? قال: ألغيت إرادتي وسلمتها لصاحب الأمر. ولم يكن ممكنًا أن نواصل الحديث.
كلمني كمال في التليفون عدة مرات. لم يذكر شيئًا عن الكتاب, لكنه قال لي ذات مرّة إنه قرر أن يستقيل من البنك. وفي هذه الفترة كثرت الأحلام عند كمال. كان هناك شيء يتكرر بكثرة في أحلامه: أنه يتعلم عـزف الكمان. في أحد الأحلام ضاع منه القوس الذي يعـزف به واضطر إلى أن يستخدم مسطرة ليواصل العـزف. وفي حلم آخر كانت هناك لجنة ستمتحنه, ولكن زجاجة الدواء الذي يساعد على العـزف انكسرت, وكانت جميع الصيدليات مغلقة فأراد أن يعتذر للجنة, ولكنه لم يجد الحذاء فدفعوه إلى المسرح دون حذاء, وهكذا.
وفي نهاية الأسبوع دعتني آن ماري إلى بيتها لتردّ لي دعوة الشاي كما قالت.
كنا قد التقينا في الصباح عدة مرات على محطة الأتوبيس وتبادلنا الحديث. طلبت مني أن أغفر لها صراحتها في ذلك اليوم. طلبت أن أنظر للمسألة على أنها تعاني من أزمة نفسية لا علاقة لها بي. والواقع أنها كانت تحب واحدًا من مواطنيها, ولكنه تركها منذ شهور. سافر إلى الخارج بعد أن كانا قد اتفقا على الزواج, ومن هناك بعث إليها اعتذارًا. قالت إنه كان يمكن ألا يعدها بالزواج, وإنها كانت ستحبه وتبقي معه برغم ذلك. ولكن أن يعد وعدًا لم يرغمه عليه أحد ثم ينكثه فهذا في الواقع هو ما يمرضها. وهي تكاد تكون سعيدة لأنها تخلصت من شخص بهذه الأخلاق في الوقت المناسب. ثم تكلمت عني. قالت إنها تحاول أن تنظر للمسألة بمنتهى الموضوعية. كأنها لا تتكلم عني أو عنها ولكن عن بشر آخرين, وترجو أن أسامحها. هل تكرهني لأنها رأتني في هذه الظروف? هل أذكّرها بذلك الشخص الآخر الذي أصبَحت الآن تكرهه? ولماذا? هل لأن فيّ شيئًا يشبهه? ما هو? هل لأنه سافر للخارج مثلاً? هي تعرف أن المسألة معقدة جدّا وستفهم تمامًا إذا رفضْت أن أساعدها, بل وستعتذر لي وتشكرني لأني وافقت على أن أستمع إليها. أما إن شئت أن أساعدها, فسيكون هذا كرمًا بالغًا مني, وستقدر لي هذا الجميل.
في نهاية الأسبوع التقينا على محطة الأتوبيس. كانت سحب داكنة تغطى السماء وتجعل النهار معتمًا, وكان الثلج راكدًا على الأرصفة وشرفات البيوت. وجاءت آن ماري في الموعد ترتدي كالعادة بنطلونًا وجاكتة بيضاء من الصوف تضع يديها في جيبيها, وتربط كوفية حول رقبتها. لم أرها أبدًا تلبس معطفًا أو فستانًا. وبدت وهي تتقدم مني بخطواتها المترددة نحيلة وضئيلة, وشعرت نحوها بإشفاق غريب.
قادتني إلى بيتها. كانت تسكن عمارة قديمة ذات شرفات من حديد مقوس مشغول. كثيرًا ما مررت أمامها في الصيف, ووقفت أتأمل شرفاتها الرقيقة وهي موشاة بزرع أخضر وزهور حمراء كبيرة. الآن كانت الشرفات عارية, وقد تكومت نقط من الثلج على الأجزاء المحدبة من قضبان الحديد المقوس المتوازية.
لم نكد نقول شيئًا حتى وصلنا إلى شقتها, ولكنها ونحن نصعد السلم غمغمت باعتذار لأنه ليس هناك مصعد وهي تسكن في الدور الثالث. فتحت الباب بمفتاحها, وفي مدخل الشقة كانت هناك ستارة بيضاء, عبرناها فدخلنا إلى صالة فيها مناضد صغيرة تعلوها دمي وتماثيل خشبية صغيرة على مفارش بيضاء مطرزة. كانت المفارش ناصعة البياض والمناضد الصغيرة والتماثيل التي تعلوها موضوعة في أبعاد متناسقة تمامًا وسط زهور عفية ومعتنى بها. كانت زهور قرنفل كبيرة بيضاء وحمراء ووردية. وعلى جانبي الصالة كان هناك دولابان خشبيان بظلف زجاجية لها ستائر من الدانتيلا, ويزدحمان بالكتب. ووسط الدولابين بالضبط مائدة خشبية مستطيلة تجلس إليها سيدة ذات شعر أبيض معقوص تلبس نظارة كبيرة العدسات وتقرأ مجلة. قالت آن ماري: هذه أمي. ثم تقدمَت منها وقبلتْها في جبينها وقالت بصوت عال: هذا هو… هزّت رأسها وابتسمَت, وقالت: صباح الخير يا سيدي. فقلت: صباح الخير. قالت آن ماري: ارفع صوتك إنها لا تسمعك جيدًا. جلست على كرسي بجوارها وظللت ساكنًا فيما كانت هي تحني رأسها وتتطلع إليّ مبتسمةً بعينيها الزرقاوين الصافيتين اللتين ورثتهما آن ماري. تطلعت إليّ طويلاً من خلف العدستين الكبيرتين المنزلقتين على أنفها, ثم قالت: من إفريقيا? هززت رأسي, فأشارت إلى قناعين سوداوين مرشوقين في الحائط يتوسطهما صليب خشبي وقالت: أحب النحت الإفريقي. ضمت أصابعها البيضاء المتغضنة وأخذت تهز قبضتها وهي تقول: فيه القوة. ثم فتحت راحتها وحركت يدها حركة متموجة, وقالت: وفيه أيضًا رشاقة ونعومة, ثم سألت: من أين في إفريقيا? قلت بصوت مرتفع: أنا من مصر. رفعت حاجبيها مندهشة قليلاً, وقالت: مصر? تمنيت دائمًا أن أزورها, ذهب زوجي إلى مصر سنة…. في سنة.. لا أذكر. لم نكن قد تزوجنا بعد, ولكني ما زلت محتفظة بالصور. اعتمدت بيدها على المائدة, وهمت بالنهوض, غير أنها توقفت لحظة لتقول: ولكني أذكر أن زوجي قال لي: إنهم في مصر يجيدون السحر. قلت بدهشة: السحر?! فهزت رأسها. قلت وأنا أحاول أن أضحك: ربما كان ذلك أيام سيدنا موسى. فقالت وهي لا تزال تعتمد بيديها على المائدة: شاهد زوجي أشياء. فقلت: ربما. نهضَت من مكانها بصعوبة, وفي هذه اللحظة عادت آن ماري تحمل ثلاثة أكواب من الشاب على صينية, وقالت بصوت مرتفع: يكفي هذا يا ماما. فقالت أمها بنوع من الاحتجاج: ولكني أريد أن يرى هذا السيد الصور. وسارت ببطء محنية الظهر إلى أحد الدواليب وفتحته. قالت آن ماري باعتذار وهي تضع أكواب الشاي على المائدة: إنها لا تخرج كثيرًا, وعندما ترى أحدًا لا تكف عن الكلام. فقلت: لا يضايقني هذا. وكانت أمها الآن تكلم نفسها, وتقول: أين ذهب? أين يمكن أن يكون قد ذهب? كان دائمًا هنا.
حملت آن ماري كوب الشاي الموضوع في حامل معدني وقالت: تعال. لنذهب إلى غرفتي. فحملت كوبي وتبعتها.
كانت غرفتها صغيرة ومرتبة, أثاثها حديث وبسيط على عكس الصالة, وتشغل الحائط أرفف عليها كتب كثيرة. وكانت تتوسط أحد الأرفف زهرية طويلة من الكريستال فيها زهرة واحدة بيضاء كبيرة. وعلى الحائط كانت صورة القديس فرانسوا برأسه الحليق في الوسط. وكان اللون الأبيض في كل مكان, المفرش وغطاء السرير وستائر النافذة الدانتيلا. وحين فتحت آن ماري ستارة النافذة ظهرت في الخارج شجرة أرز تكوم الثلج على غصونها العريضة الخضراء التي تشبه كفوفا مبسوطة, ومن حولها أشجار تتشابك غصونها العارية المطلية بالجليد. جلست آن ماري على كرسي صغير بجانب النافذة, ووضعت راحتيها بين ركبتيها المضمومتين, وأخذت تتطلع للخارج.
قلت لها, وكنت لا أزال واقفًا عند باب الغرفة وكوب الشاي في يدي: المنظر جميل من النافذة. تطلعت إليّ مبتسمةً, وقالت: شكرًا, لم لا تجلس? وأشارت إلى مقعدٍ مستديرٍ بدون مسند أمام مرآة صغيرة. جلست تكاد ركبتي تصطدم بركبتها, ورحنا نتطلع من النافذة ونحن نرشف الشاي.
قالت دون أن تنظر في وجهي: بالأمس حلمت بك.
قلت: أنا آسف. ثم ضحكت.
قالت وهي تسدد إليّ نظرةً ثابتة: لماذا أنت آسف? ولماذا تضحك?
- ما الذي يمكن أن أقوله عندما تخبرينني بهذه اللهجة الحزينة أنك بالأمس حلمت بي?
هزت رأسها وقالت: أول أمس أيضًا حلمت بك. حلمت أن صقرًا كبيرًا يضرب نافذتي بجناحيه ويتطلع إليّ بغضبٍ وهو ينقر الزجاج محاولاً أن ينفذ منه, ثم جئت أنت فاحتضنك الصقر بجناحيه. صحوت من النوم وكنت أبكي.
لم أضحك ونكست رأسي.
قالت بهدوء: ماذا تفعل لكي يحدث هذا?
رفعت رأسي بدهشة وأنا أكرر السؤال: ماذا أفعل لكي يحدث هذا?
- نعم.
- أنت تعنين هذا السؤال? تعتقدين أنني يمكن أن أفعل شيئًا يجعلك تحلمين بي?
ضحكت آن ماري بعصبية ومدت يدها إليّ فأخذت كوب الشاي الفارغ, ثم قامت وخرجت.
خارج النافذة حط غراب على شجرة الأرز.
أخذ يطير متخبطًا بين الغصون وهو يبحث عن غصن لا يغمره الثلج, وحين وجده فرد جناحي حداده الأبدي وراح ينفضهما, ثم انكمش.
رجعت آن ماري, وأغلقت باب الغرفة. وقفت بجانبي ثم قالت: فيم تفكر?
- لو قلت لك, ستضحكين.
- إذن أرجوك قل. أتمنى أن أضحك.
- يحزنني أن هذا الغراب على تلك الشجرة تعيس. ويحزنني أن يكره الناس في العالم كله الغراب, مع أنني لم أسمع أنه آذى إنسانًا.
- تحزن للغراب, وتحزن لغادة الكاميليا?! ألا تهتم بأمرنا نحن البشر من لحم ودم?!
- كففتُ عن ذلك منذ زمن.
- أما أنا فيحزنني أن تنهزم في هذا العالم الرقة والحساسية, وأن ينتصر الشر. يحزنني أن تموت غادة الكاميليا لأنها أحبت وضحّت, ولكن يحزنني أيضًا أن أعلم أن في هذه الدنيا جوعى فقراء لا يجدون طعامًا ومرضى فقراء لا يجدون دواء, أو إذا وجدوا الدواء فإن الموت يخطفهم دون مسوِّغ. يحزنني الموت بصفةٍ خاصة.
- وكل ذلك كان يحزنني ذات يوم, وغيره كثير.
- ومتى فقدت اهتمامك بهذا كله?
- لا أذكر بالضبط. ربما منذ جئت إلى هنا. ربما قبل ذلك بقليل, وعندها قررت أن آتي هنا.
- وإذن فأنت الآن بم تبشّر? بالفناء, بالعدم?
- ولا حتى بهذا.
ظلت تتطلع فترة من النافذة في صمت, ثم قالت بلهجةٍ مختلفةٍ وهي تشير إلى شجرة الأرز:
- أظن أن هذه الشجرة في بلدكم.
فقلت: لا, ولكن في ناحيتنا.
قالت: بعد إذنك. يتعبني نور النهار الكابي الذي يشبه الليل. أفضّل الكهرباء.
ثم أسدلت الستار فأصبحت الغرفة شبه معتمة, لكنها ظلت تقف بجانبي ووجهها إلى النافذة, ثم قالت بصوت خافت:
- هل أنت واثق بأنك لا تستطيع مساعدتي?
مددت يدي, وأمسكت يدها القريبة مني. كانت باردة كالثلج, فأخذتها بين راحتي. انحنت وركعت على ركبتيها بحيث أصبحت تواجهني, وقالت بصوت خافت: من أنت? وما معنى هذه الأحلام? ولماذا تلازمني?
قلت: من أنت? ولماذا ظهرت في حياتي? وماذا تريدين مني?
اقتربت مني وهي تزحف على ركبتيها, ثم قبلتني في جبيني. كانت شفتها باردة كالثلج, فأمسكتها من كتفيها وقلت: ليتني أستطيع أن أساعدك. ليتني أستطيع أن أساعد نفسي.
ولكنها فجأة وبحركةٍ سريعةٍ جدّا وهي لا تزال راكعة أمامي, خلعت بلوزتها الصوفية وخلعت حمالة صدرها ودفعت نفسها في صدري وهي تحيطني بذراعين متشنجتين, وقالت: هيّا, إن كان هذا هو ما تريد, فهيّا. ها هو ذا السرير.
أبعدتُ ذراعيها عني بقوة, وخرج صوتي مختنقًا وأنا أقول: لا, ليس هذا هو ما أريد, ربما تكونين جميلة. أنت بالفعل جميلة, ولكني لم أركِ أبدًا أكثر من طفلة. ثم قمت, والتقطت بلوزتها الساقطة على الأرض وأعطيتها لها.
تناولتها من يدي وقامت فجلسَت على طرف السرير, ثم كوّمتها وأخفَت فيها وجهها وأخذت تبكي بعنف, وجسمها كله يرتعش وهي تردد: إذن قل لي.. قل لي أرجوك ماذا تريد? ماذا تريد?
- ما أريده مستحيل.
- ما هو?
- أن يكون العالم غير ما هو. والناس غير ما هم. قلت لك ليست عندي أفكار, ولكن عندي أحلاما مستحيلة.
- وما شأني أنا بذلك? لماذا أتعذب أنا?
- وكيف أفهم أنا? ما الذي أستطيعه? قولي لي وسأفعله. أتحبين أن أترك هذا الحي? هذه البلدة?
- هل سيساعدني ذلك?
- وكيف أعرف? إن كنت لا أفهم كيف أساعد نفسي, فمن أين لي أن أفهم كيف أساعدك?
مدت ذراعيها تبحث عن أكمام بلوزتها, ثم لبستْها ببطء وظلت لفترة تجلس على طرف السرير صامتة متهدلة الكتفين, ثم قالت بصوت خفيض: الآن فهمت كل شيء. نعم الآن أرى كل شيء, ولكن ما أشدّ هذا الحزن.
- ماذا فهمت?
قالت بنفس الصوت الخفيض: هذا سرّي.
ثم مدت يدها وهي لا تزال جالسة وضغطت زرًّا بجانب السرير, فأضاء الغرفة نور كالمفاجأة.
تطلعت إليّ وقالت: أرجوك أن تسامحني.
ثم حاولت أن تبتسم وهي تقول: في كل مرة أقابلك فيها, أضطر إلى أن أعتذر لك, ولكن أعِدك أن هذا لن يحدث بعد الآن.
كانت عيناها محتقنتين ولكن وجهها كان شاحبًا جدّا.
وعندما خرجنا من الغرفة كانت أمها تجلس في مكانها إلى المائدة وهي تقلب في ألبوم سميك الأوراق, ولما رأتني قالت بلهفة: تعال يا سيّدي, وجدت الصور.
توجهت نحوها. كانت صورًا قديمة. تلك الصور المائية التي يبدو فيها الداكن بنيّا والفاتح رماديّا. كانت لمعبد الكرنك والدير البحري والأهرامات, ولكنها أشارت إلى واحدة فيها رجل يجلس على سنام جمل يبرك على الأرض أمام الهرم. كان الرجل مستدير الوجه يلبس سترة داكنة, وياقة بيضاء. وكان يبتسم. وأمامه رجل يقف ممسكا بمقود الجمل, ويلبس جلبابًا ويبدو ذراعه النحيل من كم جلبابه الواسع. تطلعت إليه وإلى شاربه الذي يعلو فمه الواسع, إلى وجهه المقطب الحزين. كان يشبه أبي.
قلت للعجوز: هل آخذ هذه الصورة?
رفعت رأسها إليّ وقالت وهي تثبت نظرتها في وجهي دون أن تبتسم:
- أنا أفهمك. أفهمك تمامًا.
ثم أغلقت الألبوم فجأة وقالت: معذرةً. لا يمكن أن تأخذ هذه الصورة.
وكانت آن ماري تقف هناك, شاردةً, لا تتابع حديثنا, تعتمد بيدها إلى المائدة.
في الأسبوع الثالث ذاب الثلج, ولكن بقيت بعض أكوام منه كالرمل بحذاء الرصيف. وظلت الغيوم في السماء, وظلّ نور النهار ضعيفًا.
وفي هذا الأسبوع, قال لي فتحي بقلق إنني أزداد نحولاً يومًا بعد يوم, وإنني يجب أن أرى طبيبًا. قلت له إنه يستطيع أن يساعدني أفضل من أي طبيب لو شرح لي كيف أفهم هذه الدنيا. قال لي: طبيبك أنت ولكن لا تقاوم. قلت له: ليس هذا هو الكلام الذي يساعدني .. فهز رأسه في حزن.
استدعاني رئيسي في العمل أيضًا وقال لي الشيء نفسه. قال إن صحتي (بسيطة تمام), وإنه يمانع في إعطاء الإجازات هذه الأيام بسبب ضغط العمل, ولكنه لن يرفض إذا طلبْت لأنه لا يريد أن يفرط في. شكرته وقلت له إنني لا أحتاج إلى إجازة.
اتصل بي كمال مرة في منتصف الأسبوع وقال إنه يطلبني كثيرًا ولا يجدني, فأين أذهب في المساء? قلت: أخرج وأمشي. قال: في هذا البرد?! قلت: نعم.
لم تظهر آن ماري على محطة الأتوبيس في أي صباح.
ذهبت مرة إلى مكتب البريد قبل أن أتوجه إلى العمل, ولكنها لم تكن هناك أيضًا.
وحلمت بها ذات ليلة, وكانت في الحلم طويلة الشعر تجري على شاطئ بحر وهي خائفة وكأن شيئًا يطاردها. وعندما استيقظت كان العرق يغمرني, وكنت أشعر بشيء من الخوف.
قرب نهاية الأسبوع اتصل بي كمال في التليفون وكان منفعلاً. قال إنه فعلها. إنه فعلها أخيرًا واستراح. قال إنه كان يعتقد أن كل ما يشكو منه: الصداع, الأرق, الكوابيس, نوبات البكاء كلها ترجع إلى موجات الكهرباء, ولكنه كان مخطئًا. سألته: أي كهرباء? فقال: ألا تعرف أنه في هذا البلد توجد أعاصير كهربائية في أيام معينة تؤثر على المخ? قلت له: إنني لم أسمع بذلك. فقال: هذه حقيقة. ألا ترى أن كل الناس يتصرفون تصرفات غريبة? قلت له: إنني مندهش لأنني أراهم مع ذلك أذكياء في تدبير أمورهم, ناجحين في أعمالهم, أثرياء وصحتهم جيدة. فهل تصيب هذه الكهرباء أجزاء معينة من المخ وتترك أجزاءً أخرى? هل تصيب أناسًا وتترك آخرين? قال لي كمال وهو لا يزال منفعلاً: أنت تنظر إلى الأمور من السطح. كل هذه الأشياء لعب من الكرتون. البيوت العالية والمصانع الهائلة والطائرات السريعة والمقابر ذات التماثيل والأزهار, كل هذه لعب من الكرتون لا تخدع سوى الأطفال. انظر إلى الداخل ولن تجد سوى خرائب. انظر لمن يكلمون أنفسهم في الطرقات, لمن يجلسون في المقاهي يحدقون بنظرات كعيون الأسماك الميتة. انظر لهذه الوحدة والجنون والكراهية. ما الذي يرغمنا على ذلك? هذا الكون رحب ورائع, لكننا ندفن أنفسنا في جلودنا, تعمى عيوننا عن النعيم الحقيقي والفرح الحقيقي. فلماذا لا أفتح عيني? لماذا لا أفعل مثله? لماذا لا أقرأ الكتاب?
سألته ماذا سيفعل الآن, فقال إنه استقال من البنك وإنه ينوي أن يعود إلى مصر, وينصحني أن أعود معه. نبني بيتًا في مكان ما في الصحراء. خلفنا الخلاء وأمامنا البحر وفوقنا السماء. نعيش بعيدًا عن التكالب وعن الزحام وعن شجار الأطفال الدنيويين الذين لم يعرفوا نضج العقل المجرب ولا براءة العمر البكر. نعيش ما بقي من عمرنا فرحة حقيقية في ذلك النعيم السماوي.
شكرته وقلت له إنني أتمنى له السعادة التي يريدها وإنني سأفكر.
لم أنم جيدًا في تلك الليلة, وفكرت كثيرًا في آن ماري.
في الصباح, نزلت مبكرًا قبل موعد العمل وتوجهت إلى بيتها. كان الصبح قد بدأ لكن الشوارع كانت دامسة وأنوار الطريق لا تزال مضاءة.
رتبت كيف سأعتذر لذهابي في هذا الموعد المبكر: بحثت في مكتب البريد ولم أستطع الاهتداء إلى رقم التليفون في الدليل فجئت لمجرد أن أطمئن عليها. ولم أكن أعرف إن كان هذا السلوك يعد خارجًا أو مقبولاً في نظر أهل البلدة.
ضربت الجرس مرّة. لم يردّ أحد.
هل يحتمل أن تكون قد خرجت في مثل هذا الوقت المبكر? سافرت مع أمها بعيدًا? ما الذي يمكن أن يكون قد حدث?
خرج رجل من شقة مجاورة يحمل في يده حقيبة. تطلع إليّ بفضول, ثم أدار المفتاح في باب الشقة وتوجه إلى السلم, لكنه لما رآني أضغط الجرس مرة أخرى استدار وعاد إليّ, قال: أعتقد أن أحدًا لن يفتح لك. منذ ماتت الآنسة والمدام مريضة.
- الآنسة? من? كيف?
قال الرجل: ألا تعرف? ربما كان يجب ألا أقول لك, ولكن مادمت ستقابل المدام فربما يحسن…..
قلت مرَّة أخرى. آن ماري? كيف?
قال في حزن: الآنسة أنهت حياتها. من شرفة البيت.. في قلب الليل. كنّا……
ولكن في تلك اللحظة فُتح الباب. فتحته السيدة العجوز بثياب النوم, شعرها الأبيض مهوش حول رأسها, وعلى كتفيها المحنيتين شال أسود.
ولما رأتني صرخت صرخة واحدة ورجعت للخلف.
قالت: هل جئت الآن من أجلي أنا يا سيد? هل جاء دوري أيضًا?
ثم أمسكت مقبض الباب وتهاوت على الأرض فرمى الرجل حقيبته وأسرع إليها, وعدوت أنا. عدوت على السلم, وعدوت في الشارع, وعدوت في المدينة.
لم أذهب للبيت, لم أذهب للعمل, لم أذهب لمكان.
ولكني في المساء كنت في الفراش.
هل كنت نائمًا أم كنت مستيقظًا عندما خفق في الغرفة ذلك الجناح? وهل كان صقرًا أم حلمًا ذلك الذي رأيت? مددت يدي. كنت أسمع الحفيف, ومددت يدي. انبثقت أنوار وألوان لم أر مثل جمالها وحفيف الجناحين من حولي, ومددت يدي. كنت أبكي دون صوت ولا دموع, ولكني مددت يدي.
NoUr kasem
NoUr kasem
مساعد المدير
مساعد المدير

عدد المساهمات : 1954
تاريخ التسجيل : 08/09/2009
العمر : 36
الموقع : دمشق . . فلسطينية الأصل

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصص قصيرة لكتاب كبار  Empty رد: قصص قصيرة لكتاب كبار

مُساهمة  NoUr kasem الإثنين أكتوبر 04, 2010 1:26 am

مرحبا للجميييييييييع

بعتقد تذكرتو هذا الموضوع يلي بختارلكم فيه مجموعة من القصص لكتاب كبار

اليوم اخترتلكمهالقصة وبتمنى تنال اعجابكم


ليلة مثلجة
للبلغاري أنجل كاراليتشف
ترجمة: ميخائيل عيد

[color=black]لم يكونوا أطفالاً أذكياء، لهذا صنعوا رجلاً غير كامل من الثلج، بدلاً من الأنف غرزوا له قرناً من الفليفلة الحمراء، فراح يلهث مثل كلب الصيد، وضعوا على رأسه قبعة قديمة مبعوجة كي يتهوى دماغه، صنعوا له شاربين طويلين من صوف نسلوه من وسادة عتيقة مبقورة البطن. تهدل شارباه إلى الأسفل، وحين ذهب الأطفال ليبحثوا عن عينين رفع الرجل الثلجي يمناه وراح يفتلهما، صفق الصغار بأياديهم فرحين، دخلوا البيت وبعد قليل جلبوا كرتين صغيرتين من زجاجتي ليموناده مكسورتين ووضعوهما تحت جبينه على رأسه الأبيض ذي الشاربين، على الفور أبصر الرجل الثلجي. نظر حوله وتنهد:‏
-آخ، ما أجمل العالم!‏
جلب له الأطفال كل شيء. ألبسوه عِدلاً ممزقاً، لكنهم نسوا أن يحضروا له قلباً. كانوا أطفالاً لا يعرفون أنه كي تكون إنساناً يجب أن يكون لك قلب.‏
من الدار المجاورة ركض كلب موظف المدرسة. هولا يُحبُ الناس الجدد فاندفع وواجه الرجل الثلجي متحفزاً. نظر الرجل الأبيض، غير مبال، إلى الحيوان المحتدم، ولم يعره اهتماماً، وحين عضت أسنان الكلب طرف العدل انفجر، حرك يديه. انحنى وأخذ الرفش الذي جرف به الأطفال الثلج، وطرد الكلب. تبعثر الصغار خائفين محمري الوجنات، مثل طيور انقض عليها مفترس. ركضوا إلى البيوت الدافئة وشكوا لأمهاتهم. طوى الكلب ذيله، وعوى وانحشر في الصندوق الذي يرمي فيه صاحبه الكناسة، وهناك سكن. عاد الرجل الثلجي إلى مكانه. لبث ساكناً مثل خفير يقف حارساً لكنز ما، غمر الظلام الحوش الأبيض والبيوت المطمورة. ارتعشت أضواء. الأشجار تشبه عرائس الحكايات. هبت ريح باردة. اهتزت الأغصان ونثرت غباراً ثلجياً هشاً.‏
جاءت من العتمة عصفورة إلى الرجل الثلجي، ارتعشت في الثلج. رفعت نحوه عينيها وخاطبته:‏
-أوهن البرد جناحيَّ. انفصلت عن السرب وضيعت الطريق. عصفت فوق السهل المقفر عاصفة ثلجية، وزعقت زعيقاً قبيحاً أغصان الأشجار السود. بمكنسة جليدية من الأغصان المهشمة كنست العاصفة سربنا. تخلفت، ضيعت أولادي. لم أستطع الوصول إلى تلك الأرض، حيث تنبثق الآن براعم ندية، وتصخب الجداول صافية، بين المروج الخضر وتنحني السنابل في الحقول المصفرّة. أعطني دفئاً، إذا لم أضع رأسي على قلبك ولم أسمع نبضات دمك الإنساني فسوف أختنق.‏
قال الرجل الثلجي متأثراً:‏
-تعالي، ادخلي في عبي، اقبعي قرب قلبي!‏
بذلت العصفورة الموهنة قواها الأخيرة، ارتفعت إلى الأعلى واندست تحت العدل، مرتجفة أكثر إذ تسللت إلى الصدر الثلجي، في تلك اللحظة اختفت كل عذابات روحها العصافيرية. ارتعش جناحاها المتجمدان ثم سكنا. انفصلت أظافرها الصغيرة عن صدر الرجل الثلجي وسقطت ميتة على قدمي حاميها.‏
نظر إليها الرجل الثلجي وفكر عميقاً وغمغم- أعنتها جيداً!‏
وجاء ثانية كلب موظف المدرسة متحفزاً، عض العصفورة سريعاً واختفى في العتمة.‏
غرق الرجل الثلجي في أفكار غامضة فمشى نحو الباب. خرج. لاقته الريح وخطفت عدله عن كتفيه.‏
-لا أريد أن أمشي عارياً والجميع يرتدون ثياباً دافئة!‏
صاح الرجل الثلجي وطارد الريح. لحق بها وراء الأشجار، في حديقة لا بشر فيها، حيث توجد غزالة من الحديد تحفر الثلج بخطمها باحثة عن العشب الأخضر. علقت الريح الخجلى العدل المسروق على غصن وهربت بعيداً. تنفس الرجل الثلجي وأنزل ثوبه عن الغصن الجاف، وضعه على كتفيه ومشى على غير هدى. سار وسار، غاص في كومة من الثلج وكاد يعلق، حين دق جرس ساعة المدينة اثنتي عشرة دقة كان الرجل الثلجي خارج المدينة. كانت الريح قد كنست بمكنستها العملاقة الغيوم كلها وسطع القمر مثل زهرة عباد الشمس. رآه أول مرة هذا الرجل الأبيض فامتلأت عيناه دهشة، من هو هذا المتسكع السماوي الهادئ؟‏
صاح أحد من ورائه:‏
-ستقع قبعتك، هيه، يا صديقي!‏
ارتجف الرجل الثلجي والتفت. رأى كائناً غريباً على رجل واحدة مبسوط اليدين. وجهه مصنوع من قرعة فارغة، وعيناه مرسومتان، من غير مهارة، بالحبر.‏
سأله الرجل الثلجي:‏
-من أنت؟‏
-أنا الفزاعة في هذا الكرم.‏
-من تخيفين؟‏
-الطيور التي تنقر حبات عنب سيدي - صاحب الكرم الكبير.‏
-ما حاجة سيدك هذا إلى حبات العنب.‏
-ليملأ البرميل نبيذاً.‏
-نبيذ؟ أليس لدى سيدك ماء نقي بارد؟‏
-يفرح قلبه بالنبيذ.‏
تراقصت ابتسامة تحت شاربي رجل الثلج الاصطناعيين.‏
-ماذا، القلب؟ أنت تمازحينني، فهل لسيدك قلب وهو منذ زمان طويل يأكل خبز قريبه ويبدل حياته بحجارة، وسهام، وحراب، وبلطات، ودبابيس حرب، وسم، ورصاصات، وناسفات، وقنابل، ونار، وحبل؟ أرى أنك يا صديقتي، عبدة لسيد قاسٍ. تقفين على رجل واحدة كواحد من مشوهي حرب ما منسية، وتحرسين كرمه فلا تنقر منه عصفورة عاثرة الحظ ميتة. رأسك مصنوع من قرعة فارغة، لهذا لست أهلاً لأن ترفعي راية الحرية، لكن، اطلبي على الأقل، أن يزيدوا معاشك التقاعدي!‏
هزت الفزاعة رأسها حزينة:‏
-أنا لا أتلقى معاشاً تقاعدياً.‏
-لماذا لا تتلقين؟ يذهلني هذا الظلم. يجب أن تتلقي. ماذا تنتظرين؟ اجمعي رفاقك كلهم، أسسوا ((جمعية فزاعات البساتين وسواها)) انتخبوا ممثلاً لكم، خمسة أشخاص يحضرون دائماً وثلاثة أعضاء مندوبين بأجور شهرية. لاحقوا الحكومة. الحكومة ملزمة، يا فتاتي، أجبروها على أن تنفض كيس الطحين! الشعب الفقير سيدفع كل شيء! هاتي الآن معطفك، فأنا أخجل من حمل هذا العدل على ظهري. النصيحة التي أعطيتها لك تساوي معطفاً.‏
-لكن هذا المعطف ليس لي! إنه الميراث الوحيد لسيدي من والده الشيخ.‏
-ستنالين خمسة آلاف معاشاً تقاعدياً. ستشترين معطفاً من الفراء. لا أستطيع أن أراك في هذا المعطف الممزق. اخلعيه!‏
-سأصرخ مستنجدة! أنت لص!‏
صرخت الفزاعة لكنه أسكتها براحة يده.‏
توعدته الفزاعة العارية:‏
-هيه، سأحشرك في السجن!‏
-وداعاً، يا ايفانشو!‏
قالها الرجل الثلجي محركاً أصابعه واستدار نحو المدينة.‏
عند مفترق طرق قرب عمود كهرباء تقف فتاة عمياء، نور المصباح يذهب شعر الفتاة المشعث، لقد أخفت يدها اليسرى تحت شالها العتيق المنسوج، وبيمناها تشد على باقة من الأزهار الصناعية. علقت بأهدابها ندفات ثلج ممتلئات. عيناها لا وجود لهما. مغلقتان منذ زمن بعيد عن نور الحياة. على وجنتيها تلمع دموع متجمدة.‏
أنزل الرجل الثلجي قبعته وانحنى.‏
عرفت الفتاة أن رجلاً يقف أمامها، هي لا تراه لكنها تشعر بوجوده. تحركت شفتاها بخوف:‏
-اشتر زهرة يا سيدي!‏
نظر الرجل الثلجي إليها بإعجاب. كل شيء رائع في هذه المرأة: شعرها الذي جعله الثلج أشقر، الكتفان اللذان يذهبهما النور، الأهداب الطويلة السوداء، الدموع المنحدرة من عينيها الميتتين...‏
قال:‏
-أنت جميلة جداً!‏
ارتعشت الفتاة وابتسمت بمرارة:‏
-مثل جنية هرمة.‏
سألها الرجل بسذاجة:‏
-أين عيناك؟‏
أحنت الفتاة رأسها. ظل أزرق، مثل حزن عميق غطى وجهها. ضغطت يمناها على الأزهار الجافة. تنهدت. في تنهدها شوق مشتعل إلى ذلك العالم السحري الذي يصخب حول الناس، لكنهم لا يرونه، عرف الرجل الثلجي أن الفتاة عمياء.‏
فكر:‏
-الذين صنعوني وضعوا لي كرتين لا قيمة لهما أرى بهما.‏
وكي يعرف ما هو الظلام وضع راحة يده على عينيه. حل الظلام أمامه وانقطعت الحكاية. اقترب من الفتاة المتجمدة مد يده وبدأ يداعب رأسها مترفقاً.‏
همست الفتاة العمياء:‏
-لا أعرف من أنت..‏
-سأقول لكِ. أنا رجل ولدت من الثلوج التي تسقط مثل رحمة على الأرض الموحلة. أنا وليد خفة التفكير، وملزم بأن أخبرك بأنني لست إنساناً.‏
صرخت المرأة العمياء:‏
-ما دمت قد هبطت من السماء - فأنت حقاً إنسان غير عادي - لقد انتظرتك طوال حياتي. وأخيراً أتيت. عرفت أنك ستأتي. ستكون ضيفي الليلة. عندي غرفة صغيرة. هناك، عند النافورة، تتفتح الآن زهرتي الحية. هي منذورة لك. هل ستأتي لتقطفها؟‏
ابتسم الرجل الثلجي:‏
-لماذا لا آتي؟‏
لم تصدق الفتاة أذنيها، استضاء وجهها سعادة.‏
قالت، نافذة الصبر:‏
-فلنمشِ!‏
تأبطت ذراعه وسارا نشيطين في الشارع الخالي، كان الليل مثلجاً، لا نجوم، لكن أنوار المدينة كانت تلمع مثل أحجار كريمة غالية الثمن. الرجل الثلجي يسير غير مبال، لم يشعر بانفعال هذه الروح الأنثوية المتوحدة التي ترتطم مثل الغريق بالصخور وتريد أن تخرج إلى الشاطئ. لم يسمع كيف يدق قلبها مثل جرس عربة عرس. هو لا يعرف أن النجوم ليست أحجاراً كريمة.‏
في غرفة الفتاة كان الإناء الفخاري الصغير متشققاً، والزهرة الحية التي تحمي الروح من البرد منحنية على النافذة.‏
وضعت الفتاة يديها على كتفي الضيف الغريب.‏
-نحن وحيدان هنا، الآن تبدأ الحكاية. هل تعرف ماذا يفعل شابان حين يظلان وحيدين؟‏
وقربت شفتيها من شفتيه:‏
-أنت أول رجل يدخل غرفتي، آه، كم أنت بارد! هل الرجال جميعاً باردون مثلك؟‏
عانقها الرجل الثلجي، غير قاصد، لكنه لم يستطع أن يلتقط الارتعاش الحار في جسدها الأنثوي الفتي. أصابه دفء المرأة ابنة العشرين من عمرها بدوار غامض. دار رأسه. قالت الفتاة وهي تنفلت من حضنه:‏
-المكان هنا بارد جداً! سأشعل المدفأة أولاً. حين تتقد سوف نتعشى. قلبي يذوب انتظاراً. عرفت أنك ستزورني. لكل فتاة الحق في أن تسعد ولو ليلة واحدة في عمرها على الأقل، حتى وإن كانت عمياء. إلى أن تدفأ الغرفة - أرجوك أن تثب إلى الحانة المجاورة وأن تجلب زجاجة من النبيذ. في ليلة زفافي أريد أن أدق كأسي بكأسك. لم يرطب النبيذ شفتي من قبل.‏
خرج الرجل الثلجي مذعناً، عبر الشارع، ووقف أمام زجاج الخمارة المندّى. وراء الزجاج تلوح عشرات الزجاجات المرتبة. مثل طفل ساذج لمس الرجل الثلجي الزجاج، لكنه لم يستطع أن يأخذ أيّ زجاجة. أعاد الكرة مرتين وثلاثاً: ثم أرخى يديه عاجزاً.‏
ظهر رأس صاحب الحانة:‏
-ماذا جئت لتسرق أيها البطّال! انصرف من هنا سريعاً أو سأجلب المكشطة وأجلد ظهرك.‏
نظر الرجل الثلجي دهشاً إلى صاحب الحانة المغيظ ثم ابتعد مطأطئ الرأس. نسي، فجأة، الزجاجات والفتاة والحكاية. هو لا ذاكرة له. نسي الأطفال الأغبياء أن يضعوا له ذاكرة في رأسه.‏
دق جرس ساعة المدينة ثلاث دقات. وقف المتسكع الليلي في ساحة واسعة.. في طرف الساحة إنسان ضئيل منحن يجرف الثلج كالخلد ويكومه أكواماً.‏
سأله الرجل الثلجي:‏
-ماذا تفعل هنا أيها الجد؟‏
-أنا كنّاس المدينة -الوردية الأخيرة، أمروني أن أنظف الساحة كلها الليلة. انظر كم هي كبيرة!‏
نظر الرجل الثلجي إلى وجه الكناس المنحني ووخزه شيء يشبه الشفقة، ليس لدى الكناس معطف، كماه يتدليان مهترئين، يداه مزرقتان برداً، بلا قفازين، وشارباه متجمدان.‏
قال الرجل الثلجي:‏
-أعطني الرفش يا جداه، سأساعدك. أنا أكثر شباباً، يمكن أن يقال إني مولود حديثاً، سأعمل، أما أنت فاجلس كي ترتاح.‏
أعطاه الكناس الرفش. دار رجل الثلج القوي كالزوبعة، حافراً الثلج عميقاً. حمي فخلع معطفه ورماه. انحنى الكناس والتقطه عن الأرض وتلفع به. انطوى مثل كلب في ملاذ تحت إحدى النوافذ. قرفص، أما رجل الثلج فراح يعمل بالرفش بمهارة وبدأ يصغر. لقد حيره هذا الرجل - جرف الثلج ونظف الساحة كلها.‏
أعطاه الكناس الشيخ المعطف:‏
-البس، أنت متعرق وقد تتجمد.‏
لبس الرجل الثلجي المعطف وقال:‏
-هيا، وداعاً، أيها الشيخ!‏
سأله الكناس:‏
-إلى أين ستذهب. هيا معي لأقدم لك كأساً من الشاي. هناك في مكان قريب مقهى دافئ. كأس الشاي هناك يساوي ليفا واحدة. يقدمون قطعة سكر صغيرة، لكنها تكفي. اجتازا الساحة وانعطفا في شارع ضيق. دخلا المقهى. لا أحد في الداخل.‏
قال الكناس:‏
-فلنجلس قرب المدفأة. أين المدفأة؟ نظري ضعيف قليلاً، لا أرى شيئاً. أوه، الدفء شيء جميل! لا حطب في بيتنا- ننام على البارد، حياتنا قاسية.‏
قاده الرجل الثلجي إلى قرب المدفأة. جلسا في شبه ظلام. طلب الكناس كأسين من الشاي. حمل فتى ناعس الكأسين الحارين ووضعهما أمام الضيفين. رفع الشيخ كأسه بيد راجفة وبدأ يرتشف، خطف الرجل الثلجي الكأس الثانية وكان عطشاً، فشربها دفعة واحدة. أحس، على الفور، أن داخله كله اشتعل، لان رأسه، غامت عيناه، ثم انفصلتا وتدحرجتا على الأرض تحت الطاولة.‏
فكر الرجل الأبيض وقد بدأ يذوب سريعاً، ملفوحاً بالمدفأة وغاصاً بالشاي الحار:‏
-ماذا حل بي؟‏
الشيخ يرتشف ظامئاً ويفكر:‏
-كم من الناس الطيبين لا يزالون على الأرض! لولا هذا الصديق- لتشققت برداً. سأدعوه إلى النوم في بيتي إلى أن يطلع الصباح. يتسكع في الشوارع ليلاً: من يعرف: هل له مأوى هيا يا صديقي - صاح الكناس - أين ستمضي الليل؟‏
لم يجبه أحد. لقد ذاب الرجل الثلجي وصار بركة من الماء. قبعته ومعطفه بقيا على الكرسي. قرن الفليفلة الأحمر يسبح في البركة.‏
قال الشيخ بهدوء:‏
-لقد ذهب!‏
NoUr kasem
NoUr kasem
مساعد المدير
مساعد المدير

عدد المساهمات : 1954
تاريخ التسجيل : 08/09/2009
العمر : 36
الموقع : دمشق . . فلسطينية الأصل

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصص قصيرة لكتاب كبار  Empty رد: قصص قصيرة لكتاب كبار

مُساهمة  NoUr kasem الخميس أكتوبر 21, 2010 12:04 pm


الحية والحسون
جبران خليل جبران

قالت الحية للحسون:"ما أجمل طيرانك أيها الحسون! ولكن حبذا لو أنك تنسلّ إلى ثقوب الأرض وأوكارها. حيث تختلج عصارة الحياة في هدوء وسكون!"
فأجابها الحسون وقال:"أي وربي! إنك واسعة المعرفة بعيدتها، بل انت أحكم جميع المخلوقات، ولكن حبذا لو أنك تطيرين".
فقالت الحية كأنها لم تسمع شيئاً:"مسكين أنت أيّها الحسون!فإنك لا تستطيع أن تبصر أسرار العمق مثلي، ولا تقدر أن تتخطر في خزائن المماليك الخفية، فترى أسرارها ومحتواياتها، أما أنا فلا أبعد بك، فقد كنت في الأمس متكئة في كهف من الياقوت الأحمر أشبه بقلب رمانة ناضجة، وأضأل الأشعة تحولها إلى وردةٍ من نور. فمن أعطي سواي في هذا العالم أن يرى مثل هذه الغرائب؟".
فقال لها الحسون:"بالصواب قد حكمت أيتها الحكيمة، فلا أحد إلاك يستطيع
أن يفترش ما تبلور من تذكارات العصور، وآثار الدهور. ولكن واأسفاه،فإنك لا تغردين!".
فقالت الحية:"إنني أعرف نباتاً تمتدّ جذوره إلى أحشاء الأرض، وكل من
يأكل من تلك الجذور يصير أجمل من عشتروت".
فأجابها الحسون قائلاً"لا أحد، إلاك قد أهتدى إلى حسر القناع عن فكر
الأرض السحري. ولكن واأسفاه،فإنك لا تطيرين!".

فقالت الحية:"وأعرف جدولاً أرجوانياً يجري تحت جبل عظيم، وكلّ من يشرب من هذا الجدول يصير خالداً. وليس بين الطير أو الحيوان من اهتدى إلى ذلك الجدول سواي".
فأجاب الحسون وقال"بلى والله. فإن في منالك أن تكوني خالدة لو شئت. ولكن واأسفاة،فإنك لا تغردين!".
فقالت الحية: "وأعرف هيكلاً مطموراً تحت تراب الأرض، لم يهتد إليه باحث أو منقب بعد، أزوره مرة في الشهر، وهو من بناء جبابرة الأزمنة الغابرة. وقد نقشت على جدرانه أسرار جميع الأزمنة والأمكنة".

فأجابها الحسون قائلاً"بلى أيتها الحكيمة العزيزة،فإنك لو شئت لاستطعت
أن تكتنفي بلين جسدك جميع معارف الأجيال. ولكنك وا أسفاه، لا تقدرين أن تطيري".

فاشمأزت الحية إذ ذاك من حديثه، وارتدت عنه إلى وكرها وهي تبربر في ذاتها قائلة:
"قبحه الله من غرّيد فارغ الرأس!!!".

أما الحسون فطار وهو يغني بأعلى صوته قائلاً:
"واأسفاه، إنك لا تغردين! واأسفاه، واأسفاه ياحكيمتي، فإنك لا تطيرين!".
NoUr kasem
NoUr kasem
مساعد المدير
مساعد المدير

عدد المساهمات : 1954
تاريخ التسجيل : 08/09/2009
العمر : 36
الموقع : دمشق . . فلسطينية الأصل

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصص قصيرة لكتاب كبار  Empty رد: قصص قصيرة لكتاب كبار

مُساهمة  KhaLed AhMad aLsaYed السبت أكتوبر 23, 2010 2:39 am

الله يعطيكي الف عافية بجماليون ...الحقيقة دائما" موضيعك مميزة ......انا بصدد قراءة القصص
مع تقديري
KhaLed AhMad aLsaYed
KhaLed AhMad aLsaYed
المدير العام
المدير العام

عدد المساهمات : 246
تاريخ التسجيل : 08/09/2009

https://theater2010.ahlamontada.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

صفحة 1 من اصل 2 1, 2  الصفحة التالية

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى